; في الذكرى العاشرة للشهيد سيد قطب- رحمه الله | مجلة المجتمع

العنوان في الذكرى العاشرة للشهيد سيد قطب- رحمه الله

الكاتب أبو تميم

تاريخ النشر الثلاثاء 07-سبتمبر-1976

مشاهدات 11

نشر في 316

نشر في الصفحة 34

الثلاثاء 07-سبتمبر-1976

بهدوء تام مرت الذكرى العاشرة لصاحب الظلال.. مرت وقد غادر الشهيد سيد قطب حياة الفناء إلى دار البقاء. ولم تتكلم صحف العالم الإسلامي... ولم تذكر.. ويكفيه أنه يحيا في الذكر الخالد المقيم.. ذكراه العاشرة تمر... ولا أحد يدري تاريخ وفاته أو قتله.. أو يتذكر الجريمة البشعة التي عجلت بهذا الرجل العظيم... وصمت آذانها كل قوى الطغيان حتى لا تسمع صوت الضمير العالمي يدعوها إلى وقف قرارها الآثم.

ومن ثم فقد سارت على عجل في تنفيذه.. وذهب الشهيد إلى رحمة ربه.. فرحاً مسروراً.

*هل نحتاج ونحن نتحدث عن بعض جوانب حياته أن نستعرض حياته منذ البداية أظن أن لا.. فقد عرفه الناس بعد أن أسدوا إليه الشهادة.. حتى لم يبق ممن لم يسمع عنه إلا الذين شغلتهم أمور عن دينهم لم تدع لهم من الوقت ما يجعلهم يسمعون أو يودون السماع.

لا علينا.. من كل هذا.. ولكن- سيداً قد جاء للناس وقد ذهب، عرفه من عرفه. 

وجهله من جهله.. ومضى كما يمضي كل إنسان.. وكما هي سنة الله تبارك وتعالى.. ولكنه قبل كل هذا.. فقد ترك آثاره وخلّف وراءه فكراً يعز على من خلفه أن يتركه فقد نشط لـه المخلصون فأذاعوه.. ورن اسمه حتى فتح أفهاماً غافلة وقلوباً ران عليها سهو عميق.

كانت حياته بيداء يخادع فيها السراب كل راحل وقاطع.. عاشها وعانى فيها ما عانى.. كانت فترة شبابه فترة انتعاش لعصره. أو بداية تمزق لحجب الظلام الكثيف وألقى بنفسه في معترك الحياة الزاخر. وعصر أيامه عصراً وبنى قصراً من الآمال.. وكان طموحه بعيداً إلى آفاق رحبة واسعة، ولكنها كما قلنا.. بيداء. أسلمته إلى طريق مجهولة، أوصلته إلى شاطئ مجهول. 

تلفت حواليه فوجد أن الدنيا تموج موجاً بالأفكار والعقائد والتحديات، ولكن رنة القرآن في قلبه كانت تتردد أصداؤها.. وتبعث في قلبه بين الفينة والفينة شعوراً غامضاً غريباً.. شهد نشاطاً في أيامه وحركة جرفته معها، ولكنه كان يرجع إلى أيامه الخوالي.. يتذكر أيام أن كان- طفلاً في القرية- تعبث به أوهامه وتحمله إلى أفكار تخيل إليه أنه سامق الفكر والفهم.. فيصرخ ويذيع أيامه وعبقريته.

ولكن حياة الإنسان تبقى في يد القدر. لا يستطيع أن يغيرها بشر لأن إرادة الله عز وجل لا تدانيها قوة بشر ولا تجاريها.. فقد كانت مصر تنهض للإسلام.. وكان الدعاة في ازدياد كل يوم.. وكان الإمام الشهيد حسن البنا يجول في قرى مصر.. يبصر الناس ويدعوهم.. يجلس إلى الدهماء والسوقة.. كما كان ينصح أرباب الثقافات العالية وحملة الشهادات.. وكان يمس قلوب هؤلاء وعقول الآخرين وقلوبهم.. وجاء الدور على قلب سيد -رحمه الله-. فاهتز.

إلى أمريكا:

كانت حياته كما قلت تتأثر برنة القرآن في قلبه.. فلم ينقطع عن تذكر حياته الأولى وهو قابع إلى جوار أمه وهي تستمع إلى قارئ القرآن يتلو في بيتهم وهي تتمتم بعبارات لا يفهمها الصغير.. ودون هذه العبارات في مقدمة كتابه- التصوير الفني في القرآن- ولم يبتعد عن حياته الدينية عندما سجل كتابه- مشاهد القيامة في القرآن- بل أكد فكره.. وهو غير ملتزم- بكتابه- العدالة الاجتماعية في الإسلام-.. وجاءت مرحلة انتقال جديدة.. وترك وطنه ليتفرغ لدراسة المناهج الأمريكية وتطبيقها في مصر.. فمصر تريد أن تسارع إلى النهضة عن طريق هذه المناهج.

ولكنه لم يرتح إليها.. عاصر حياة الجاهلية.. بكل صورها وبكل تصوراتها وعاد أشد ما يكون نقمة على ما يذهب إليه.. وسجل مذكراته في كتاب أسماه- أمريكا التي رأيت- وسمعنا عن الكتاب واطلعنا على بعض فقراته.. ولكنه لم ير النور. فليس لمثل هذا الكتاب أن يظهر فهو وثيقة دامغة لكل نظم الحياة في المجتمع الجاهلي الذي يريدون نقله إلى مصر.

أدرك سيد قطب بعد هذا أنه يقف على هوة.. قد تستحبه في بطنها وتدفنه رمالها، ولكنه تيقظ فجأة.. وسحب نفسه.. وعاد بفكره إلى حياته التي تقوده إلى المقام الصحيح... المقام السامي.. بكل مقاصده.. وعرف أن الإسلام هو الحياة فأعلن بأن- دعوة الإسلام دعوة المستقبل-.

نعم.. ألم ير كل مظاهر الجاهلية حوله.. تدفع بعضها.. ويقف على مصيرها من لحظة تقصيها.. فيعلن أنها تقف على حافة الهاوية.. وأنها أفلست في عالم القيم ولا بد من سقوط البشرية التي تتبع هذه النظم ولا تلتفت إلى المنقذ الوحيد الذي يدعوها إلى الحياة ويأخذ بيدها الى طريق مستقيم. 

بداية العودة:

ويتوقف لحظة إزاء هذا التفكير العميق ليقول- إنني قد بعدت فترة في حياتي عن الله، وإنني لأرجو أن أعيش حتى أنفق من عمري في قربه فترة تعدل كفتي الميزان- 

هداه تفكيره أن البداية تنبع من نفسه.. وأن إرادة التغيير تبدأ بشخص.. فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الله ولم يكن معه أحد... وأن الجاهلية لتتبرج للإنسان حتى تخدعه ولا ينجو منها إلا من يعتصم بعقيدته التي جاءته من ربه إن هذا هو الذي جعله يصرخ ويقول «إن هنالك سنداً واحداً لا يتزعزع، إن هنالك قوة واحدة لا تهون إنها العقيدة في الله»

وانقلبت تصوراته.. أحدثت هذه العقيدة انقلاباً في كل خلجاته.. وفي كل حياته حتى صرح «بأن الإسلام عقيدة ثورية حركية، بمعنى أنه ما يكاد يمس القلب الإنساني مساً صحيحاً حتى يحدث فيه انقلاباً.. انقلاباً في التصورات وانقلاباً في المشاعر، وانقلاباً في تيسير الحياة، وعلاقات الأفراد والجماعات».

وزاد يقينه في هذا الدين وبدأ يتفاعل معه.. بدأ دمه يتغير.. فالمجتمع الذي عاش فيه وعرفه تمام المعرفة ينشد له الآن شكلاً آخر.. فقد انتهى عهد الضلالة وجاء الوقت ليستقيم هذا المجتمع.. وأن المؤمل له أن يكون لن يحدث.. فقد خبر المجتمع الأميركي الذي يرتكس في الجاهلية حتى أذانه. ويغرق فيها.. هذا المجتمع لا يصلح أن تنقل حياته إلى حياة شعب فتح الإسلام قلوبه.. وزرع فيها راية التوحيد.. ولكن عساكر الظلم حولت الوجهة فأنسته النور.. فاتبع كثيراً من الضلالات والغوايات ولا بد من تبصيره بالحقيقة.. لا بد من منهج مرسوم يحدد له حياته وخلاصه من ربقة الجاهلية الرعناء يوماً بعد يوم يزيد يقيني بتلك العقدة.. إن هذه الأمة لن تصل إلى شيء ذي قيمة إلا أن تربي أرواحها وعقولها وجسومها تربية صحيحة.. إلا أن يربي كل فرد منها في محضن هادئ ثابت ذي أهداف مرسومة إلا أن يصبح كل فرد فيها وحدة سليمة قوية ذات عقيدة وذات طريقة وذات ضمير-. 

ضريبة الإيمان. 

قويت النظرة لهذه العقيدة.. ولكن ما شأن المجتمع الإسلامي الذي تتحقق فيه هذه العقيدة عملاً وسلوكاً وأخلاقاً وتصوراً صحيحاً.. إن الواقع على غير ما يود الإنسان وأن الطواغيت هم الذين يتسلطون ويفرضون على الشعوب ما لا تطيق، بل إنهم يفرضون عليها قيوداً لا تستطيع منها فكاكاً فلا بد من يقظة تهز النيام وتقهر الظالمين.. وتبث الوعي والرشد.. إنه لن يكون نزاع على قلب المؤمن إذا ما اتجه إلى الله عز وجل.. وإخضاعه يبلور حقيقة الإيمان.. والإيمان لا يقر الظلم ولا يرضى به للغير إذن- لا بد من عقيدة. وقوة الكلمة إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة. والعقيدة هي التي يغذيها الناس بحياتهم فتوهب لهم الحياة.

إن هذا المجتمع لا بد أن ينهض وأن الكسل قاتل كل همة.. والخوف مرد كل ذي عزيمة.. ولكن العقيدة وقدة لا تدع اللبيب يركن إلى كيد الظالم الباغي وأن هذا الشعب إن رضي بالذلة فلن تكتب له الحياة والعيش الكريم.. وكتب سيد قطب كلماته الذهبية- إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة، سقوط الهمة، وذلة النفس، وانحناء الهامة والهرب من المواجهة.

إن مسئولية المسلم لا تعرف هذه الحالة من الركود والخلود إلى الأرض.. ولكن همة عالية، ورأس مرفوعة ونفس عزيزة ومواجهة لكل التحديات.

إن من ترى من الأشباح التي تزعم لنفسها القوة والجبروت ما هي في الحقيقة إلا ذباب يكبر في عيون الجبناء.. إنه يقول «كن مسلماً فحسب. فهذا وحده يكفي لأن يدفعك إلى كفاح الطغيان، في صلابة واستهانة بقوى الذباب الذي يحسبه الضعاف من العقبان! فإن لم تفعل فتحسس قلبك عسى أن تكون مخدوعاً في حقيقة إيمانك وإلا فما صبرك عن كفاح الطغيان». 

إن هذه الحقيقة التي يجاهر بها سيد تعتبر جريمة في نثر الطغاة الذين يلون عرش فرعون وينهجون نهجه.. وأنه يعتبر محاربة لهم.. وإن دعوة المسلمين ليتحسسوا قلوبهم معناه.. الإفصاح عن الفطرة السليمة الكامنة في كل فرد من أفراد المسلمين ومعناه أيضاً إزاحة الطاغوت.. ولن يسكت الطاغوت عن ذلك.

نعم.. لن يسكت عن ذلك.. كما أن سيداً عليه رحمة ربه لم ينس ما يجره هذا الكلام عليه، بل وعلى الأفراد والجماعات إن ساروا في هذا الطريق.. إنهم لابد أن يدفعوا الثمن غالياً.. وليس شيء أمام العقيدة والدفاع عنها يعد ثميناً أو غالياً مهما كان هذا الشيء.

إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب. فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية وإما أن تؤدى للذل والمهانة والعبودية.. والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها ولا فكاك». 

متى تكون الضريبة إذن.. إذا فهم هذا الشعب حقيقة التصور الإسلامي للحياة وللأحياء.. فإنه شعوريا سوف ينبذ كل تصور جاهلي ويستعلي على قيم الحياة الجاهلية ويتركها ظهرياً وراءه. ولا تنحني جبهته إلا لخالق الأرض والسماء.. بكل خضوع واستسلام ويشمخ أنفه عن النظر إلى وجوه الطواغيت.. احتقاراً لما يقومون به وأنفه من النزول إلى مدارجهم.

وتراه يعبر عن الإسلام بأنه حركة تحريرية.. يقول «إن الإسلام في صميمه حركة تحريرية، تبدأ في ضمير الفرد وتنتهي في محيط الجماعة. وما يعمر الإسلام قلباً، ثم يدعه مستسلماً خاضعاً خانعاً لسلطان على وجه إلا سلطان الواحد القهار.. وما يعمر الإسلام قلباً ثم يدعه صابراً ساكناً على الظلم في صورة من صوره جميعا. سواء وقع هذا الظلم على شخصه أو وقع على الجماعة الإنسانية في أية أرض وفي ظل أي سلطان».

آلام المخاض: 

إن تفكيره لم يتوقف عند مرحلة واحدة.. ولم يخدم فكره فكر ورضاء عباد الحياة ومن هنا فقد أعلن أنه لا بد من قيام المجتمع المسلم وكان كتابه- معالم في الطريق- الشعلة التي أحرقت ثياب المهرجين وكشفت نواياهم.. فوجدوا فيه مسوغاً للتهجم عليه وأوعزوا إلى أصحاب الأقلام الحاقدة المأجورة أن يسودوا صفحات مجلاتهم وصحفهم بالكذب والخداع ولم يتوان واحد منهم لحظة عن ذلك ولم يتردد. فإنه يستنشق عبير الطغاة ليل نهار فكتبوا تفسيراتهم التي تتميز بالغيظ لما حواه هذا السفر واجتهدوا أن ينقلوه للناس على أنه وثيقة خطيرة ضد كاتبه. وفي حقيقة أنه وثيقة خطيرة حقاً تظهر سوأة النظام وكل الأنظمة التي على شاكلة من يحاكمونه وبالتالي فإن الشهيد كان يدرك عظم الأمانة والمسئولية فقال لمن يحبون أن يروا شرع الله يملأ الوجود- والطريق إلى المجتمع الإنساني طويل شاق- ومليء بالأشواك وأعسر ما في هذا الطريق هو أن نرتفع نحن بتصوراتنا وبأفكارنا وبأخلاقنا، وبسلوكنا، ثم بواقعنا الحضاري المادي- إلى مستوى الإسلام.

ولكنه- بعد هذا كله- ضرورة إنسانية، وحتمية فطرية. ولا بد له من ميلاد ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام.

إنها مغادرة لعالم الحياة الذي يحياه هؤلاء الكذابون.. الذين يموهون على الشعوب المخدرة فما تدري من أمرها شيئاً.. ولا تحسن سوى التصفيق والتصفير.. وإن التبعة كبيرة.. جد كبيرة ولن يتوقف مد الحياة عن أن يدفع بالأقوياء إلى معترك هذه الحياة السريعة الماضية.

ولكن ما شأن من يملك قلماً.. يفجر به أحلام الطغاة.. ولكن القلم أيضاً خطر على صاحبه.. والتفكير قبل الكتابة دلالة العقل والتأمل والرزانة، ولكن أصحاب الأقلام.. إذا أحسنوا العمل فإن تبصير الناس عن طريق الكتابة واجب أساسي.. وأنه لا بد من رفع الضريبة 

علق الشهيد لوحة بارزة الخط لهؤلاء وسار أمامهم.. قال:

إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.

إنه لا يتكلم وهو مستند إلى كرسي وثير، ولكنه أخبر من عرف المجتمعات وعرف ما يدور في أذهان حواة الشعوب.. فعلق وصيته ومشي إلى المشنقة بعد أن لم يطق الأعداء صبراً وبعد أن رأوا أن هذا الرأس لن يستميل لأحد منهم.. فعجلوا به.. ولكنه كان يعرف أكثر من ذلك.. فعلق اللوحة الثانية بجانب الأولى- إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء.

وقد كان.. وتحقق ما قال.. فإذا تلفت إلى مدى صدق هذه العبارات أدركت صدق المبتغى.. وإذا عرفت صدق هذه الكلمات عرفت لماذا صدقت في واقع التجربة ولماذا هي حية.

إن من دلالة هذه الكلمات وصدقها أنك تقرؤها الآن.. وتعجب ولن يقضي لك عجب إذا تأملت وتدبرت.. وإن شئت فاقرأ ما كتبه المرحوم قراءة واعية فإنك لن تملك شعورك الداخلي سوى أن تتمنى أن يفيء الله عليك مما أفاء عليه وأن يجمعك الله على خير ما يحب.

واللهم إنا نسألك الهداية والرشاد والتقوى.

الرابط المختصر :