; عذاب الفرقة والخلاف مرض يفتك بالأمة | مجلة المجتمع

العنوان عذاب الفرقة والخلاف مرض يفتك بالأمة

الكاتب الشيخ محمد الغزالى

تاريخ النشر الثلاثاء 22-سبتمبر-1970

مشاهدات 53

نشر في العدد 28

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 22-سبتمبر-1970

فضيلة الشيخ محمد الغزالي كتب تفسيرًا في مجلة لواء الإسلام لما ورد في سورة الأنعام بشأن فتن الأمم، نقدمه للقارئ في محنتنا الخطيرة:

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ، لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. (الأنعام: ٦٥- ٦٧).

في الآية السابقة بَيَّنَ الله -جل شأنه- أنه بقدرته نجا من الهلاك وباعد عن الكروب، وفي هذه الآية يُبَيِّنُ أنه بقدرته يعاقب على الذنوب، ويؤاخذ الأمم بما اقترفت، والجمع بين هذه المتقابلات في سياق قريب هو قوله جل شأنه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (المائدة: ٩٨).

وقوله ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. (الحجر: ٤٩- ٥٠).

وتقليب الأمم والأفراد بين الخوف والرجاء أدب حكيم؛ حتى لا يغتر آمن، أو يجمح مؤمل!

وفي الآيات المذكورة إيماء إلى بطش الله بالأمم المفرطة، وإلى ألوان النكال التي يستطيع صبّها عليها، فهو لو شاء أغرقها أو أحرقها، ولو شاء زلزل الأرض من تحتها وخسف بها، ولو شاء قسمها أحزابًا يحقد بعضها على البعض الآخر، ويعد لها الويل والثبور وعظائم الأمور!!

ومما يلفت النظر أن افتراق الأمة شيعًا متناحرة كارثة اجتماعية، لا تقل في سوئها عن الكوارث الكونية المدمرة!!

إن الزلازل والبراكين قد تهيج حينًا فتدمر المدن والقرى، وتخلف ألوف الموتى والمشرّدين، بيد أن جراحاتها تندمل على مر الأيام، ويتعاون أهل الأرض على مساعدة المنكوبين، أما عذاب الفرقة فهو مرض يفتك بالأمة على مهل، وتبقى ضراوتها على اختلاف الليل والنهار، ولا يظفر المصابون به بنظرة عطف من أحد.

وقد تتبعت أحوال البلاد المنكوبة بالزلازل، فوجدتها أفضل من البلاد المنكوبة بالاختلاف وعبادة الأهواء.

والتحذير من المصائب الكونية تكرر في آيات أخرى، مثل: قوله جل شأنه: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ. (سبأ: ٩).
 وقوله: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (النحل: ٤٥)
ولكن الله في هذه الآيات هدد العرب بنوعين من العذاب إذا هم خانوا الإسلام ونكلوا عن اتباعه:

العذاب الكوني الذي يأتيهم من وراء الأسباب العادية.

والعذاب الذي يتولد عن فساد المجتمع، وشيوع الفوضى فيه.

وإذا كان كلا العذابين محذورًا، فإن النوع الآخر أشد وأقسى، والمعروف أن هذه الآيات نزلت بمكة، فهي تخويف مباشر لمجتمعات الجاهلية الأولى، وترهيب للعرب الأولين من الصدود عن الوحي الإلهي، ورفض الانقياد له.

وقد قلنا مرارًا أن العرب إن لم يجمعهم إيمان، فلن يجمعهم شيء آخر! وأن أسباب الفرقة المنتشرة بينهم قاضية على كيانهم لا محالة!

فلو لم يبيدوا بزلزال أو طوفان إبادتهم العداوات الداخلية التي تصدع شملهم وتفرق جمعهم، وتجعلهم ذيلًا لأمم الأرض الأخرى!!

وقد صدقت أحداث التاريخ بعد هذا الإنذار!

ومن المفيد أن نتعرف خصائص الأسلوب القرآني المعجز، فهو ينزل في عصر ما لسبب محدود، ولكن بناء الجملة يتضمن من المعاني ما يصلح لشتى العصور، ويؤدب الأمم آخر الدهر، فلو أن قرآنًا نزل في هذا الزمن، ما زاد حرفًا عن هذا الإنذار الموجه للعرب:

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام: ٦٥).

 وهذه الخصائص للبيان القرآني معروفة عند العلماء، ولعل منها ما روي عن ابن عباس قال: «قال رجل يا رسول الله: إني أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله، حتى نزلت: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» (الكهف:110)

هذه الآية من آخر سورة الكهف وهي مكية، ومواقف الجهاد إنما كانت في المدينة، واسْتُبْعِدَ أن تنزل الآية مرتين.

والواقع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يؤدب الرجل المتطلع إلى الظهور والشهرة، وأن يشعره بأن الرياء ضرب من الشرك، فتلا عليه آية نزلت من سنين طوال تتضمن في مزاياها هذا المعنى الجليل.

 ولا مانع بتاتًا من أن تكمن في القطع القرآني معان شتی تتكشف على مر الزمن. ولما كان الخطاب للعرب الذين رشحهم القدر الأعلى لحمل الرسالة الإسلامية فإن الله ينبه هذه الأمة المختارة إلى عواقب تكاسلها عن أداء واجبها، سواء في جاهليتها أو بعد إسلامها.

 ويؤكد ذلك ما رواه أحمد عن سعد بن أبي وقاص: سُئِلَ رسول الله عن هذه الآية: «قل هو القادر على أن يبعث...».

فقال: أما أنها كائنة، ولم يأتِ تأويلها بعد.

هل وقع تأويلها في الانقسامات التي أسقطت الدولة الإسلامية من عدة قرون؟ أم وقع تأويلها في الحزازات الباطنة التي تعوق عرب اليوم عن التجمع للنجاة من الخوف أيًا ما كان الأمر؟ فلا نجاة للعرب إلا في الإسلام، والتشبث بهذا الوحي.

روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض! وإنى سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم!

وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها- أو قال: من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا».

وهذا الحديث يفيد أمورًا ذات بال: أولها أن الله حقق وعده للأمة الإسلامية فمكن لها في الأرض، وبدلها من الخوف أمنًا، وجعل لها المكانة العالمية الأولى قرونًا عددًا، وبسط لها في الرزق فأودع في برها وبحرها من الكنوز الظاهرة والباطنة ما لا تملك نظيره أمة أخرى.

وثانيها: أنه جل شأنه لم يسلط عليها عذاب الاستئصال الذي أوخذ به المذنبون الأوائل، ومع أن طوائف من المسلمين ارتكبت المناكر الغليظة إلا أن الله أخذها مؤاخذة محدودة، ومنح الأمة كلها فرصة الخلاص من سيئاتها، واستئناف حياة أذكى وأشرف.

وثالثها: أن الأمة الإسلامية تستطيع أن تحتمي في ضمان السماء والأرض إذا هي اجتمعت على دينها وتمسكت بشريعتها، ويوم توفي لرسالتها فلن يستطيع الإنس والجن أن ينالوا منها قليلًا ولا كثيرًا، ولو تظاهر أهل المشارق والمغارب أجمعون على الكيد لها!!

والرابع: أن بلاء هذه الأمة من داخلها، فإذا تركت جراثيم الفرقة تنخر فيها وتوهي بنيانها فسيأكل بعضها بعضًا، وستبلغ من نفسها ما لا يبلغه أقسى الخصوم منهـا، وهذه الفرقة تجيء حتمًا مع ضعف الصلة بالله، ورفض الانقياد لشريعته والعودة للعصبيات الشخصية والقومية.

عندئذ يحصد المسلمون رذائلهم علمية وعملية، وانكسارات مدنية وعسكرية، ويعلم العرب أنهم يوم تركوا الإسلام فقدوا حياتهم وكرامتهم في العاجلة والآجلة، وتعرضوا لأهوال دونها ثوران الزلازل والبراكين!!

﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (الأنعام: 65)

 أي على هذا النحو من الإيضاح نبصر بالعواقب؛ کي يفقه من له عقل، ونحن نرى أن المسلمين قد بدأوا يثوبون إلى رشدهم، والشعور بالنقص أول مراحل التكمل، ولابد لدولة الإسلام من عودة أنضر وأكبر، إن شاء الله!

وفي الحديث «أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره» وكما قال صاحب المنار: أن آية استخلاف المسلمين في الأرض لم يتم عمومًا بعد! وهناك خبر: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق» (رواه الإمام أحمد).

ویؤیده ويوضح معناه ما صح عند الإمام مسلم من أن مساحة المدينة سوف تبلغ الموضع الذي يقال له «أهاب» أي أن مساحتها ستكون عدة أمیال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (ص: 88).
والحق أننا منذ عملنا تحت راية الإسلام وفي نفوسنا شعاع من هذه الآمال!!

﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ (الأنعام:66) الخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقومه هم القرشيون، إذ أن جمهرتهم جحدت الرسالة أول ظهورها.

 ويوجد اليوم ناس يزعمون أنهم عرب، يبسطون ألسنتهم في الإسلام بأساليب نابية جافية، يزعمون -قبحهم الله- أن العرب قادرون على النهوض بغير دينهم! وهيهات!!

 ونظم الآية يتناول السابقين واللاحقين أجمعين ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (الأنعام: 66)، أي: لست مسيطرًا عليكم، مكلفاً بإكراهكم على الحق الذي تجحدون

﴿ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (الأنعام:67) أي: انتصار الحق يستغرق مراحل متطاولة، وليس يتم في مجلس جدل، أو في مقال ينشر، أو في سلطة تنصيب، بل الأمر يحتاج إلى وسائل طبيعية وأيام متراخية، وتمحيص طويل، تنضج فيه المَلَكَات، ويُعْرَفُ الصادقون والغاشون، وقد بين الله ذلك في تلك الآية حتى لا يتعجل النتائج مؤمن ولا كافر.

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود!!
 ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتًا، ولم تضرب له يوما موعدا.

 والنبأ: هو الخبر الخطير الذي يهتم به الناس، واستقرار الخبر وقوع حقيقته وانقطاع الشك باليقين.

ووعود الله من هذا القبيل يستحيل أن تتخلف، وعلى صدقها يعتمد المؤمنون، ويواجهون اليوم والغد واثقين.

الرابط المختصر :