العنوان عنف وإقصاء واحتكار للحقيقة ونفي الآخر
الكاتب د.حسني الطنطاوي
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 15
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 30
الثلاثاء 18-مايو-1999
موضوع الغلاف
فظائع العلمانية في بلاد المسلمين
- لم تتوقف فظائع العلمانيين في المجتمع التركي عند التعذيب والإقصاء والقتل لمخالفيهم وإنما امتدت لاجتثاث الهوية الإسلامية فتم إلغاء الأذان باللغة العربية... وقوانين الميراث والأحوال الشخصية
- العلمانيون ملة واحدة.. عداء للشريعة والثقافة الإسلامية... وصفحات التاريخ مليئة بفظائعهم في كل بلد حكموه
- إينونو خليفة مصطفى كمال واصل الحرب ضد الإسلام بإصدار قوانين تعاقب من يرتدي العمامة أو يرفع الأذان باللغة العربية
- العلاقة وثيقة بين دخول العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية والهجمة الاستعمارية بل إن هناك أدلة كثيرة تؤكد أن الذين أدخلوها كانوا مأجورين من السلطات الاستعمارية
- باسم الدفاع عن العلمانية.. انقلب العسكر على الديمقراطية مرتين: ألغوا الأحزاب.. أعدموا عدنان مندريس رئيس الوزراء المنتخب وحاكموا أربكان وحرموه من العمل السياسي
في بلاد المسلمين علمانية لها العجب، لا تكاد تقف لها على معنى محدد أو رسالة واضحة، أو مبدأ ثابت، كالحرباء تغير لونها -بل معناها- بحسب الظروف. ولدينا علمانيون يحار المرء في أمرهم، يؤمنون بعلمانيتهم أول النهار، ويكفرون بها أخره، مثلهم كمثل عبدة الأصنام في أيام الجاهلية عندما كانوا يصنعون ألهتهم من «الحلوى أو العجوة»، فإذا ما شعروا بالجوع أكلوها. وصنعوا غيرها من المادة نفسها، أو مما تيسر من مواد أخرى.
علمانية عمرها في بلاد المسلمين مائة سنة أو أقل قليلًا، والمؤمنون بها منذ وفودها كانوا ولا يزالون أقلية فكرية، أو سياسية، أو عسكرية، أو خليطًا متحالفًا من هؤلاء جميعًا، ومصدر قوتهم الرئيس . كان ولا يزال كذلك - سيطرتهم على مراكز القرار بدعم أجنبي، وتسخيرهم لأجهزة الدولة الإدارية، والتنفيذية والثقافية، وحتى التشريعية والقضائية لخدمة أهوائهم والوصول إلى مآربهم.
والعلمانيون في العلمنة ملة واحدة، في مصر أو في تركيا، في تونس أو في جاكرتا، أو حتى في أسمرة هم سواء في عدائهم المعلن للإسلام كعقيدة وشريعة، والثقافة الإسلامية، وللمسلمين المتمسكين بدينهم أفرادًا وجماعات لا يختلفون في ذلك كانواز في الحكم أم المعارضة، من الليبراليين أم الاشتراكيين من المثقفين أم العسكر من الرجال أم النساء من المنتسبين إلى الإسلام بحكم الوراثة أم إلى غيره من العقائد والديانات، وفيما عدا العداء للإسلام فإنهم قد يختلفون، وقد يتقاتلون وما يقوله العلمانيون في بلادنا شيء، وما يمارسونه شيء آخر تمامًا، فهم يقولون إن العلمانية رسالتها العلم وأساسها العقل، وأهم أهدافها الحرية والتقدم واحترام حقوق الإنسان فضلًا عن المطالبة بتلك الحقوق والدفاع عنها. ويقولون أيضًا إنه لا يوجد أحد بمفرده يملك الحقيقة الكاملة، وأنه لا حق لطرف -أيًا كان- في إقصاء طرف آخر، أو في الحكم عليه بالحرمان من المشاركة في الشؤون العامة، أو من حرية الإبداع والمبادرة والحوار، ولا يكتفي العلمانيون بقول ذلك، بل يعطون الناس فيها دروسًا ومواعظ، ولكن كلما قلبنا في صفحات تاريخهم نجدها مليئة بما هو عكس ما سبق، وحافلة بما هو ضد العلم وضد العقل، ومع القمع والإرهاب الفكري وانتهاك حقوق الإنسان وممارسة الإقصاء والاحتكار عمليًا على المستويات الفكرية والثقافية والسياسية كافة.
ما الذي تفعله العلمانية في بلاد المسلمين؟
لن نقلب في صفحات التاريخ الأسود للعلمانية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهو مليء بالفظائع التي ارتكبتها السلطات العلمانية في كل بلد سقطت أجهزته في قبضتها، أو خضعت مؤسساته الفكرية والثقافية لهيمنتها، ولننظر فقط في وقائع فظائعها خلال السنوات الأخيرة ومن ذلك على سبيل المثال: في بلد عربي مغربي تم إقصاء الإسلاميين من ميدان العمل العام سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا على يد النظام العسكري - العلماني، وذلك في إطار ما يسمونه سياسة تجفيف المنابع التي تعني في عرف العلمانيين الذين ابتدعوها القضاء المبرم على كل توجه إسلامي من جذوره ابتداء من الحضانة وصولًا إلى الجامعة، ومن الأسرة إلى الحزب، ومن الزي.
وبخاصة الحجاب إلى الحرمان من الوظيفة، وقد مضى العلمانيون في تطبيق هذه السياسة حتى تبوأت حكومة ذلك البلد المسلم مكانة متقدمة في سجل التقارير الدولية التي ترصد انتهاكات حقوق الإنسان على مستوى العالم.
وفي بلد مجاور له، فاز الإسلاميون بثقة الإرادة الشعبية في انتخابات حرة لم يكن لها مثيل ولا سابقة في معظم البلدان العربية والإسلامية، ولكن المركب العسكري - العلماني المتسلط على هذا البلد أبي إلا أن يقهر إرادة الشعب، ويطيح بالديمقراطية، طالما أنها جاءت بما لا تهوى أنفسهم، وكانت نتيجة ذلك أن غرقت البلاد في بحور من الدماء والخراب والدمار.
ودخلت في نفق مظلم لم تخرج منه حتى الآن. وفي بلد مشرقي يمارس العلمانيون فظائعهم أيضًا، وإن كانت بشكل مختلف إلى حد ما، عما هو عليه حال قرنائهم في البلدين السابقين، حيث يركز العلمانيون على القيام بدور المحرض للسلطات ضد كل ما هو إسلامي مستغلين في ذلك سيطرتهم على مواقع إعلامية وثقافية وعلمية كثيرة، وكان أكبر نجاح لهم خلال السنوات الأخيرة هو استعداؤهم الدولة ضد جماعة الإخوان المسلمين من أجل إقصائها عن ساحة العمل العام، وحرمانها من المشاركة في التصدي للقضايا والمشكلات التي يعاني منها المجتمع، وكانت نتيجة هذا التحريض نصب المحاكم العسكرية للمدنيين، وفتح أبواب السجون والمعتقلات لتبتلع نخبة من خيرة الشباب، وتجميد كل مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات وأندية واتحادات طلابية، كانت هي وسائلهم لخدمة بلدهم والنهوض بمجتمعهم.
وهكذا إذا تتبعنا أفعال العلمانيين في مختلف مجتمعاتنا العربية والإسلامية سنجد أنه ما من مرة تمكنوا فيها من السيطرة على سلطة في حكومة، أو في مؤسسة أو حتى في مجلة أو صحيفة إلا وسخروها في خدمة الاستبداد والطغيان والدكتاتورية وإيقاع البطش ليس فقط بالحركات والتنظيمات الإسلامية، وإنما أيضًا لممارسة الإرهاب الفكري والاستئصال العضوي لكل ما يمت للاتجاه الإسلامي بصلة، بما في ذلك الأمور التي تعتبر في نظرهم شكلية مثل حجاب المرأة. لقد توزعت أفعال العلمانيين ما بين ممارسة القمع المباشر في الحالات التي استولوا فيها على السلطة، أو تحريض السلطة على ممارسة القمع واضطهاد الإسلاميين، وتبرير هذا الاضطهاد في بعض الحالات، أو التحالف مع الحكومات الدكتاتورية التسلطية في حالات أخرى.
فظائع العلمانية التركية: حالة مزمنة
في تركيا استطاع العلمانيون السيطرة على مقاليد الحكم، وسقطت في أيديهم كل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعسكرية فضلًا عن مؤسسات البيروقراطية المدنية، وذلك بشكل مطلق منذ نجاح الانقلاب الكمالي الذي ألغى الخلافة العثمانية وأعلن الجمهورية التركية في سنة ١٩٢٤م. ومنذ ذلك الحين يعاني المجتمع التركي المسلم من أشرس علمانية عرفتها مجتمعات العالم الإسلامي طوال هذا القرن العشرين، بدءًا بالإجراءات القمعية وعمليات التعذيب والإعدامات التي مارسها العلمانيون الكماليون ضد الذين عارضوا سياساتهم التي استهدفت قطع صلة الأتراك بالإسلام وبالعالم الإسلامي وبالشرق بصفة عامة، وصولًا إلى الاضطهاد المستمر الذي يتعرض له إسلاميو «حزب الفضيلة الذي خلف حزب الرفاه، بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية في سنة ١٩٩٨م قرارًا بحظره وإحالة عدد من قياداته إلى المحاكمة وعلى رأسهم نجم الدين أربكان لم تتوقف فظائع العلمانيين في المجتمع التركي المسلم عند حد التعذيب والإعدام لمخالفيهم، وإنما امتدت إلى أصول الهوية الإسلامية للأتراك وحاولت اقتلاعها، فتم تغيير اللغة العربية، وتحريم الأذان بها وإلغاء التعليم الديني، وتغيير قوانين الأحوال الشخصية وإباحة ما هو حرام شرعًا، وتحريم ما هو حلال، وكذلك فعلوا بأحكام المواريث فألغوها، وأحلوا محلها قوانين مخالفة لما جاءت به الشريعة، ولما يدين به المسلمون الأتراك.
علمانية الحديد والنار
لقد تمت تلك الفظائع في عهد مصطفى باتباع سياسة الحديد والنار، وعبر سيطرة حزب الشعب الذي أسسه ليفرض به سطوة العلمانية على البلاد العقود عدة متوالية تحت شعارات صارخة في إهانتها للجماهير ومنها شعار كان يقول للشعب بالرغم من الشعب، وهو شعار يعكس رؤية العلمانيين لذاتهم باعتبارهم أوصياء على الشعب، وأن الشعب قاصر وفي حاجة إلى وصياتهم.
وبموت مصطفى كمال في سنة ١٩٣٨م، ظن الشعب التركي أنه سوف يتنفس هواء الحرية الذي حرم منه في عهده، ولكن خليفته عصمت اينونو واصل مسيرته وخيب آمال الأتراك في العثور على متنفس يعبرون به عن حنينهم للإسلام، وجاءهم بفظائع جديدة عندما أقدم على إصدار عدد من القوانين في الفترة من سنة ١٩٣٨م إلى سنة ١٩٤٣م. كان منها القانون رقم ٤٠٥٥ لسنة ١٩٤١م الذي نص على معاقبة كل شخص يرتدي العمامة، أو يرفع الأذان باللغة العربية في جميع أنحاء تركيا.
وقد ظل حزب الشعب العلماني، يحكم بالرغم من الشعب، قرابة ربع قرن، إلى أن أجريت الانتخابات العامة تحت رقابة القضاء في سنة ١٩٥٠م، فسقط، وفاز منافسه الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس، الذي سعى - الأسباب متعددة من أجل أن يرد للشعب التركي شيئًا من هويته الإسلامية التي طمسها الكماليون، فأعاد مندريس الأذان باللغة العربية، وسمح بترميم بعض المساجد، وفتح مدارس لتخريج الأئمة والخطباء، وكلية للعلوم الإسلامية.
إعدام مندريس
وعلى الرغم من بساطة تلك الإجراءات وعدم تلبيتها لتطلعات الشعب التركي نحو استعادة هويته الإسلامية، وعلى الرغم من حرص عدنان مندريس على ألا تتجاوز إجراءاته الجانب الشعائري للإسلام، ولا تمس العلمانية التي يقوم عليها نظام الدولة، وتأكيده مرارًا وتكرارًا أن حزبه الحزب الديمقراطي يوافق فقط على المظاهر الدالة على احترام الإسلام في تركيا، ولكنه يعارض الأحكام الشرعية وعلى الرغم من ذلك كله لم تتقبل القوى العلمانية تلك السياسة التي تسمح بهامش ضيق من الحرية، وشن العلمانيون وبخاصة من حزب الشعب - الكمالي حملة مكثفة من التشهير ضد حكومة عدنان مندريس واتهموه بالرجعية وخيانة الكمالية، وتهديد العلمانية، وانتهاك دستورها، وقد مهدت تلك الحملة الطريق أمام دبابات الجيش ليقوم الكولونيلات بانقلابهم الشهير في سنة ١٩٦٠م باسم الدفاع عن العلمانية، وحاكموا عدنان مندريس رئيس الحكومة المنتخب، وعددًا من رفاقه، وقضت المحكمة العسكرية على ثلاثة منهم بالإعدام شنقًا، وتم تنفيذ الحكم فيهم وعلى رأسهم عدنان مندريس في سنة ١٩٦١م، وعاد حزب الشعب إلى السلطة ليواصل فظائعه العلمانية متمسحًا بالديمقراطية.
انبعاث إسلامي وإرهاب علماني
ومع صعود التيار الإسلامي بشكل متزايد خلال العقود الثلاثة الأخيرة زادت السلطة العلمانية التركية من إجراءاتها القمعية ومن فظائعها ضد هذا التيار ومؤسساته، بما في ذلك أحزابه السياسية التي تشكلت طبقًا لأحكام الدستور والقوانين المنظمة للعمل السياسي، ففي سنة ۱٩٧١م أصدرت السلطات قرارًا بحل حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان قبل ذلك بسنة واحدة، وكانت التهمة هي أنه مناهض لعلمانية الدولة، واستطاع أربكان أن يؤسس حزبًا جديدًا في سنة ١٩٧٢م باسم «حزب السلامة الوطني»، وشارك في الانتخابات البرلمانية سنة ۱۹۷٣م وحصل على ١١,٩ من الأصوات و٤٥ مقعدًا، ودخل في ائتلاف حكومي، ومع استمرار تنامي المد الإسلامي تحرك الجنرالات العلمانيون مرة أخرى وقاموا بانقلاب عسكري في سنة ١٩٨٠م، وتم حظر جميع الأحزاب السياسية، وتقديم قادتها للمحاكمة، بما في ذلك حزب السلامة الذي حوكم قادته أمام محكمة خاصة، وكانت التهمة الموجهة لأربكان هي مناهضة العلمانية وتعاليم أتاتورك. وقد عاد الحكم المدني مرة أخرى، وصدر قانون جديد للأحزاب في سنة ۱۹۸۳م ليعطي السلطات العسكرية العلمانية صلاحيات واسعة لتقييد حرية الاتجاه الإسلامي -بصفة خاصة- في مجال العمل السياسي، ومن ذلك ما نص عليه القانون من أن المجلس القومي التركي له صلاحية التحري والإعلان عن عدم صلاحية مؤسسي أي حزب من الأحزاب، و«أن يكون العمل الحزبي منسجمًا مع مبدا العلمانية، وعدم التطرق سلبًا أو إيجابًا إلى القيادات العسكرية. وعلى الرغم من ذلك استطاع أربكان أن يؤسس حزبًا جديدًا باسم الرفاه وشارك في انتخابات سنة ١٩٨٣م، ولقي تجاوبًا كبيرة، وتمكن من تشكيل حكومة ائتلافية في سنة ١٩٩٦م، الأمر الذي أثار حفيظة القوى العلمانية -من جديد- لتتأمر ضده، ولم تكتف بإطاحة حكومته فحسب بل استصدرت حكمًا قضائيًا بحظر الحزب وتقديم قياداته للمحاكمة بالتهمة نفسها وهي مناهضة العلمانية والسعي لتقويض التعاليم الأتاتوركية.
العلمانية ضد الفضيلة أيضًا!
إن الاستبداد العلماني ليس له آخر وطالما كان العلمانيون في مواقع السلطة والسيطرة على مؤسسات الدولة فلا مكان للإسلاميين، هذا هو الدرس الذي تؤكده الإجراءات الجارية حاليًا لحظر حزب الفضيلة -الذي خلف حزب الرفاه- بعد فوزه المتواضع في الانتخابات البرلمانية الشهر الماضي. فقد تقدم المدعي العام التركي بدعوى لدى المحكمة الدستورية اتهم فيها الفضيلة، بالعمل على تغيير النظام العلماني في تركيا، وطالب بحل الحزب، وعزل جميع نوابه البرلمانيين وإقصاء أعضائه عن رئاسة البلديات، وحرمانهم من ممارسة العمل السياسي، هكذا دفعة واحدة، وهكذا هي ديمقراطية العلمانيين لا تعرف سوى الإقصاء واحتكار السلطة، واضطهاد المخالفين. لقد قال المدعي العام ولا بد من استئصال حزب الفضيلة من جذوره، وذكر في حيثيات طلبه بحل الحزب أنه يحرض الرأي العام ضد الدولة بإشاعته أن منع ارتداء الحجاب يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان الحياة - لندن - ٨/٥/١٩٩٩م). تلك إذن هي القضية الكبرى التي تشغل بال العلمانيين «منع ارتداء الحجاب»، ويتخذونها ذريعة لمصادرة حرية العمل الإسلامي كله لا يختلف في ذلك النائب العام عن رئيس الوزراء أجاويد أو عن رئيس الدولة سليمان دميريل، ولا عن رئيس الجامعة الذي أصدر قرارًا بحرمان الطالبات المحجبات من حقهن في التعليم. وفي خضم مناخ هذا الإرهاب العلماني وممارساته القمعية، ضاع كثير من مصالح الشعب التركي، وتفاقمت أزماته الاقتصادية، وتدهورت مستويات معيشته وانخفضت قيمة الليرة إلى درجة لم يسبق لها مثيل، ويبدو أن مثل هذه القضايا الحيوية لا تهم العلمانيين بقدر ما يهتمون بملاحقة الفضيلة، ونزع حجاب الفتيات وطالبات العلم بالمدارس والجامعات. ومن الأدلة على ذلك حالة الهستيريا التي أصابت العلمانيين بسبب نائبة الفضيلة مروة قاوقجي مهندسة الكمبيوتر المحجبة التي خاضت الانتخابات العامة، وفازت بمقعد في البرلمان، لقد قامت قيامة العلمانيين لمنعها من حقها في ارتداء الحجاب أو حرمانها من أداء القسم الدستوري ومن ثم حرمانها من عضوية البرلمان، وقال المدعي العام إن عدم وجود مادة صريحة تمنع ارتداء الحجاب داخله لا يعطيها الحق في أداء القسم، وهي محجبة وسارع رئيس الدولة باتهامها بالعمل لحساب منظمة إسلامية متطرفة، وهي وزملاؤها الآخرون من أعضاء حزب الفضيلة.
وهكذا كما قلنا ليس للاستبداد العلماني من آخر، وليست له حدود يقف عندها طالمًا واتته الفرصة وكانت بيده السلطة همها الوحيد المحافظة على علمنة الدولة ولو كان ثمن ذلك التضحية بالمجتمع.
العنف والاحتكار والإقصاء أمور متأصلة في الفكرة العلمانية
إن التقليب في صفحات تاريخ العلمانية، يوضح لنا أن ثمة علاقة وثيقة بين بدايات دخولها إلى مجتمعاتنا الإسلامية وبين الهجمة الاستعمارية والغزو الفكري الذي تعرضت له هذه المجتمعات منذ أكثر من مائة سنة، بل إن ثمة أدلة كثيرة تؤكد أن الذين حملوا بذرتها الأولى وأدخلوها بلادنا كانوا مأجورين لدى السلطات الاستعمارية وبخاصة البريطانية والفرنسية.
كذلك فإن التقليب في أهم الأعمال الفكرية والثقافية للعلمانيين في بلاد المسلمين يوضح أن اهتماماتهم قد انطلقت دوما من منطلقات أيديولوجية أساسها ازدراء قيم المجتمع وتقاليده وعقيدته والتفكير نيابة عن الناس وفرض الوصاية الفكرية عليهم، وادعاء امتلاك الحقيقة ودمغ المخالفين بالجهل وإقصاؤهم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
صحيح أنهم دأبوا على القول إن العلمانية تعني فقط فصل الدين عن الدولة، في المجال السياسي وأنها في بقية المجالات دعوة للعلم أساسها العقل. وهدفها التقدم وإشاعة قيم التسامح والحوار والقبول بالآخر، ولكن متابعة أفعالهم تظهر لنا أنهم يمارسون خطابًا مزدوجًا له وجهان:
الأول هو الوجه الجميل الذي يؤكد على العلم والعقلانية والتسامح والقبول بالآخر، وذلك طالما كانوا بعيدين عن سلطة الحكم ومؤسسات الدولة.
والثاني هو الوجه القبيح الذي يظهر عندما تسقط سلطة الحكم في أيديهم ويسيطرون على مواقع التأثير في مؤسسات الدولة، وهو الوجه الذي تكشفه ممارسات العنف والاحتكار والإقصاء ونفي الآخرين الذين لا يشاركونهم الرأي ويختلفون معهم في التوجه وبخاصة من أصحاب الاتجاه الإسلامي الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من أبناء الأمة الإسلامية.
إن العنف واحتكار الحقيقة وإقصاء الغير ليست أمورًا طارئة أو عارضة يقوم بها العلمانيون على سبيل التجاوز، أو الخطأ الذي يمكن علاجه، وإنما هي أمور متأصلة ومتجذرة في عمق الفكرة العلمانية ذاتها، تلك الفكرة التي ينطلقون منها ويبنون رؤيتهم للعالم من حولهم على أساسها، وجوهرها هو نزع القداسة عن كل شيء واستباحته بكل الوسائل استغلالًا واستخدامًا وقهرًا وأنانية، العلمنة بعبارة أخرى هي إسقاط حرمة الدين والأخلاق والإنسان، وفكرة كهذه لا ينتج عنها إلا فظائع كتلك التي يرتكبها العلمانيون في بلاد المسلمين منذ مائة سنة وحتى الآن.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل