العنوان في ظلال شهر الصوم
الكاتب د. عمر سليمان الأشقر
تاريخ النشر الثلاثاء 19-أكتوبر-1971
مشاهدات 66
نشر في العدد 82
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 19-أكتوبر-1971
في ظلال شهر الصوم
يكتبها الأستاذ: عمر سليمان الأشقر
الصوم لله
الأطباء، والحكماء، والعلماء، كتبوا في حكمة الصوم وأبدوا، وأعادوا، وأيمنوا، وأيسروا فمن معجب ومن مغرب وتحدثوا عن فوائده الصحية، والنفسية، والاجتماعية، والروحية..
ولا أريد أن أنفي أن في الصوم حكمًا شتى قد نعرف شيئًا منها، وتغيب عنا أكثر مما عرفنا، ولكن الذي أريد بيانه أن الصائم إنما ينال الأجر الوافر من صومه إذا قصد بصيامه تحقيق أمر الله وامتثال طاعته، وجاء ثواب الله وخوف عقابه، وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إیمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه» فالأجر العظيم الذي به تُغفَر الذنوب وتُمحَى متوقف على أمرين: الأول: أن يصوم إيمانًا، والثاني: احتسابًا. والصوم إيمانًا، بأن يقصد إلى الصوم استجابة لأمر اللـه سبحانه. والاحتساب: بأن يتحمل مشقة الصوم من جوع وعطش رجاء ثواب الله تعالى.
فإذا صام المسلم بهذه النية فإن الصوم تُغفَر به الذنوب وتُرفَع به الدرجات، ومعرفة الحكمة مع توفر النية الصالحة يزيد المرء يقينًا وطمأنينة، ولكن لا يجوز أن ننحرف عن الأصل، وهو أن الأجر في الصوم إنما يُنال بإرادة الصيام استجابةً لأمر الله رجاء ثوابه، ولذلك يجب على الدعاة والمتحدثين بشأن الصوم أن يُرسّخوا هذا المعنى في قلوب من يدعونهم إلى الصيام، فالصوم مفروض من اللـه -وليس هناك مجال للمناقشة- فرضه الله على عباده، كما فرض الصلاة والحج، ويعطي عليه الثواب الجزيل، فإذا رُسخَت هذه المعاني في قلوب من ندعوهم إلى الصيام، فلا بأس من بيان حكمة الصوم، إما أن نبدأ ببيان الحكمة لإقناع من ندعوهم فليس هو المنهج الأمثل والأكمل، وكثيرًا ما يؤدي مثل هذا السبيل إلى دخن في نية العبد، إذ يؤدي العبادة، ولذلك كانت الغاية التي نص عليها القرآن غاية واحدة: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183) فالتقوى هي الغاية، ذلك أن المتقين هم المفلحون، وقد قال الله فيهم: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ (البقرة: 5).
والتقوى استجابة لأمر الله كما يريد الله رجاء ثوابه، والبعد عن معصية الله خوف عقابه، وبذلك يقي العبد نفسه من النار، فيكون من أهل الجنة.
مرحبًا بك أيها الشهر الحبيب:
ليس غريبًا أن يحب المرء أيامًا أكثر من بقية الأيام وليالي أكثر من بقية الليالي، وشهر أكثر من بقية الشهور، فكم يترقب أحدنا ليلة بعينها لما ينتظر فيها من لقاء حبيب، أو عودة غائب، أو.... لأنها تعود إليه بالذكرى، ذكرى مناسبة سعيدة، أو حدث جليل، هذا عن تفضيل المرء لأوقات على غيرها لأنه يرتبط بها أو يسعد، وقد فضّل الله أوقاتًا على أوقات، وأمكنة على أمكنة ففضل مكة والمدينة والأقصى على بقية البلاد، فجعل الصلاة فيها مضاعفة، وأجاز شد الرحال إليها للعبادة، وفضّل الأيام العشر من ذي الحجة على بقية الأيام، وليلة القدر على بقية الليالي، وشهر رمضان على بقية الشهور، وفيه ليلة القدر درة الليالي وزينتها.
وإذا كان التفضيل ينشأ من ارتباط الوقت بمناسبة خالدة، أو حدث جليل، فإن في شهر رمضان خير مناسبة، فيه كان نزول القرآن ﴿هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾ (البقرة: 185)، وقد كان نزول القرآن حدثًا ضخمًا في حياة الأمة، إذ هو موصلها بربها يهديها إلى سبل السلام ويخرجها من الظلمات إلى النور، وهو فرقان بين الحق والباطل، وقد شاء الله أن تحتفل الأمة بهذه الذكرى الخالدة.
وإذا كان احتفال البشر بالمناسبات السعيدة يتم بنصب الأقواس ورفع الأعلام، وصنع الطعام، وبالأغاني، والأناشيد، فإن احتفال الأمة بذكرى نزول القرآن يتم بتحقيق ركن من أركان الإسلام هو الصيام، يجعله الله ميدانًا يتنافس فيه المتنافسون في طلب الخير رغبة فيما ينزله الله من الخيرات والبركات.. فيكْثرون من تلاوة القرآن ودراسته وقيام الليل، والصدقة، وحضور حلق العلم، وذكر الله، ذلك أن الله رغبنا في كل ذلك وفي حديث قدسي أن الله قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». وجعل الصوم جنة يقي الذنوب «والصيام جنة».. فمرحبًا بك أيها الشهر الكريم، جئت ونحن في شوق شديد إلى لقياك ننعم بأيامك ولياليك رجاء أن يتقبلنا الله سبحانه فنكون عنده من الفائزين.
فيك يا شهر الصيام يحقق العبد العبودية لله، ذلك أن المداومة على الطعام والشراب تكاد تستعبد الإنسان، وتجعله عبدًا لها لا يستطيع منها فكاكًا، ففي هذا الشهر يقطع هذا الاسترقاق ليكون المرء عبدًا لله يتحكم في شهواته كلها.
فيك تقوى الإرادة وتنمو، وداء المسلمين ضعف في العزيمة وخور في الإرادة، تجعل من الكثيرين قطعانًا يساقون إلى حيث يريد الآخرون، فيهذب الصيام -القاصد بنظامه الصارم في دقة التوقيت وفي الامتناع المتناهي، وفي الصبر المتحمل- يهذب النفس ويسمو بها ويشحذ العزيمة، ليكون الصوم على مر السنين مدرسة لصقل المسلمين وإعدادهم ليكونوا عبادًا لله يحققون دينه ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
مرحبًا بك أيها الشهر الحبيب، فلقد كان الصحابة ومن بعدهم يشتاقون إليك ويطلبون من الله أن يبلغهم إياك نصف العام، فكانوا ينتظرونك انتظار المحب حبيبه، ثم يدعون نصف الآخر أن يتقبل الله منهم صيامه وقيامه، اللهم أعنّا على صيامه وقيامه واجعل كل ذلك خالصًا لوجهك الكريم.
عمر سليمان الأشقر
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل