; دراسات في السيرة.. فقه حديث نزول الوحي (الحلقة 31) | مجلة المجتمع

العنوان دراسات في السيرة.. فقه حديث نزول الوحي (الحلقة 31)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 15-فبراير-1977

مشاهدات 17

نشر في العدد 337

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 15-فبراير-1977

أولًا: لماذا كانت البداية بـ اقرأ؟

إن من أدق وأحرج مراحل الدعوات بدايتها، ذلك لأن بداية كل عمل تؤثر على خط سيره ونتائجه، فالبداية العشوائية الخاطئة تقود إلى نتائج خاطئة، والبداية السليمة تنتهي بمشيئة الله وتوفيقه إلى نتائج سليمة. وشاءت إرادة العليم الخبير أن تكون بداية ما أنزله الله على نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:1-5)

اقرأ القرآن مبتدئًا باسم الله، إنك لا تقرأه بحولك، ولا بصفة نفسك، ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحًا باسم ربك مستعينًا به، فهو الذي علمك ما لم تعلم، وعلم أمتك والبشرية جمعاء «بالقلم».[1]

ولعل الحكمة في تكرير اقرأ الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ عنه الوحي بسببه في ثلاث: القول والعمل والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث التوحيد والأحكام والقصص.[2] والقلم آية من مخلوقات الله -سبحانه وتعالى- وقد أقسم به فقال ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (سورة القلم: 1)

وهو أول ما خلقه الله أو خلقه بعد العرش على خلاف وبه يكتب الملائكة أعمال الخلق، وبالقلم تعلم الناس الكتابة.

قال اقتاده: «القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو.

وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا».[3]  

فالعلم إذن أول ما يحتاج إليه الدعاة إلى الله والعلم أول ما يبلغه الدعاة إلى الناس، ولقد كانت هذه الصورة واضحة عند سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فالبخاري في صحيحة خص هذا الموضوع بباب مستقل أسماه: «العلم قبل القول والعمل» واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (سورة محمد: 19). ففي هذه الآية أمر الله نبيه- والخطاب لعامة المسلمين- بالعلم أولًا ثم بالعبادة.

وحث القرآن الكريم على العلم ورفع الله مكانة العلماء العاملين، وبين -سبحانه وتعالى- أنه لا يعبد الله حق العبادة ويفهم الإسلام كما أنزله الله إلا العلماء. قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران: 18)

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر: 9)

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (المجادلة: 11)

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28)

﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (العنكبوت: 43)

﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (يوسف: 68)

﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (سورة النساء: 83)

﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (البقرة: 255)

ولقد بوأ الإسلام العلم هذه المكانة لأن المسلم لا يستحق صفة الإسلام إلا بالعلم، فالإيمان علم والعقيدة علم والعبادة علم, والذي عليه إجماع أهل السنة والجماعة أن بعض العلوم تعتبر معرفتها فرض عين على كل مسلم ومنها:

الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء.

والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، والاعتقاد بالبعث بعد الموت، وأن الكافرين خالدون في جهنم، والمؤمنين خالدون في الجنة.

وعلى كل مسلم أن يكون عالمًا بالطهارة وكيفية الصلاة وشروط الزكاة وكيفية الحج والصوم، لأن كلًا من هذه الأركان فرض عين والعلم بكيفية أدائها فرض عين كذلك، والعلوم التي هي فرض عين شملها الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:

«بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان». رواه مسلم

والعلوم الأخرى كالتعمق في دراسة الحديث والتفسير والفقه والتوحيد، وكل علم يحتاجه المسلمون: كدراسة اللغات الأجنبية والطب والهندسة والفلك والسياسة والاقتصاد. فهذه العلوم كلها فرض على الكفاية فإذا قام بها قائم سقط فرضه على الباقين. والدليل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (سورة التوبة: 122)

والدعاة إلى الله عليهم أن يقبلوا على طلب العلم باسم الله وفي سبيل الله، وأن يعملوا بعلمهم، والله سبحانه تعالى قرن العمل مع العلم فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (البقرة: 82) وما لم يصاحب العلم تقوى ونية خالصة وعمل صالح يكون وبالا على صاحبه.

فليس من العلماء إذن من يطلب العلم ويحصل على الشهادات العالية- لا سيا والشهادة مرض عضال عند كثير من طلاب العلم في هذا العصر- من أجل الوظيفة ومتاع الدنيا.

وليس من العلماء من يطلب العلم ليفاخر به الناس به، ويجمع المؤيدين حوله فيمتلئ غرورًا وكبرياء.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار».[4]

وليس من العلماء من يرد مجالس أصحاب السلطان، فيداهن إليهم وينتفع منهم ويسهب في الثناء عليهم ورحم الله من قال:

ولم أقضي حق العلم إن كان كلما                      ***                      بدا طمع صيرته لي سلما

ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم                          ***                     ولو عظموه في النفوس لَعَظّما

وليس من العلماء الذين سقطوا في أوحال الرجس، وغرقوا في لج الشهوات، وعاشوا حياتهم في ازدواجية نكدة، فهم على المنابر يهزون المشاعر ويذرفون الدموع، وفي خلواتهم المعاصي والدنايا والآثام.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جريء وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم وقرأت ليقال هو قارئ ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار». رواه مسلم

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة».[5] يعني ريحها

والمصدر الذي نأخذ عنه العلم: الكتاب والسنة وليس قول فلان ولا رأي فلان، فالدليل العقلي لا قيمة له أمام النص الثابت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعندما انصرف ناس من المسلمين عن الكتاب والسنة، سهل على أعداء الإسلام أن يضعوا السم في الدسم فأدخلوا شرقيات المجوس وفلسفة اليونان إلى التصورات الإسلامية، عندئذ كثرت البدع وانتشرت الخرافات وتفشت الزندقة والإلحاد.

وجاء في هذا العصر من يقدس العقل ويفتي بالرأي. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». حسنه الترمذي, وقال أيضا: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». متفق عليه

ووصف عمر بن الخطاب أصحاب الرأي فقال: «إن أصحاب الرأي أعداء السنن عينهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم. [6] 

ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قدوة للمسلمين في علمه وبيانه وأسلوبه، وكان معلمًا لأصحابه، دخل بهم مدرسة الأرقم يربيهم على التوحيد والعبادة الخالصة لله وكان يختار رسله وأمراءه من السابقين الأولين أولي العلم والمعرفة. اختار مصعب بن عمير فأرسله إلى المدينة ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وعمرو بن حزم على نجران.

وكان عمر بن الخطاب يقول: «إنما بعثت عمالي إليكم، ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم».[7]  

فالوالي أو الإمام كان يصلي بالناس ويخطب فيهم ويعظهم، ويقيم فيهم الحدود، لذلك اشترط العلماء فيه شروطًا أولها العلم، وأقل ما يكفيه من العلم أن يبلغ مرتبة المجتهدين.

واختلف العلماء في مقدار هذا الاجتهاد. [8] 

وينطبق هذا الشرط على الذين يقودون دفة العمل الإسلامي، لأن عملهم هذا قائم على معرفة الأحكام الشرعية وسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. والإلمام بالأحاديث النبوية، وقدرتهم على الفتيا في كل أمر يعرض عليهم.

وويل لأمة يقودها جهالها وينحرف علماؤها قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» أخرجه الستة

من أجل هذا كله كانت بداية الوحي:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق:1-5)

والعاملون إلى الله- اليوم مطالبون بأن يلزموا أنفسهم بمنهج علمي يحقق لكل فرد منهم الإحاطة التامة بالعلوم التي هي فرض عين على كل مسلم كالعقيدة والفقه ويساعدهم كذلك على متابعة البحث في القرآن وعلومه والحديث، وتقصي الدليل العلمي حتى يعبدوا الله على بصيرة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».

وفي غيبة المنهج العلمي طغت في الساحة الإسلامية أفكار ومبادئ شاذة: فمبادئ ينادي أصحابها بتقديس العقل وتعظيمه، ومبادئ يكفر أصحابها الناس بدون دليل قاطع سوى طفرة الحماسة المتقدة عند حملتها، وآخرون يدعون إلى الله بأسلوب سياسي ومن غير تربية وإعداد، بل بالإقناع العقلي والوعي السياسي، وهذه نماذج من فرق إسلامية كثيرة وشاذة في هذا العصر.

ولا ننكر أن بعضهم يعتقد أن الحق معه، وعن صدق وإخلاص نهض بهذه الدعوة، ولكنه ضل الطريق الصحيح لأن التصور الإسلامي ليس واضحًا أمامه. وعندما يربي الدعاة الناشئة على المنهج العلمي الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعد أي مبرر لوجود مثل هذه الفرق المتطرفة التي سبق أن أثرنا إليها.

والعاملون إلى الله مطالبون أيضًا بأن يتأسوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي علمه وأدبه ربه، وكان أمينًا في تعليم وتربية أصحابه طوال حياته وتركهم على المحجة البيضاء، وحذرهم من إسناد أمر الدعوة إلى رؤساء جهلة يفتون بغير علم فيضلون الناس عن منهج الله. ويجمعون أتباعهم على ذواتهم وأخطائهم وهم بعد ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

[1]  الروض الأنف للسهيلي: ٢/٣٧٩

[2]  المواهب اللدنية: ١/٢١٢

[3]  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. تفسير سورة العلق

[4]  أخرجه ابن ماجة من حديث جابر بإسناد صحيح. حاشية العراقي على أحياء علوم الدين: ١-٥٩

[5]  أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحة من حديث رواه أبو هريرة. جامع بيان العلم وفضله للقرطبي: ۲۱۳

[6]  المصدر السابق: ٢-١٦٤

[7]  السياسة الشرعية لابن تيمية: ٢٣

[8]  أنظر كتاب: النظريات السياسية الإسلامية للدكتور محمد ضياء الدين الريس: ٢٤٥

الرابط المختصر :