العنوان فقه المصالح الحائر بين أهله
الكاتب المستشار سالم البهنساوي
تاريخ النشر الثلاثاء 22-فبراير-1994
مشاهدات 15
نشر في العدد 1089
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 22-فبراير-1994
•بعض المفتين جنح بالمصلحة بعيدًا عن مقاصد الشريعة، بل جعلها تتعارض مع القرآن والسنة.
المصلحة لدى فقهاء المسلمين هي جلب النفع ودفع الضرر.
ولكن من الذي يحدد هذا؟
إن تحديد ما هو نافع وما هو ضار ليس متروكًا الأهواء الناس، وإلا كانت عاقبة ذلك الفتنة والفساد الكبير، فهذه المصالح تحدد طبقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية، وقد اتفق فقهاء المسلمين أن مقصود الشريعة من الخلق خمسة، أن تحفظ على الناس دينهم وعقلهم وأنفسهم ونسلهم ومالهم.
فكل ما يحفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يضر بها أو يفوتها فهو مضرة، ومفسدة «المستصفى ج ١ ص ٢٨٦».
إن البعض قد جنح بهذه المصلحة بعيدًا عن مقاصد الشريعة الإسلامية، بل قد جعلها تتعارض مع القرآن والسنة، من ذلك:
۱ - أعلن نفر من الإسلاميين الوقوف معطاغية العراق خلال فترة اعتدائه على الكويت وشعبها، زاعمين أن فقه المصلحة يبيح لهم ذلك، ومتناسين أنه لا مصلحة فيما يعارض الشريعة الإسلامية، فهذا المعتدي من البغاة الذين قال الله فيهم: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾(الحجرات:9).. كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة:2).
٢ - قام بعض العلماء على فترات متفاوتةبالإفتاء بشرعية الفوائد الربوية لمصلحة كاذبة خاطئة، هي أوهى من بيت العنكبوت.
أ - فقد أفتى الشيخ شلتوت بإباحة فوائد صناديق الادخار البريدية، بدعوى أن إدارة البريد لم تطلب الإيداع لديها، ومشروعاتها نافعة، ولكنه تحفظ على السندات، وأكد أنها من الربا المحرم؛ حيث تخلو من الالتزام بالربح والخسارة، وهذا البند هو الفيصل بين الربا والتجارة المشروعة، ونسي أن هذا السبب متوفر بالنسبة لمشروعات صناديق الادخار، فلا يوجد نص بالالتزام بالنتيجة المترتبة على الاستثمار من ربح أو خسارة.
ب - ادعى الدكتور الدواليبي أن الربا المحرم شرعًا هو الذي يبرم عقده مع المحتاجين للمال، أما إقراض أصحاب المشاريع لقاء فائدة فليس من الربا.
ج - وادعى غيره أن الربا المحرم هو ما كانت فوائده مركبة، حيث تزاد الفائدة عند حلول الأجل، وتتضاعف.
وقد تجاهل هؤلاء أن الله تعالى يقول: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾(البقرة:140)، فقد حرم الله الربا، وأحل البيع، فلا يجوز أن نفرق بين أنواع من الربا، ونقبل التحريم في بعضها، ونرد حكم الله في الأخرى، وقد أثبت الواقع العملي أن الربا هو السبب الرئيسي في الخلل الاقتصادي، قال بذلك كل من فيلسوف المذهب الرأسمالي «آدم سميث» وفيلسوف المذهب الشيوعي «كارل ماركس»، ومن يزعم أن التحريم في الربا يكون عند زيادة الفائدة بسبب التأخير في الوفاء بالقسط في موعده، يستدرك على الله- تعالى- الذي جعل للتوبة عن الربا شرطًا هو رد جميع الفوائد إلى المقترض سواء كانت بسيطة أم مركبة، فليس للمقرض سوى رأس المال، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة:278).
د. وفي صيف ۱۹۸۹ بدأ الدكتور الطنطاوي بإعلان تحليل الشهادات الاستثمارية الصادرة عن البنوك الربوية، ثم ظن أنه يملك وحده حق الفتيا الشرعية في جميع أمور الدين، وليس في جزئية هلال شهر رمضان فقط، وهو ما تختص به إدارة الإفتاء طبقًا لقرار إنشائها، وبهذه الصفة أعلن في نهاية عام ١٩٩٣ تحليل جميع الإيداعات في البنوك وقروضها، وأنه لا فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية.
إنه من نكد الدنيا على العلم والعلماء أن يدعى المفتي أنه لا يجوز لأي جهة شرعية أخرى أن تفتي في أمور الدين، أي ولو كانت مشيخة الأزهر، حيث أفتى الأزهر ببطلان أقوال كل من يفتي بحل شهادات الاستثمار أو غيرها من الاستثمارات في البنوكالربوية.
ومن نكد الدنيا أن يستند المفتي في فتواه إلى أن الربا في هذه الشهادات يصبح مهدرًا لو تغير اسم الفائدة إلى اسم آخر هو العائد، وكذا إذا تغيرت النسبة المئوية التي تدفع للمودع فتكون نسبة متغيرة تحت الحساب، ويتم تسويتها آخر العام.
مزالق الفهم لدى المفتين
لقد تجاهل المفتون أمورًا وتجاوز بها المفتي اختصاصه فنسى الآتي:
۱- نسى أن العبرة بالمسميات وليست بالأسماء والأشكال، فالتحايل على الأسماء لا يغير من حقيقة المسمى، فتسمية الفائدة بالعائد لا يرفع عنها صفة الربا، وكذا دفعها على دفعات متغيرة خلال العام لا يغير من صفتها الربوية.
وقد لعن الله اليهود الذين تحايلوا على ما حرمه الله بوسائل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه»، كما قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» (صحيح الجامع الصغير ٤٩٨٣ و ٤٩٧٧)، والجدير بالذكر أن لعن التحليل ليس قاصرًا على التحايل بالزواج الصوري للبائنة بينونه كبرى، بل الحكم عام في جميع صور التحليل والتحايل.
۲- نسي أن الذي يميز الربا عن البيع أوالمشاركة في الاستثمار هو مبدأ المشاركة في تحمل المخاطر؛ فإذا لم يتضمن العقد تحمل الأرباح والخسائر كان العائد ربا مهما أضفى عليه الناس من أوصاف وأسماء.
3- لهذا فتغير اسم الفائدة وتغير قيمتها، أو مواعيد استحقاقها ليس هو الفيصل بينالربا المحرم والاستثمار الحلال.
وقد اعتبرت القوانين الأوروبية أن تحمل أحد طرفي العقد التجاري الخسارة وحده، وإعفاء الطرف الآخر منها، نوع من شرط الإذعان، ويسمى شرط الأسد، ويبطل العقد.
4- أنه إذا أخذ المسلمون برأي هؤلاء الذين أفتوا بحل الربا، فيكونون قد أحدثوا في الإسلام بدعة كبرى، هي جعل خاصية التحليل والتحريم بيد المفتي أو غيره من علماء الدين، وهذه قد ابتدعها رجال الديانات السابقة، ونزل القرآن الكريم بإبطالها في آيات كثيرة منها قول الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (التوبة:31)، وإذا لم يعجب البعض هذا الفهم لهذه الفتاوى؛ فليحددوا للأمة ما هو إذن الربا الذي حرمه الله- تعالى- وأعلن الحرب على أصحابه، وحدد توبتهم بأخذ رؤوس أموالهم فقط.
فقه المصلحة الحائر بين أهله
إن الذين تمسحوا بفقه المصلحة في انحيازهم إلى طاغية العراق في احتلاله للكويت، والذين أحلوا الربا بدعوى المصلحة، لا يجهلون أن نسبية المبادئ فقه يهودي، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، وقد حكم القرآن بانحرافهم هذا في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:٧٥)، كما أنهم قد لا يدركون أن فقه المصالح هذا ليس فقها إسلاميًا، بل فقه أوروبي، حيث أسس مدرسته فيليب هيك خلال نصف قرن«۱۸۸۹- ١٩٤٣»، وكانت بداية هذا الفقه صحيحة، بأن يتحقق القاضي من القاعدة القانونية التي تطبقها، وأنها تعالج مصلحة من نوع المعروضة في القضية، ولكن انتهى هذا الفقه إلى النتيجة التي يأخذ بها من ذكرنا من المسلمين بأن يطوع الفقيه والقاضي النص التشريعي، ويطبق قاعدة تخالف النصوص بدعوى أن المصلحة ستتحقق في هذه القاعدة، وأن القانون ينبغي أن يصل إلى ذلك؛ لأنها القاعدة التي كان المشرع سينص عليها لو أنه توقع الحالات الطارئة للمستقبل.
وهذا الفقه يجوز في النصوص التي وضعها البشر لأنفسهم؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، وبالتالي يستساغ أن يقال ذلك، على الرغم أنه من القواعد القانونية لدى هؤلاء أنه لا إجتهاد مع النص.
ولكن النص الشرعي وهو القرآن الكريم وصحيح الحديث النبوي، فقد قال الله عنه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:4)، وقال: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾(فصلت:42)، مع الإشارة إلى أن القرآن الكريم وحي من الله بلفظه ومعناه، أما السنة النبوية فهي وحي من الله بالمعنىواللفظ من النبي- صلى الله عليه وسلم- ولو جاز جدلًا أن الفقهاء المسلمين غير ملتزمين بنصوص القرآن والسنة فيما يتعلق بالربا، وزعموا أن لهم الفتيا بما فيه مصلحة الأغلبية، فإن ما يزعمون أنه مصلحة هو من الظن الذي هو أكذب الحديث، فالخطر الذي ينتج ويترتب على التعامل بالربا لا ينحصر في الربا الذي يتم استغلالًا لحاجة الأفراد، فالربا الاستثماري والذي زعم البعض أنه لا خطر فيه ولا ضرر يحيط به، الخطر والضرر من عدة وجوه منها:
أ- تتغير أسعار صرف العملات خلال فترة الأجل، والتي تمتد لعدة سنوات قد تطول بدعوى التيسير في السداد، ومن ثم ترتفع العملة الأجنبية التي يلتزم المستثمر بالوفاء بها، وتختصر العملة المحلية والتي سيتم التحويل منها إلى الأجنبية، وهذه خسارة كبيرة تلحق بالمستثمر.
ب- كما تتغير أسعار المواد والسلع خلال فترة الأجل المذكور، فتخفض قيمتها عن سعر الشراء، وقد يلحقها كساد لاستحداث ما هو أنفع منها، أو أقل تكلفة؛ فيضطر المستثمر أن يبيع السلعة بأقل من ثمن شرائها، وهذه خسارة ثانية، وإذا لم يتمكن من بيعها فهذه طامة كبرى عليه.
جـ- تتضاعف الفوائد بسبب تخلف المستثمر عن السداد في المواعيد، وهذه خسارة ثالثة، فهذه بعض العوامل التي تضر بالمستثمر الربوي بسبب ما يسمى بتيسير السداد مع الفائدة مهما كان اسمها.
وقد تؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى إشهار إفلاس المستثمر سواء كان بنكًا أو فردًا، وقد أدرك العقلاء من المستثمرين هذه الحقائق بعد فوات الأوان، وعضوا بنان الندم على تصديقهم فتيا المفتين على مر العصور، وتركهم حكم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ضوابط المصلحة
إن فهم النص على أساس المصلحة ليس كلأً مباحًا لكل من هب ودب، فيفتي بما يظنهو أو غيره أنه مصلحة، فقد اتفق فقهاء المسلمين على أن ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية خمس منها:
۱- عدم معارضة المصلحة لنصوص القرآن الكريم.
۲- عدم معارضة المصلحة لنصوص السنة النبوية الصحيحة.
3- عدم معارضة المصلحة للقياس الشرعي.
٤- بعد توفر هذه الشروط يجب ألا تؤدي المصلحة إلى تفويت مصلحة أخرى مساوية لها أو أهم منها.
نرجو أن يكون هذا الإيضاح كافيًا، وبالله وحده نهتم ونتأيد..
اعتذار عن خطأ غير مقصود
ورد في العدد ۱۰۸۷ في عنوان موضوع «شهرزاد تستغيث العالم الإسلامي لمساندتها»، خطأ غير مقصود في إضافة عبارة «وتطالب العلماء بفتوى تجيز لها خلع الحجاب حتى تواصل دراستها».
وحيث أن هذه العبارة لم ترد على لسان شهرزاد، أو في ثنايا الموضوع؛ فإن المجتمع تعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود وتصحح العنوان.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الصحابة الكرام لا يُحبهم إلا مؤمن ولا يُبغضهم إلا منافق أو جاهل
نشر في العدد 2173
29
الثلاثاء 01-نوفمبر-2022
التفسير العلمي للقرآن.. هــل يتحقق الإعجاز القرآني بالإعجاز العلمي؟
نشر في العدد 12
32
الثلاثاء 02-يونيو-1970