العنوان في رحاب الشهر الكريم
الكاتب حسن هويدي
تاريخ النشر السبت 23-أكتوبر-2004
مشاهدات 11
نشر في العدد 1624
نشر في الصفحة 52
السبت 23-أكتوبر-2004
نَمُرُّ جميعًا بمرحلة صعبة، وظروف قاسية لم تعد خافية على أحد، بل هي حديث الناس حين يمسون وحين يصبحون، وتكاد نذرها، وتعدد أخطارها أن تملي على كثير من الناس مشاعر اليأس والقنوط، إلا أن الإيمان واليأس لا يجتمعان، قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87)
وهذا هو الذي يميز المؤمن عن غيره، حيث يكون الإيمان هو العدة، وهو السند في الأهوال والشدائد، ويكون أساس الصبر والثبات، فلا هلع ولا هزيمة، بل عزة وعزيمة، إلى أن تنجلي ظلمات الباطل، ويشرق نور الحق ويبوء الأعداء بالخزي والهوان، قال تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81)
هذا، وقد تذكر هذه الصور الرهيبة من إراقة الدماء وهدم البيوت، واقتلاع الأشجار، وإهلاك الحرث والنسل، قد يذكر كل ذلك المؤمنين والمظلومين حين يستشعرون الضيق، ويساءلون عن الفرج، بقول الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:55)
أيها المسلمون:
لقد أظلنا شهر عظيم مبارك هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وكما أنه ركن من أركان الإيمان، وموسم للعبادة والتوبة، فهو فرصة لمعالجة ما نحن فيه من الظلم والطغيان، وإنما تفتح أبواب الفرج بالتوبة والرجوع إلى الله، فلنغتنم الفرصة الربانية، ولنقبل على الله بالاستغفار والتوبة النصوح، فإن للأزمنة كما للأمكنة فضائل وخصائص، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألَا فتعرضوا لها» «رواه الطبراني»، واختلف في إسناده وهل من نفحات أعظم هبة وأكثر بركة من نفحات رمضان المبارك؟!
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 183، 184، 185).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينًا فضائل الشهر وخصوصيته: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين» «متفق عليه».
وإذا نظرنا إلى ما شرع الله لنا في رمضان وما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدناه مدرسة تربوية متعددة الجوانب جامعة مانعة شاملة واسعة، فسبحان الله الرزاق ذي القوة المتين.
فلننظر إلى هذه الجوانب الكريمة على قدر ما يسمح به المقام:
مضاعفة الثواب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» «متفق عليه»
وقال صلى الله عليه وسلم «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» «متفق عليه».
وقال صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر» «رواه مسلم».
كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم بمضاعفة ثواب صيامه أكثر من مضاعفة ثواب الطاعات الأخرى فقال: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي» «رواه مسلم».
العبادة والنوافل:
ولما كان الثواب فيه مضاعفًا وباب التوبة مفتوحًا، فقد شرع الله لنا فيه التزود من القيام والنوافل ما يعين على ذلك المكسب العظيم. فقد شرع لنا صلاة التراويح: قال صلى الله عليه وسلم : «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» «متفق عليه»، وكان صلى الله عليه وسلم : «إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشدَّ المِئزر» «متفق عليه».
ومن بركات هذا الشهر أن فيه ليلة القدر وهي خير من ألف شهر قيام ليلها وصيام نهارها قال صلى الله عليه وسلم : «من قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه» «متفق عليه».
ولا يفوت القارئ أن يتذكر أن «ألف شهر» تعني أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
فاغتنم يا أخي هذه الفرصة العظيمة في تجارة لن تبور، قال صلى الله عليه وسلم : «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» «رواه البخاري».
التهذيب وحفظ اللسان: ولكي يكون ثواب الصيام كاملًا وتحصل الثمرة المرجوة منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» «متفق عليه».
وقال صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه» «رواه البخاري».
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «رب صائم وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» أخرجه أحمد وابن ماجه.
فانظر يا أخي إلى نيل هذه الغايات وانعكاس آثارها الكريمة على سلوك الأفراد والجماعات، فكم فعل قول الزور والغيبة والنميمة وفاحش القول من العداوات والحزازات وفساد المجتمعات، وكم يفعل الصدق وحفظ اللسان وطيب الكلام من الوحدة والمودة وصلاح الجماعات؟ ومن هنا تدرك أيضًا أن الصيام ليس مجرد ترك الطعام والشراب، بل هو صيام الجوارح عن كل ما حرم الله من الفتن والمآثم، وتلك هي ركائز البناء المتين للفرد الصالح والمجتمع الصالح.
الجود والسخاء:
وحين يباشر المرء الصيام لا بد أن يشعر بألم الجوع ويدرك من ذلك حاجة الفقراء والمساكين إدراكًا عمليًّا، ذلك أن التصور النظري لما يعانيه المحرومون قد لا يبعث في النفوس الدوافع الحقيقية لإغاثتهم والعطف عليهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : «من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» «الترمذي وإسناده صحيح»، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن: «فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» «متفق عليه».
من السنن النبوية للصيام:
السحور، قال صلى الله عليه وسلم : «تسحروا فإن في السحور بركة» «متفق عليه».
وقال صلى الله عليه وسلم : «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» «رواه مسلم»، ومن
السنن أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرٍ فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور» «صحيح رواه الترمذي وأبو داود».
وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميْرات فإن لم تكن تميْرات حسا حسوات من ماء» «أبو داود والترمذي» «حديث حسن».
خاتمة
نعود بعد عرض فضائل هذا الشهر الكريم إلى أحوالنا وأحزاننا التي أشرنا إليها في المقدمة فنذكر قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ (الشورى: 30)
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما نزل بلاء إلا بذنب» فما سلط علينا الأعداء إلا بذنوبنا وتفريطنا في جنب الله، فأول الحل إذن ومفتاح الرحمة أن نرجع إلى الله وأن نتوب توبة نصوحًا مغتنمين هذه الشحنة الروحية في شهر الصيام لشفاء الداء ورفع البلاء، ثم تشفع التوبة بالأخذ بأسباب القوة، ونرفع علم الجهاد قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وإذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم جهادكم سلط الله عليكم ذلًّا لا يرفعه إلا إذا رجعتم إلى دينكم».
فلا سبيل إلى النصر والعزة والكرامة بغير هذه الضوابط والأسباب، ومن التمس النصر بغيرها فقد خاب وطمع في السراب، والله تعالى يقول: ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾ (البقرة: 189)
فهذه هي أبواب النصر والتوفيق، وقد يقول قائل: وماذا يجدي عملنا ونحن في واد والحكام في واد؟ فنقول: نحن نعمل الذي علينا، ونبذل وسعنا ونتضرع إلى الله بالدعاء، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونأخذ بأسباب القوة ما استطعنا وما بقي فهو من أمر الله وقدرته فهو الذي يهدي القلوب ويحول الأحوال ويهون الصعاب ويغير، ويبدل كما يشاء، قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 26)
وحينئذ تأتي الكرامة بإذن الله تعالى على يد فئة من المؤمنين الطائعين العاملين المتجهدين ولو كانوا قلة قليلة، قال تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249)
والعاقبة للمتقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل