العنوان عرفات وأبعاد زيارته إلى لندن
الكاتب فهد العوضي
تاريخ النشر الثلاثاء 28-ديسمبر-1993
مشاهدات 12
نشر في العدد 1081
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 28-ديسمبر-1993
لم يكن الجميع متأكدًا من أبعاد وأسباب زيارة ياسر عرفات إلى بريطانيا في الرابع والخامس عشر من ديسمبر الماضي، وذلك ضمن جولته السريعة في بعض دول أوروبا، غير أن أصحاب الخبرة والمطلعين على خفايا الأمور كانوا يشيرون إلى أنها حركة دبلوماسية جيدة من عدة نواحي، فهي ستعمل على مستواها السياسي على طي صفحة الماضي المعروف مع بريطانيا- دولة الانتداب- الغابر على فلسطين، ومصدر وعد بلفور المشؤوم، وعلى مستواها الاقتصادي كذلك؛ لأنها ستفتح أبوابًا كثيرة ومجالات عديدة لتنفيذ مشاريع اقتصادية ضخمة، منها على سبيل المثال مشروع «الإذاعة الوطنية الفلسطينية»، التي يراد لها البث في أول شهر من السنة الجديدة.
إن الحاجة إلى الميزانيات الضخمة مفيدة أيضًا؛ لأنها ستمهد الطريق في استيعاب عودة النازحين في العام ٦٧ إلى الضفة والقطاع، واستيعاب عودة اللاجئين في العام ١٩٤٨م، ولكن وبعد كل هذا، يظل القلق البريطاني واردًا من نتائج الزيارة والمباحثات، خاصة وحكومة ميجور تجد أن التعامل مباشرة مع وفد فلسطيني متقلب ومنقسم على نفسه، وغير ثابت في تحركاته وأهدافه، أمر صعب يضعها في حرج سياسي هي في غنى عنه.
اللقاءات شملت الحكومة وقوى المعارضة:
تعتبر زيارة عرفات إلى بريطانيا حدثًا تاريخيًّا- كما يحلو لبعض رموز الوفد الفلسطيني وصفها- لأنها أول زيارة له على الإطلاق منذ ترؤسه لمنظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٩م، ولهذا فقد جاء برنامجه حافلًا ومزدحمًا بالمواعيد والزيارات المتبادلة.... فقد وصل عرفات إلى مطار هيثرو صبيحة الثلاثاء على متن طائرة خاصة، وكان في استقباله ممثل وزير الخارجية البريطاني دوجلاس هیرد، وبعض من السفراء العرب، وحشدٌ من الرموز والشخصيات العربية، بعدها بدأت جولته بالاجتماع مع وزير الخارجية هيرد، ثم حضور جلسة الأسئلة النيابية الموجهة إلى رئيس الوزراء جون ميجور، وذلك في مبنى مجلس العموم.
وقد علقت بعض الصحف البريطانية على زيارته للبرلمان بالقول: «يبدو أنها كانت زيارة جيدة للزعيم الفلسطيني كي يتعلم درسًا في الديمقراطية، ويعرف تمامًا كيف يتعامل مع معارضيه»، وقد التقى بعدها بزعيم المعارضة من حزب العمال جون سميث، والناطق باسم حزب الأحرار السير ديفيد ستيل، المعروف بتعاطفه الشديد تجاه القضية الفلسطينية.
أعقبت هذه اللقاءات الدبلوماسية احتفالات أخرى؛ حيث قام عرفات بتلبية دعوة السفير المصري في بريطانيا، بالإضافة إلى حفلة ثانية أقامتها «رابطة الجالية الفلسطينية في المملكة المتحدة».
في اليوم التالي الأربعاء ١٥ ديسمبر التقى رئيس المنظمة بأسقف كانبري الدكتور جورج غراي، وكردينال ويستمنستر الأب فنست برادي، وقد وصفت اللقاءات بأنها مثمرة ومفيدة على المستوى السياسي والاقتصادي والتراثي والحضاري، بعد ذلك عقد عرفات مؤتمره الصحفي والذي حضرته «المجتمع»، ودعت إليه وزارة الخارجية في مركز كوين إليزابيث.
عرفات: لا نريد أن نكون أسرى الماضي!
لم يكن المؤتمر الصحفي الذي عقده عرفات بحضور رئيس الدائرة السياسية في المنظمة فاروق قدومي «أبو اللطف» ناجحًا إلى حد ما، فلم تكن لغته الإنجليزية تسعفه في الرد على أسئلة الصحفيين المحرجة، بالإضافة إلى أن أجوبته كانت دبلوماسية أحيانًا لدرجة التهرب من الرد، وغير حكيمة أحيانًا أخرى لدرجة الغضب والصراخ والتشنج غير المرغوب في الدوائر السياسية والإعلامية الغربية.
وكان الحضور الإعلامي اليهودي ملحوظًا وعنيفًا في توجهه كذلك، فقد ابتدر أحد الصحفيين الإسرائيليين الفرصة فطلب من رئيس المنظمة أن يثبت للعالم أجمع أنه رجل جيد، ويمكن التعامل معه، وقد أغضبت مثل هذه الملاحظة عرفات الذي تشنج وصرخ بأعلى صوته: لا تنسى أنني صرت الآن رئيس دولة!! ورجلًا معترفًا به من أكثر من ۱۲۷ دولة، وأنا نائب رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي الفلسطيني، وعقب على رده بالقول: وإن كنت تراني إنسانًا سيئًا فهذا شأنك، وأنا أشكرك على ملاحظتكم، ولكن عليك أن تعرف بأن المسيح كان طيبًا، ولكنه لم يقنع جميع الناس، وقد كانت مثل هذه اللفتة مقصودة تمامًا لنيل عطف الشعب البريطاني المسيحي!!
وحول العديد من القضايا الحساسة التي لم تعالجها بنود اتفاقية غزة- أريحا بوضوح كقضية القدس والمعابر، أشار عرفات إلى أنه لا يزال يثير هذه القضايا وغيرها كثيرًا مع رابين، وعلق على أنه «من حق رابين أن يتكلم عن قدسه، ومن حقي أن أتكلم عن قدسي! ونفى عرفات في معرض حديثه أن يكون قد تخلى عن أحلامه الماضية- بصفته رئيسًا لمنظمة «التحرير»- ولكنه يتمنى وجود دولة واحدة فيها عدة كيانات مختلفة نتعايش فيها بسلام، كما هو حادث في كثير من الدول اليوم، وقال بأن هذا محقق عندما يكون «الحب من طرفين لا من طرف واحد»!
هذا ولقد حاول عرفات أثناء المؤتمر الذي كان يريد له الانتهاء بأسرع وقت للخلاص من أسئلة الصحفيين المحرجة، حاول أن يتهرب من بعض التساؤلات التي قد تضعه في حرج سياسي مع الدولة المضيفة-بريطانيا- أو مع الكيان الصهيوني، فقد استفسر أحد الصحفيين العرب عن زيارته المفاجئة إلى بريطانيا، وهي الدولة التي أعطت إسرائيل حق الوجود عام ۱۹۱۷ من خلال وعد بلفور؟ فأجابه عرفات باختصار شدید وابتسامة لم تساعد الحضور كثيرًا في فهم أبعاد الرد إلى أن «علاقتنا مع بريطانيا قديمة، ولا نستطيع أن نكون أسرى الماضي إلى الأبد»، وأبدى تفاؤله وتطلعه من إمكانية إقامة علاقات بريطانية- فلسطينية أساسها المساواة والتعاون المشترك في كافة المجالات، وقد افتخر عرفات بنفسه وبأنه رجل ديمقراطي ويقبل النقد، وذلك في معرض رده على من اتهمه بديكتاتورية القيادة، وانفراديته في أخذ القرارات، وقال بأن أولئك الذين ينتقدون سياستي من داخل المنظمة، يقولون للآخرين ومن حيث لا يدرون بأنني رجل ديمقراطي، وإلا لما استطاع أحد منهم أن يتكلم، ورفض عرفات في نهاية مؤتمره سياسة الوصاية أيًّا كانت، أو التدخل العربي أو الأعجمي «مشيرًا إلى إيران» في الشؤون الداخلية الفلسطينية، وقال وهو ينهض من مقعده بأنه كما لا تريد إيران من أحد أن يتدخل في شؤونها فدعها هي أيضًا لا تتدخل في شؤوننا.
تغطية الزيارة في الإعلام البريطاني:
لم تحظ زيارة عرفات القصيرة إلى بريطانيا- والحافلة بالبرامج كالتقاء رئيس الوزراء جون ميجور وغيره من رجالات الدولة- اهتمام الكثير من الصحف البريطانية، وذلك لأسباب منها انشغال الرأي العام الإنجليزي وقتها بقضاياه المحلية، وعلى رأسها القضية الأيرلندية والتطورات الأخيرة الخاصة بها، فضلًا عن أن شخصية عرفات ذاته، وموقعه السياسي الحالي غير الواضح المعالم لا يساعد كثيرًا في إعطاء الاهتمام به أبعادًا إضافية مميزة.
فصحيفة التايمز- على سبيل المثال- أفردت عمودين فقط في عددها الصادر بتاريخ ١٥ ديسمبر ۱۹۹۳م لتغطية زيارة عرفات إلى مجلس العموم، وآخر في التقائه بوزير الخارجية دوجلاس هيرد، وقد جاءت هذه التغطية بشيء من الاستهزاء أحيانًا عندما وصف رئيس المنظمة بأنه صاحب ابتسامة صفراء ومجمدة، وأشارت الصحيفة إلى أن زيارته للدول الديمقراطية مهمة له بالذات كي يتعلم فن وأصول التعامل مع الرأي الآخر، أما صحيفة الإندبندنت الصادرة في نفس اليوم فلم تسترسل هي الأخرى في كتابة التعليقات والتحليلات المصورة، أو إجراء الحوارات الخاصة بالزيارة ومحادثات السلام، وإنما اكتفت بعرض خاطف لبرنامج الزيارة.
من جانب آخر لم يستفد عرفات من الفرصة التي أتاحها له التليفزيون البريطاني، ولم يستطع أن ينسى أنه في بلد تعود شعبه على الحوار بدلًا من الغضب والتشنج، فقد التقت إحدى القنوات التلفزيونية به أثناء إقامته في فندقه، وأجرت معه حوارًا تضمن سلسلة من الأسئلة الحرجة، غير أنه بعد فترة قصيرة جدًّا وأمام كاميرا التلفزيون انفعل رئيس المنظمة بشدة متهمًا مذيع البرنامج بالتدخل في الشؤون الداخلية، وقام بعدها عرفات إلى غرفته غاضبًا، ولم يستكمل يستأنف الحوار.
أما صحيفة «الجويش كرونيكال» الأسبوعية، والخاصة بالجالية اليهودية في بريطانيا، فقد ركزت على استقبال عرفات لأهم رموز القيادات اليهودية في لندن، كاللورد روتشيلد، وجريفيل جارنر، وسيجموند سترنبيرج، وأكدت الصحيفة إلى أن الوفد اليهودي أكد على أهمية وضرورة أن تقوم المنظمة- وعلى رأسها عرفات- بالتنديد بالعمليات الإرهابية، وأهمية الحفاظ على أمن وأمان المستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، ولم ترحب الجالية اليهودية كثيرًا بلقاء الوفد بعرفات، واعتبرته شيئًا مشينًا لها، غير أن المتحدث الرسمي باسم الوفد قال بأنه يستطيع تفهم موقف الجالية الغاضب في بعض الأحيان، ويقدر أنه من الصعب أن ينسى اليهود كل ما حدث لهم خلال السنوات الماضية، وأفاد القول بأن الوفد لبى دعوة عرفات، وأكد عليه متطلباته وهواجسه.
وجهة نظر حماس في زيارة عرفات:
أكد السيد محمد نزال ممثل حركة حماس في الأردن خلال زيارة له إلى بريطانيا مؤخرًا، أكد بأن زيارة عرفات التي شملت معظم الدول الأوروبية جاءت لتوطيد العلاقات الأوروبية- الفلسطينية، ورفع الحصار أو «الفيتو» الذي كان مفروضًا على المنظمة قبل توقيع الاتفاق، والاعتراف بإسرائيل، وقال أثناء الحوار الذي أجرته معه «المجتمع» في لندن العاصمة بأن الزيارة لها أبعاد معنوية أعمق من الأبعاد المادية، فالاستعداد لتقديم مساعدات مالية جيدة يكاد يكون متعذرًا من الجانبين البريطاني والأمريكي، أو هو أمر ممكن في حالة تقديمه من خلال مؤسسات الحكم الذاتي مباشرة، وليس إلى عرفات نفسه، أو بهدف آخر وهو تمويل مشاريع معينة في الأراضي المحتلة، واعتبر نزال زيارة عرفات على الصعيد الإعلامي بأنها كانت فاشلة بسبب القصور الواضح في إدارة عرفات الإعلامية، وشخصيته الاستبدادية، ولغته الإنجليزية الركيكة، وقال بأن كل هذه السلبيات لم تساعده في تقديم وجه حضاري لدى الإعلام البريطاني الذي حاول أثناء الاتفاق تقديمه كذلك.
توقيت الزيارة:
لم يكن اختيار توقيت الزيارة موفقًا بتاتًا، فقد كان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة متوقعًا في ١٣ ديسمبر، وكان من المفترض أن يكون عرفات في هذا اليوم والأيام القليلة بعده مرابطًا في مكتبه- لا مسافرًا أو متجولًا في أنحاء أوروبا- من جانب آخر رجال السياسة في بريطانيا كانوا مهتمين وقتها بقضيتهم المحلية الأساسية، وهي قضية أيرلندا الشمالية، ولم يكونوا على استعداد لمباحثات إضافية أخرى خاصة بالسلام في الشرق الأوسط.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
بعد فشل عرفات في التفاوض مع إسرائيل: هل ستتفاوض إسرائيل مع حماس؟؟
نشر في العدد 1083
27
الثلاثاء 11-يناير-1994
وثيقة القاهرة: رابين يفرض.. وعرفات يرضخ.. والمنظمة تتحول إلى أداة في أيدى اليهود القاهرة: عبسين
نشر في العدد 1089
24
الثلاثاء 22-فبراير-1994