العنوان عالم رباني فقدناه
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر السبت 11-أغسطس-2007
مشاهدات 22
نشر في العدد 1764
نشر في الصفحة 38
السبت 11-أغسطس-2007
لم تمنع حرارة يوم ٣٠ يوليو ۲۰۰۷م، والتي تجاوزت الخمسين درجة مئوية آلاف المحبين من جميع الجنسيات من التوافد على مقبرة الصليبخات لتوديع العالم الرباني الدكتور السيد نوح، بعد أن غادرنا يوم الإثنين 30/7/02007م بعد مرض عضال لم يغير من أخلاقه العالية، وسمته الذي يشبه سمت التابعين، رضي الله عنهم.
فقد زرته في المستشفى قبل وفاته بعشرة أيام، فوجدته راقدا على سرير المرض في مستشفى ثنيان الغانم، وقد منعنا من الدخول عليه، ففتحوا الباب وإذا بالمرض قد أخذ الكثير من وزنه وبالرغم من كثرة الأسلاك الموصلة بجسده، إلا أن الابتسامة لم تفارقه فرفع يده إليَّ مسلما علي، وابتسامة الإيمان تملأ وجهه الراضي بما كتب الله له..
لقد تعرفت على د. السيد نوح في دولة الإمارات منذ ما يقارب خمس عشرة سنة أو يزيد، وكان لقاء مشتركًا في محاضرة، ومنذ تلك اللحظة أيقنت أنني أمام عالم رباني يختلف تمامًا عن الكثير من علماء هذا العصر، ففي تلك المحاضرة سلم عليَّ بحرارة، وكأنه يعرفني منذ عشرات السنين، وفاجأني حينها بعبارة تدل على تواضع عظيم، عندما قال لي: أنا أستفيد من كتبكم، فقلت: أستغفر الله. من أنا يا شيخ حتى تستفيد من كتبي ... لم يقل ذلك مجاملة، بل قالها متجردًا من الألقاب والشهرة، والعلم، قالها لأن الفقيه الحق هو من تواضع للآخرين عن قدرة. فقد خرج الحسن البصري مع صاحبين له يتذاكرون التواضع فقال لهما: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلا.
كان - يرحمه الله - صاحب همة عالية، فلا تكاد تراه إلا وهو في شغل للدعوة إلى الله ما بين خطبة جمعة أو درس في مسجد، أو حلقة علم يديرها، أو إصلاح بين الناس، أو قراءة، أو بحث ينفع به المسلمين أو سفر لنشر دعوة الله تعالى حتى بعدما ذهب إلى الصين لزرع كبد جديد، وعودته للكويت، ما إن رأى من نفسه شيئا من العافية حتى نفض الغطاء عن جسده الواهن، وانطلق إلى مسجده وحلقته وطلبته ينير لهم طريق الحق...
قد ترى الكثير من الناس في حالات متعددة بين الابتسامة والعبوس، أو بين الضحك والبكاء، أو بين السخط والرضا ولكنني لم أرى السيد نوح يرحمه الله ولم ألقه يوما من الأيام إلا والابتسامة تملأ محياه، حتى في مرض الموت لم تفارقه الابتسامة، وكان إذا سأله أحد وهو في مرضه عن صحته، يقول: بخير.. الحمد لله..
لقد كان - يرحمه الله - سريع الدمعة غزير العبرة، شديد التأثر بكتاب الله تعالى، يقول أحد الذين صلوا يوماً بجانبه لقد سمعته يبكي بكاء شديدا عندما قرأ الإمام، ولم يتوقف أبدا من البكاء، حتى انتهت الصلاة، وطلبوا منه أن يقول خاطرة، فقام أمام الناس، وقال: لا كلام بعد كلام الله، ولا موعظة بعد مواعظ الله.. ثم انصرف، واكتفى بهذه الموعظة.
كنت نقلت له عتاب بعض الإخوة عليَّ لاختصاري لبعض المعاني في كتبي الدعوية، رد عليَّ - يرحمه الله: أنت اختصر ونحن نفصل.. ومن قرأ كتبه حقًا يستمتع بذلك التفصيل غير الممل والمليء بالعلم، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعة من أروع الكتب في السلوك والدعوة.. منها: كتاب «زاد على الطريق».. وكتاب «آفات على الطريق» وكتاب «توجيهات نبوية» والذي يلمس فيه القارئ غزارة العلم، من خلال فهم عميق للأحاديث النبوية، كيف لا وهو المتخصص في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان - رحمه الله ورضي عنه - إذا تحدث في محاضرة أو خطبة، يظن السامع أن المصحف مفتوح أمام عينيه يختار ما يشاء من الاستشهادات القرآنية دونما تلعثم أو نسيان، بل بسهولة وسرعة بديهة..
وكان المحتك به يحس كأنه تابعي جاء من ذلك الجيل وعاش بيننا إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع.. ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا لفراقك يا سيد لمحزنون.
وكما يقول أبو فراس الحمداني:
لا بُدَّ من فَقْدٍ ومن فاقدِ ... هيهاتَ، ما في الناسِ من خالدِ
نسأل الله أن يرحم فقيد الأمة الإسلامية رحمة واسعة، وأن يعيننا على الصبر والسلوان، وأن يلهم ذويه الصبر والاحتساب، وأن ينفعنا بعلمه الذي تركه وأخلاقه التي ربت جيلا من الأتباع والمحبين.. وأن يجمعنا وإياه على سرر متقابلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل