; في العصر الحديث نساء مجاهدات والدة فرج النجار.. امرأة في وجه الطغيان | مجلة المجتمع

العنوان في العصر الحديث نساء مجاهدات والدة فرج النجار.. امرأة في وجه الطغيان

الكاتب مريم السيد هنداوي

تاريخ النشر السبت 19-يوليو-2008

مشاهدات 10

نشر في العدد 1811

نشر في الصفحة 41

السبت 19-يوليو-2008

قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 35). 

إن الشجرة الطيبة التي غرسها الإمام الشهيد حسن البنا منذ عام ۱۹۲۸م، ورواها بدمه هو والشهداء من قبله ومن بعده تعمقت جذورها وامتدت فروعها، واستعصت على أعداء الله أن يقتلعوها رغم محاولاتهم الشرسة المتتالية.

يقول الإمام البنا: «أيها الإخوان أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزبا سياسيًّا، ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسرى في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت مدوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول ﷺ ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس. 

إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا: هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام». 

وفرج التجار، نموذج لمن تربى في حجر بيت علَّمه هذه المعاني، كما تربى على امرأة صبرت على ما تعرضت له في عهد الملك، وعبد الناصر فقد حرمت من ابنها الذي ظل هاربا من الطغيان ما يقرب من ربع قرن، وظلت مثالًا للمرأة الحديدية في وجه هذا الطغيان.

وصفها ابنها الأستاذ فرج النجار بقوله: «كنت أقف أمام هذه المرأة وهي تقدم نصائحها وكأنني أقف أمام أحد القادة الحكماء، وأسمع لها واحترمها وأصدقها ولا أناقشها، وكانت مجموعة من النصائح الحركية تترى وراء بعضها في صورة حكم وتجارب، وكم كانت رائعة تلك التجارب من امرأة لأحد أبنائها وهي تودعه! والمرأة قوة هادرة، وطوفان جارف إذا ما وقفت خلف أولادها تشجعهم، والمرأة إذا ما وقفت خلف ولدها تشجعه وتدفعه وتسانده فإنما تثبت أنها رغم طبيعة تكوينها وضعفها فإنما تكون

ثورتها أشبه بالشرارة التي تشعل النار في قوة البارود البارد».

نشأة في أحضان الريف

«شفيقة نوير أحمد الجمل» امرأة ريفية بسيطة لم تنل حظًّا من التعليم كبقية أقرانها في القرية، ولدت أواخر القرن التاسع عشر تقريبًا عام ١٨٩٧م في قرية ميت خاقان، وترعرعت بين أحضانها وتقاليدها وبراءة وسلامة صدر أهلها وتزوجت في سن الثالثة عشرة من رجل نجار اسمه  «إبراهيم شحاته النجار»، يأكل من عمل يده ويدير ورشة نجارة خاصة به وهو كذلك رجل بسيط لم ينل حظه من التعليم، وأنجب ستة ذكور وبنتين هم: محمود ومحمد وعبد الخالق وفرج وزينب وعزيزة ودياب وعبد الغني، وكانت الأسرة متوسطة الحال، وتسير أحوالها في هدوء واطمئنان.

الأم والتربية الصالحة

كانت وزوجها يحرصان على تربية أولادهما على قيم الإسلام فأحضرا لهم شيخًا ليحفظهم القرآن الكريم والشعر القديم.

كان رب الأسرة وشريكته حريصين على أن يطبعا أولادهما على الأخلاق الإسلامية والمحافظة على الصلاة، فأحضرا لهم الشيخ «عبد الحميد غنيم» - يرحمه الله - ليحفظهم القرآن الكريم والشعر القديم وبخاصة شعر سيدنا علي بن أبي طالب مرة وكانت الأم حريصة أشد الحرص على خدمة الشيخ الذي يربي أولادها. 

وكانت أشد حرصًا على تربية ابنها «فرج» تربية إسلامية، فكانت تدفع به إلى المشايخ - بالرغم من قلة تعليمها. 

وأما ابنها، فرج النجار: فهو «فرج إبراهيم شحاتة النجار»، ولد فرج في 22/٤/1923م، وفي أول عام ١٩٣٩م تعرف الحاج فرج على الأستاذ المرشد حسن البنا وأعطاه بيعة عامة للعودة لفهم الإسلام الصحيح وكان عمره يومئذ ١٦ عاما وكان الحاج فرج وقتها قد أنهى المرحلة الابتدائية، والتحق بالمرحلة الثانوية، ولكن ظروف الأسرة المادية اضطرته لتركها وإكمال الدراسة عن طريق التعليم المنزلي.

بدأ الحاج فرج ينشر دعوة الإخوان في القرية، واجتهد في ذلك، حتى دعا الأستاذ إلى القرية في عام ١٩٤٠م، وتحولت القرية على يديه وإخوانه من مناصرة الوفد إلى تأييد «الإخوان المسلمين».

بعد ذلك نشط الحاج فرج في العمل في القرية، ثم انخرط في النظام الخاص، حتى أصبح مسؤولًا عنه في الوجه البحري ومسؤول التخزين فيه. 

انتسب الحاج فرج بتكليف من النظام الخاص إلى الحزب الشيوعي، وترقى فيه إلى أن أصبح الرجل الثاني فيه على مستوى محافظة المنوفية وساهم بدور فعال في إفشال محاولة اغتيال الإمام البنا التي نفذها الحزب بتوجيه من الاتحاد السوفييتي، واعتقل في يناير ١٩٥٤م بـ «السجن الحربي»، ثم «سجن العامرية»، وخرج في مارس ١٩٥٤م. من القلائل الذين لم يقبض عليهم بعد حادثة المنشية في ١٩٥٤م، حيث اختفى في قصة من أروع قصص الاختفاء حتى مات عبد الناصر وأفرج عن الإخوان في أول السبعينيات، وظل مختفيا لمدة عشرين عاما، تابع مهام الدعوة كجندي من جنود الإخوان في داخل القطر المصري وخارجه، ومازال على قيد الحياة أطال الله في عمره[2].

صورة مشرفة لأمهات الإخوان في الملكية 

منذ أن التحق الأستاذ فرج التجار بدعوة الإخوان، ونشط داخل قريته ميت خاقان اعتنى بأسرته كما اعتنى بباقي أهالي القرية والمحافظة، فعرف بيته دعوة الإخوان وكانوا مضرب الأمثال والقدوة الصالحة وسط قريتهم.

لقد أدركت الأم طبيعة الطريق وحياة ولدها فقد كانت تعلم أنه أحد الرجال الذين يحاربون الإنجليز فكانت تساعده في تحضير شنطة التدريب، يقول الأستاذ فرج النجار: «كانت أمي في غاية الرحمة بي وكانت تحب التدين والعمل للدين، وعندما كانت تساعدني كنت أعلمها أن هذا العمل للإسلام، وكانت تساعدني في تجهيز شنطة التدريب التي أحملها للنظام الخاص، وعندما كنت أعلمها أننا نحارب الإنجليز تفرح وتدعو لنا. وأعطيتها نوعًا من القنابل لتضعها في حقيبتي فكانت في غاية السعادة والنشاط، وبعد محنة ١٩٤٨م ضبط عند شقيقتي زينب إبراهيم التجارة بعض المفرقعات الخاصة بفلسطين فاعتقلت وأودعت السجن العمومي بشبين الكوم، وكان زوجها غير موجود بالبيت، فقبضوا عليها، وعلى أخي الصغير وعلى زوجها حينما رجع، ووضعت اختي بالسجن شبين على ذمة التحقيق، واعتقل زوجها وشقيقي دياب في معتقل الطور، وبيتنا قد فتش أكثر من ٥٠ مرة ليلا ونهارا، وهدموا منه جزءا ظنا منهم أن أسلحة بداخله، وكانت أمي قد ألفت هذه الحال، فعندما كانوا يأتون كانت تقابلهم بكل شدة ورباطة جأش»[3].

أدركت طبيعة الطريق الذي يسلكه ولدها فرج، وأنه أحد الرجال الذين يحاربون الإنجليز فكانت تشجعه على ذلك وتساعده في تحضير شنطة التدريب.

امرأة في وجه طغيان رجال الثورة 

بعد أن عادت الجماعة إلى مشروعيتها مرة أخرى، عمل الإخوان على زلزلة أركان الاستعمار والملكية الظالمة فتوحدت الرؤى بين الإخوان والضباط الأحرار، وتم الاتفاق على الثورة التي حدثت فعلًا في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، ونجحت الثورة، ويصف الأستاذ فرج حال أمه بعدما نجحت الثورة وانقلابها على الإخوان فيقول: «في فجر ليلة يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢م عندما سمعنا في الإذاعة بيان الانقلاب الذي قام به ضباط الجيش، أخبرت والدتي مهنئًا لها بالانقلاب ضد الملك فاروق وحاشيته الفاسدة، ففرحت والدتي فرحًا كبيرًا، وأطلقت «زغرودة»، وعندما استفسرت منها عن هذا التعبير الجديد، قالت: «هو الذي جرى لنا كان هينًا يا ابني دول قتلوا الأستاذ البنا»، ومرت الأيام سريعة من ٢٣ يوليو حتى يناير ١٩٥٤م عندما كان «الشيخ محمد فرغلي»، والأخ «يوسف طلعت» عندي، وبعد الفجر سافرا إلى القاهرة، وبعد سفرهما بساعة واحدة فوجئنا بقوات الأمن تحيط بمنزلي، وتقول في مكبر صوت كان معهم: «سلم نفسك حتى لا تطلق عليك الرصاص، فخرجت إليهم وبينما كنت أسألهم عن الأمر كانوا يضعون الحديد في يدي، وركبت معهم عربة في حراسة مشددة. وأنا لا أعرف شيئا عن سبب هذا القبض، وما أن وصلت إلى مديرية الأمن حتى وجدت إخوانًا من جميع مراكز المحافظة، وزارتني والدتي في صباح ذلك اليوم قبل الترحيل، فقالت لي: يا فرحة يا بني ما تمت يا ولدي كان ينقطع لساني لما زغردت لهؤلاء، وقالت: الناس بتقول: إنهم سيقتلونكم على كل حال خليك راجل ولا تذل نفسك لمخلوق»[4].

وظلت العلاقات متوترة بين الإخوان ورجال الثورة بسبب محاولة تقويض الأمر لصالحهم، وتسخير مقومات الدولة لمصالحهم الشخصية وعدم العودة بالديمقراطية للحكم، ومحاولة عسكرة الحكم، ومما زاد في الصدام عدم موافقة الإخوان لجمال عبد الناصر في دمج الإخوان المسلمين في هيئة التحرير، أضف لذلك صدام شباب الإخوان بشباب هيئة التحرير في جامعة القاهرة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي رفض الإخوان لاتفاقية الجلاء التي وقعها عبد الناصر مع الإنجليز بسبب نصوصها المجحفة لحق مصر، والتي نصت على عودة الإنجليز لاحتلال مصر في حالة تعرض مصر أو إحدى الدول العربية أو تركيا للعدوان، فما كان من عبد الناصر إلا أن دبر حادثة المنشية، والذي تم في ٢٦ أكتوبر ١٩٥٤م واعتقل آلاف الإخوان[5].

وجاءت المباحث الاعتقال فرج النجار وبرز دور الأم نحو ولدها، يقول فرج النجار: «في هذه الليلة لم تكتحل عيناي بالنوم، وما أن وصلت إلى البيت حتى أخبرت والدتي بحادث المنشية، وطلبت على وجه السرعة ملابس تناسب الاختفاء والممكن من نقود البيت، وأسرعت والدتي وأحضرت كل ما يملكه البيت من نقود حتى التي كانت في جيب الوالد، كنت أجلس على كنبة المنزل إذ أخذتني سنة من النوم أيقظتني منها هزات حانية من والدتي، وهي تهمس في أذني «البوليس يحاصر البيت» نظرت من ثقب الشباك فوجدتهم يحاصرون البيت وفي وضع الاستعداد لإطلاق النار، قلت لوالدتي: «لا تفتحي الباب واشغليهم حتى أخرج من خلف المنزل»، كانت - يرحمها الله - خبيرة «بسفالة» بعض رجال الأمن، وقد عالجت تفتيش بيتنا أكثر من خمسين مرة بشهامة وجرأة وذكاء فاقت الكثير من الإخوان، وعلى الفور سمعتها تقول - وأنا في طريقي إلى السلم: يا قليل الأدب انتظر حتى يرتدي الحريم الملابس، موجهة الكلام إلى من يطرق الباب بشدة وإلحاح، وأنا على السلم رأيتها تجري من خلفي وهي تخلع قرطها الذهبي من أذنيها وتعطيني إياه دون أن تتكلم وفي تفاهم كامل أخذته منها، ثم رجعت على الفور إلى الباب وصعدت بقية السلم، شاهدت مفتش المباحث انور صبرة والرائد مصطفى عبد الرازق ومعهم آخرون يقطعون حبال المواشي من الزريبة، ويطلقون سيقانها للريح في الشوارع ويبعثرون الدقيق والسمن والجبنة ويحطمون كل شيء في البيت، وعندما هموا بالخروج من البيت قالت لهم الوالدة: « سيعود إلى البيت الدقيق والسمن والجين اليوم، وأهالي القرية الطيبون سيجمعون المواشي، أما ولدي فلن تصلوا إليه»[6].

دخلت الأسرة في محنة شديدة واضطهاد بسبب هروب الابن واختفائه وبسبب الرعب الذي تركه في نفس عبد الناصر، مما دفعه لعدم زيارة المنوفية، خوفًا على حياته من النظام الخاص الذي لم يستطع القبض على أفراده كلهم؛ لهروب مسؤول النظام الذي يعرف كل شيء.

بدأت المباحث في القبض على أسرة فرج النجار الأب والأم وأخواته، وعذبوا عذابا شديدا، وتعرضت والدته للمحن الشديدة، حيث أخذها البوليس وضربها بالعصي والكرابيج. وتحدث معها في غير حياء ولا أدب، وليس ذلك فحسب بل أن مديرية الأمن استدعتها فذهبت وتركت زوجها وحده راقدًا على السرير مضرجا بدمائه، بعدما ضربه الضابط «مصطفى عبد الرازق» على رأسه ب «الشومة» (عصا غليظة)؛ ليعترف على مكان ولده ولما وصلت مقبوضًا عليها وجدت مفتش المباحث أنور صبرة، والضابط مصطفى عبد الرازق والمخبرين «إبراهيم عبد العليم»، و«عبد العزيز عوف»، فقال لها مصطفى عبد الرازق: (وشرف أبويا لو قلت لنا عن فرج سوف أتزوجك)، فردت الأم عليه بقولها: (أبوك ليس له شرف، بدليل أنك غير مؤدب، وأنا معي رجل جزمته برقبتك. ورابع ولد لي هو فرج فإن كنت راجل اقبض عليه، ونصيحتي لك أن تقطع لسانك أحسن يقبض عليك هو..)، وبعد هذا الدرس أمر أنور صبرة، مفتش المباحث إبراهيم عبد العليم وعبد العزيز عوف يضربها حتى سقطت مغشيا عليها من كثرة الضرب[7]

كان الموقف عسيرًا: فأولادها معتقلون، وزوجها مضرج في دمائه، وقد جاوز السبعين وأسرتها معذبة وولدها هارب من الطغيان لا تستطيع رؤيته - كل ذلك مع كبر سنها - جمع عليها الهموم فلم تدر إلا وعينها قد بدأ يصيبها العمي حزنًا على ولدها فأجرت عمليتين في عينيها بعد أن كادت تفقد بصرها حزنًا على ولدها، ومع ذلك كانت نعم المرأة الصابرة.

غير أن الأحزان تكالبت عليها، ففي أغسطس ١٩٦٥م وجدت قوة من المباحث تقتحم البلدة متجهة إلى بيت ابنتها زينب النجار لاعتقالها بتهمة أنها اعتقلت عام ١٩٤٨م ومن ثم ينطبق عليها قرار عبد الناصر الذي أطلقه من فوق منبر الكرملين، والذي ينص على «اعتقال كل من سبق اعتقاله منذ عام ١٩٤٨م»، ولم يكن لابنتها تهمة سوى هذه التهمة. فأخذوها من بين أحضان أبنائها؛ ليزجوا بها في غياهب السجون مع كثير من نساء الإخوان، وتحملت الأم عبء أحفادها ورعايتهم حتى تعود ابنتها، وما كادت تخرج الابنة وتستقر الأم لرعاية زوجها حتى جاء قدر الله بأن فقدت معينها على الطريق وشريك حياتها بعد فترة كبيرة من هروب ولدها «فرج» والذي لم تره إلا فترات بسيطة، ففي نوفمبر ١٩٦٦م مات زوجها وآثار التعذيب واضحة على جسده، وهو الرجل الذي لم ينل قسطًا كبيرًا من التعليم، رحل وتركها تكابد مصاعب الحياة وغطرسة رجال الأمن، ومع ذلك فقد تحولت الجنازة إلى ثكنة عسكرية بسبب انتشار خبر أن فرج النجار سيتواجد في الجنازة، فتكالب على الأم هم فراق زوجها وخوفها على فقد ابنها إذا اعتقل بعد هذه الفترة الطويلة.

تعرضت المحن وابتلاءات كثيرة.. فقد تم اعتقالها وتعذيبها بعد هروب ابنها فرج من زبانية عبد الناصر لمدة ٢٠ عامًا بعد حادث المنشية.

مواقف حية

هناك عدة مواقف عصيبة تعرضت لها هذه المرأة، ولكنها قابلتها بكل شجاعة وصبر وصمود ومن هذه المواقف:

الموقف الأول

نشطت المباحث في البحث عن فرج النجار، وتفننت في تعذيب الأسرة وأصبحت تترصد للأسرة في كل سكناتها، وذات مرة علمت المباحث أن الأم كلفت الخياط «على الجدع» بخياطة ملابس لابنها المعتقل، فظنوا أنها تخيطها لـ «فرج»، يقول الحاج فرج النجار: «استدعت المباحث الشيخ علي الجدع وتناقشوا معه في موضوع القماش، وأمروه عندما يستلم أهل فرج التجار الملابس أن يخبرهم فورا. واستلم زوج شقيقتي الملابس، ولكن الشيخ علي كعادة أهل ميت خاقان، أخبره باستدعاء البوليس، وما دار بينهم وهم يعلمون أن الوالدة هي التي ستسافر إلى القاهرة الزيارة السجن انتقل الخبر بهذه الصورة إلى أنور صبرة مفتش المباحث العامة، فطاب له أن يحلم بالترقية ويسعد بآثارها، وخرجت الأم المنكوبة تحمل شنطة بداخلها ثوب وثلاث فانلات وثلاثة سراويل، ووضعت كل النقود التي معها داخل الشنطة، ما عدا أجرة الأتوبيس كما كان بداخل الشنطة فطيرتان وبطة محمرة وأرز، وكانت الأم تعرف الطريق جيدا، فمن سنة ١٩٤٨م وهي تذهب لأولادها في معتقل الهايكستب في عهد الملك فاروق، وما أكثر عهود الظلم التي توالت على هذه المرأة العجوز وهي تتحمل محن أبنائها في شجاعة وصبر. ففي سنة ١٩٤٨م قبض البوليس على ابنتها، ومكثت في السجن العمومي ستة أشهر في قضية للإخوان المسلمين، ولم يفرج عنها إلا بعد أن حفظت النيابة القضية، أما ابناها فقد أمر الحاكم العسكري «إبراهيم عبد الهادي» بالقبض عليهما وترحيلهما إلى معتقل الطور، هذه هي المرأة العجوز التي تحمل شنطة وتسافر في المواصلات العامة، وسنها يقترب من الستين والحكومة ترسل خلفها عربة مخصوصة، واثنين من الضباط يركبان معها العربة العامة، ولما وصلت إلى القاهرة أخذت الشنطة وذهبت إلى الترام، وفي العباسية وبالقرب من السجن شعر الضباط بأن المرأة صادقة في التوجه إلى ولدها، ولحقوا بها في مكان خال من المارة وخطفوا الشنطة منها ولاذوا بالفرار وولوا هاربين ووقفت العجوز في صمت لا تعرف للكلام فائدة، بعد أن رأت بعينيها إبراهيم عبد العليم رجل المباحث من شبين الكوم، وهو يرتدي بدلة على غير عادته ويشترك في خطف الشنطة، ورجعت المرأة العجوز من العباسية إلى باب الحديد سيرا على قدميها؛ لأن كل نقودها كانت في الشنطة التي خطفتها المباحث بكل ما فيها، ووجدت نفسها في مدينة كبيرة بدون محرم ولا نقود للعودة، وقد ارتفع أذان العصر يجلجل في السماء الله أكبر.. الله أكبر، فأخذت تردد (حسبي الله ونعم الوكيل)، وفي هذه الظروف لم يكن يشغلها جوع ولكن يشغلها أجرة السفر والعودة إلى شبين الكوم، ووصلت إلى موقف «الخازندار»، فوجدت رجلًا ينادي شبين الكومن ووجدت فيه صورة إنسان ترتسم على وجهه أصالة الأسرة الكريمة فصارحته بأن شنطتها وبها النقود سرقها من لا ضمير لهم، وأريد منك توصيلي إلى شبين الكوم وأحضر لك الأجرة بعد وصولي، ولم يتوان الرجل وفتح الباب وأجلسها، ولم تكد تنزل من العربة حتى وجدت ابن أخيها فنادته وكلفته بمحاسبة السائق، وفي صباح اليوم التالي وصلت إشارة إلى العمدة بإحضار الوالدة إلى البوليس وعندما وصلت قالوا لها: الحرامية أرسلوا لنا الشنطة بالعنوان الذي عليها، فقالت: الحرامية سرقوها؟ قالوا: بالتأكيد، قالت: إن إبراهيم عبد العليم خطفها مني في العباسية فهل هو حرامي؟ وضحك الضباط بملء أشداقهم، فقال أحد الضباط: أحسن لك تخبرينا بمكان «فرج النجار»، وتستريحي وتربحي الجميع، فقالت: «أنتم أتعبتم أنفسكم على (الفاضي) وولدي لا يعطي سره لأحد، وستعرفون فيما بعد أنكم أتعبتم أنفسكم وأتعبتم كل الناس حولكم بسبب جهلكم بولدي[8]».

الموقف الثاني

كان الضغط مستمرًا على الأسرة فوصلت إشارة إلى العمدة بإرسال والدة فرج إلى المباحث العامة بشبين الكوم صباحًا، وأثناء التحقيق معها في هروب ولدها دخل الحاج محمد علي موسى - وهو أحد إخوان تلا منوفية الكرام. بعد أن استدعوه كذلك، وكان صلبًا وقويًّا وعنيدًا لا تلين قناته، وهو فريد في هذه الصفات بسبب صلته القوية بفرج النجار فاستدعوه لمناقشته في هذا الأمر، ودارت الأسئلة حول فرج النجار وهروبه، وشعرت الأم أن أنور صبرة يشتد على الحاج محمد بغية الحصول منه على معلومات عن ولدها، وبينما الأمر بهذه الصورة، إذ خرج أنور صبرة لبعض شأنه من الحجرة فقالت للشيخ محمد في همس تشجعه: احذر، إن كنت تعرف مكانه أن تدل عليه[9]

ولم يتوقف التعذيب على أسرة النجار فكانت الأم واقفة كالمراس في وجه الطغيان، فقد قامت المباحث بالضغط على ولدها محمود ليعترف على مكان أخيه بأن أوقفوه عن العمل، ومنع أي أحد أن يتصل به وطردوا أولاده من المدرسة، وكان مصطفى عبد الرازق يخبره أنه لن يتركه حتى يدله على مكان فرج النجار أو يخرجه من دينه، وأمام هذا التعذيب الرهيب أخد محمود إجراءات التحول للنصرانية حتى ينجو من التعذيب، وكانت الأم تتابع كل ذلك بخوف على أولادها، وانتشر الخبر وتناقلته الإذاعات حتى توقفت المباحث عن ذلك واستدعوا الأسرة، فما كان من الأم إلا أن خلعت حذاءها وضربت به الضابط مصطفى عبد الرازق الذي كان سببا فيما وصلت إليه الأسرة!![10]

الموقف الثالث

كان لعلاقتها الجيدة بربها وصبرها على المحن التي تعرضت لها أسرتها - فما حدث الأسرة مثلما حدث لأسرتها - حتى برز لابنها نموذج آخر من الأمهات يضاهي أمه في صبرها وشجاعتها، فيذكر فرج النجار موقف أم أحد الإخوة أثناء هروبه فيقول: اختبأت عند أحد الإخوة فسمعت أمه تقول له: إنك دائما تتحدث عن ضيوفك باستفاضة، أما ضيفك الحالي فأنت تسعى إلى التكتم والتعتيم عن كل شيء يتصل به. 

قال الابن: أنا أودعك سرًّا، فهل تحفظينه؟

قالت الأم بكل تأكيد يا ولدي بعد أن - ربتت بيدها على كتفه.

قال الابن: تذكرين أنك طالما بكيت على ظلم الإخوان المسلمين في السجون. 

قالت الأم: نعم، وأنا رأيت الأستاذ البنا - وسمعته عدة مرات، وحضر عقد زواجي.

قال الابن: إن ضيفي يا والدتي كان. صديقا للأستاذ البنا وسيقيم معي أربعة أيام. بقية الأسبوع.

وكما نقل الابن الرواية ما كانت تسمع هذا الخبر حتى برقت عيناها ببارق الفرح والتفتت إلى الابن، وقالت: أنا الآن يا ولدي. أفرح فرحتين معًا، الفرحة الأولى: أن في بيتي - صديق الأستاذ البنا، والفرحة الثانية: أنك محل ثقة الإخوان المسلمين، ثم قالت: على الرحب والسعة يا ولدي، وإذا لم تسعه بيوتنا فسوف تسعه قلوبنا، وأنت وصديق الأستاذ البنا نفديكم بالدماء. 

قال الابن: لقد أثلجت صدري يا والدتي وبقي عليَّ أن أطمئن على رأي والدي.

قالت بعد أن تناولت برقعها ووارت به وجهها: هل تظن يا ولدي أن والدك أقل من والدتك مروءة.

قال الابن: لا يا والدتي، ولكن هذا بيته، ورجل البيت هو محور كل شيء، ولابد أن يعرف ما يدور بداخله.

قالت: أنا أعرف والدك تمامًا، وهو رجل البيت ورجل البيت لا يدعى إلى حماية أحد ويعتذر، ولا تنس أن كتب الأستاذ البنا تحتل المكان الأول في مكتبته، ودائمًا يتعاطف مع اتجاه الإخوان المسلمين، يا ولدي ما دام الأمر كذلك فأنا أعامل ضيفك وضيفنا العزيز على أنه ولدي وابن مصر البار الذي يقاوم الطواغيت، وكل ما أطلبه منك أن يقيم هنا ما شاء له الإقامة، ولكن كنت قد عاملته في الأيام الثلاثة الماضية على أنه زميلك فقط وما أكثر زملاءك، أما الآن فأقول ما قال الشاعر.

يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا           نحن الضيوف وأنت رب المنزل

وسكتت بعض الوقت ثم قالت: لابد لضيفك يا ولدي، أن يعلم أنه هنا في أمان ولا يستطيع أحد أن يمس طرفه، ونحن أحياء إلا إذا كان يريد أن يلقى حتفه، فنحن يا ولدي نحمي الرجال ونفتدي الجوار بأرواحنا[11]

ظلت والدة فرج النجار في محن متتالية حتى جاءت حزب ١٩٦٧م فكسرت شوكة النظام وأفقدته صوابه وانشغل بالفتن الداخلية بين جوانبه والتخلص من رجاله، مما صرفهم بعض الشيء عن تعذيب أسرة النجار، وظلت الأم على هذه الحال حتى توفي عبد الناصر في سبتمبر ۱۹۷۰م، وخلفه أنور السادات والذي عفا عن ولدها عام ١٩٧٤م، فعاد إليها بعد عشرين عاما هروبًا وحرمانًا، وبالرغم من تجاوزها السبعين إلا أنها حرصت أن يعوض ولدها ما فقده من الله سنين فسارعت بالبحث له عن زوجة تتوافق مع سنه وظروفه.


 

 

فرحت بالثورة فرحًا كبيرا وأطلقت زغرودة.. وعندما غدر نظام عبد الناصر بالإخوان قالت لولدها أثناء اعتقاله: كان ينقطع لساني لما زغردت لهؤلاء!

رحيلها 

مرت الأيام، وكانت الأم والابن يشعران بأن ما فقداه من سنين لم يحسب من عمرهما، وكان الله عوضهما بركة في هذا العمر، وما كاد عام ١٩٨٦م يهل حتى كانت الأم على موعد مع ربها، حيث فارقت روحها جسدها المنهك بعد هذا العمر لتسطر صحائف نورانية لأمهات الإخوان في صبرهن وتحملهن الصعاب، ولتضيف نموذجًا آخر من نماذج الأمهات الصالحات أمثال والدة الحاج جودة شعبان وغيرهن، ممن صبرن على التعذيب والاعتقال.

([1]) داعية إسلامية، مصر 

([2]) موقع تراث الإخوان المسلمين 17/٤/2008م

([3]) حوار أجراء الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الحاج فرج التجار يوم ١٤/٤/ ٢٠٠٨م. 

([4]) المصدر السابق

([5]) عبد العليم خفاجي: عندما غابت الشمس دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع المنصورة الطبعة الثانية ١٤٠٨هـ ۱۹۸۷م، ص (۱۳۲)  

([6]) هارب من الطغيان مذكرات فرج النجار، تحت الطبع 

([7]) حوار الحاج فرج مع الأستاذ عبده دسوقي 

([8]) المصدر السابق

([9]) مذكرات فرج النجار 

([10]) المصدر السابق 

([11]) المصدر السابق 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

مجلة الأسرة (107)

نشر في العدد 107

12

الثلاثاء 04-يوليو-1972

في رحاب الله

نشر في العدد 193

14

الثلاثاء 26-مارس-1974