; فقه التقييم في الإسلام (۲ من ۲) حفظ المصالح واستكشاف المقاصد | مجلة المجتمع

العنوان فقه التقييم في الإسلام (۲ من ۲) حفظ المصالح واستكشاف المقاصد

الكاتب د. فتحي يكن

تاريخ النشر الثلاثاء 04-أغسطس-1998

مشاهدات 19

نشر في العدد 1311

نشر في الصفحة 66

الثلاثاء 04-أغسطس-1998

في العدد الماضي تناولنا الوقفات القرآنية مع التقييم والتقويم، وفي هذا العدد نسلط الضوء على تعامل السنة النبوية المطهرة مع هذه السنة الإلهية:

والسنة المطهرة تذخر بوقفات تقييمية صريحة وواضحة.

فعندما سرقت المرأة المخزومية وجاء أسامة بن زيد يشفع لها عند رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ لم يكن هناك حرج في تبيان ما حدث.

فقال: "أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟، ثم قام فاختطب بالناس أي خطب، ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها متفق عليه".

وتذكر السيرة أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قال يوماً لبلال بن رباح الحبشي يابن السوداء»، إثر شجار بينهما، وعندما سمع رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ قال لأبي ذر: أعيرته بأمه... إنك امرؤ فيك جاهلية، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع خده على الأرض وطلب من بلال أن يدوس عليه تكفيراً عن زلة لسانه.

ولقد عرضت السيرة المطهرة لحوادث التوبة والندم عن الخطايا والذنوب نتيجة محاسبة أصحابها الصادقة لأنفسهم، فها هو ماعز بن مالك الأسلمي يأتي إلى رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ فيقول: يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فرده صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ، فلما كان الغد أتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فأرسل رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرُجِمَ.

وفي السيرة أيضاً نموذج آخر من هذا النوع، نرى فيه المرأة الغامدية التي جاءت رسول الله فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني.

وعرضت السيرة النبوية لحديث الإفك الذي تعرضت له السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ولتفاعلاته ابتداء وانتهاء تلك الحادثة التي وقعت في الطريق التي سلكها الرسول صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ عائداً من غزوة بني المصطلق وتروي عائشة رضي الله عنها القصة كاملة، وبأن الرسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ بدأ يجافيها إلى أن علمت فيما بعد بحديث الناس عنها، ثم غادرت إلى بيت أبيها؛ حيث جاءها الرسول يخاطبها: يا عائشة، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس، فاتقي الله فإن كنت قارفت سوءًا مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده.. ولكنها أصرت على أنها بريئة مما يأفك الناس في أحاديثهم، وكانت ترجو من الله أن يري رسوله في المنام ما يثبت براءتها، ولكن تلك البراءة جاءت من العزيز الحكيم، فأنزل الله عزّ وجلّ فيها قرآناً.

وعرضت السيرة للهزيمة التي وقعت للمسلمين في مؤتة من غير تستر أو تمويه أو حرج.

وعرضت السيرة للإرباك والبلبلة التي حاقت بالصف الإسلامي بعد توقيع صلح الحديبية، والمواقف الصحابة رضوان الله عليهم، كما الموقف القيادة الإسلامية المتمثلة برسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ عندما استنكر الصحابة رضوان الله عليهم عودة المسلمين إلى المدينة دون دخول مكة وزيارة البيت الحرام، ولا زال عمر بن الخطاب رضيَ اللهُ عنهُ يتساءل أمام رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ: ألست رسول الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فيقول أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني وأمام هذا التقييم الواضح والجلي الذي توج بنزول الوحي على رسول الله صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ مبشراً بالفتح المبين، يقول عمر رضيَ اللهُ عنهُ: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيراً.

وعرضت السيرة لحادث المكلف بجباية أموال الزكاة يقتطع منها بدعوى الإهداء له، وما أشبه ذلك من وجوه استغلال المنصب والموقع.

إن الغاية من التقييم صيانة العمل من الانزلاق وحفظ المصالح وتنميتها، واستكشاف المقاصد ودروها أو العمل على درتها.

أما أسلوب ذر الرماد في العيون، وسياسة التبرير وقذف الكرة في ملاعب الغير، والتنصل من المسؤولية والالتفاف على الأخطاء والإصرار عليها، فهو غير سبيل المؤمنين، وغير طريق السالكين فضلاً عن الواصلين إلى مرضاة رب العالمين.

ولنذكر جميعاً أن بني إسرائيل لم تحل عليهم اللعنة إلا بسبب تعطيلهم لهذه السنة وإصرارهم على الضلالة وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (*) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78-79).

الرابط المختصر :