; عققته قبل أن يعقك | مجلة المجتمع

العنوان عققته قبل أن يعقك

الكاتب علاء الصفطاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

مشاهدات 12

نشر في العدد 1331

نشر في الصفحة 48

الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

قصة قصيرة ... 

بعد عام من الغربة المريرة التي عانى فيها من سهاد الليل وشقاء النهار، وألم البعد عن الأهل والأحباب عاد جلال إلى بلده، تحدوه مشاعر كثيرة، يفكر في تلك الحياة الجديدة التي يقبل عليها، فهو يستعد للزواج، أعد عش الزوجية، أدى ما عليه من واجبات، ونفذ ما أخذ عليه من التزامات، جلس في بيته الذي يشعر فيه بالأمان وبرد الاطمئنان، ينظر إلى سقف الغرفة محلقًا، أقبلت عليه أمه وهي تحمل كوبًا من الشاي، وضعته أمامه ثم نظرت إليه، عرف أن وراء هذه النظرة كلامًا تريد قوله، أمسك بيدها وقبلها، وقال: هل تخفي «ست الحبايب» عني شيئًا؟ قالت له: ماذا ستفعل مع أبيك يا ولدي؟.

سؤال بعث الأسى في نفسه، فنهض من مكانه، وجعل يتحرك في الغرفة ذهابًا وإيابًا، والدموع تتساقط من عينيه، أبي كلمة لم ينطق بها من زمن طويل، بل ربما نسيها، في غربته كانت تأتي عليه لحظات يشتاق فيها إلى حنان أبيه، ويحلم به وهو يأخذه بين ذراعيه، يقبله ويغمره بفيض حنانه، ولكن الحلم شيء، والواقع شيء آخر، فقد أخذ أبوه منهم موقفًا منذ تزوجه بزوجة سيطرت عليه، وجعلته دمية تحركه كيفما شاءت، مما جعلهم عرضة للشقاء والضياع.

تذكر جلال يوم أن كان مسافرًا لأول مرة، فذهب إلى أبيه ليودعه ودموعه تسبق كلماته، تذكر تلك الرسائل التي أرسلها له وما بها من كلمات تذيب الجليد، وتقرب البعيد، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، كلمات خرجت من قلبه ممزوجة بنار الشوق وألم الفراق، ومع هذا لم تظهر من أبيه أي بادرة أمل بل كان الأمر يزداد سوءًا، نظر إلى أمه وكأنه يعتب عليها، فقد كان يفكر في تلك اللحظة التي سيجمع الله فيها بينه وبين من اختارها قلبه، واطمأنت إليها نفسه، ولكن هذا السؤال زلزل أركانه واقشعر منه بدنه، فأخرجه مما كان فيه من الخيال الجميل الذي ینسیه همومه وأتراحه إلى الحقيقة المرة التي يحاول أن يهرب منها، أمه تقف أمامه تنتظر إجابته، وهو يعلم الإجابة التي تريحها ولا يريد أن يغضبها، فقال لها: سأذهب إليه أدعوه فهو أبي وله حق الطاعة علي، وأنا أتقي الله فيه، وإن كان هو لا يتقي الله في.

فقالت: بارك الله فيك يا ولدي، هذا ما كنت آمله منك، وأعلم أنك عانيت منه الكثير ولكنه أبوك، وله حقوق كثيرة عليك، وأنت يا بني حافظ لأجزاء من كتاب الله، وتمر عليك الآيات التي يوصي الله فيها بالوالدين، فجأة قالت له أمه: جلال، انظر على الحائط، نظر فإذا به يجد لوحة مكتوبًا عليها ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (سورة الإسراء: ٢٣)، كان جلال قد وضعها بيده من فترة طويلة منذ أن كان صغيرًا، نظر إلى أمه، وقال: أمي، أتدرين لماذا أوصى الله الأبناء بالآباء، فقال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (سورة الإسراء: ٢٣)، قالت: لماذا يا ولدي؟ قال جلال: لأن حب الآباء للأبناء فطرة فطر الله الآباء عليها، فالابن جزء من أبيه، ولكن يا أمي هناك من الآباء من يخالف هذه الفطرة، وكما قالوا: «لكل قاعدة شواذ»، لماذا نركز على حقوق الآباء، ونهمل حق الأبناء؟، لماذا لا نتذكر حديث رسول الله ﷺ: «کلکم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في بیته وهو مسؤول عن رعيته»، إن العقوق يا أمي صفة مشتركة بين الآباء والأبناء، كثيرًا ما أسمع من الخطباء عقوق الأبناء، ونادرًا ما أسمع عقوق الآباء مع أنني أرى أن الأب الذي لا يحسن تربية ولده، ولم يربه على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هو له عاق.

نظرت إليه مشفقة

الإسلام يا أمي: عادل في أحكامه، ولكننا نحيناه جانبًا، كما هو منحى في أمور كثيرة، نظرت إليه أمه وهي مشفقة عليه، فقد كان يتحدث والتأثر واضح على جوارحه، عينه تدمع، ويده ترتعش، وصدره يعلو ويهبط، وأرادت أن تهدئ من بركان الغضب الذي انفجر بداخله، وتخاطب عقله قبل عاطفته، فقالت له: هل معنى كلامك هذا يا ولدي أنك تسوغ لبعض الأبناء عقوق آبائهم؟.

قال جلال لا تفهمي يا أمي من حديثي هذا أنني أسوغ للأبناء عقوق الآباء، بل يجب على الابن أن يكون بارًّا بأبيه، قالت له أمه: أعلم يا بني أن الظلم قد ترك جرحًا في قلبك ما زال ينزف حزنًا وألمًا، ولكن يا ولدي ما زلت أطمع أن تذهب إليه.

وبعد أن ذهب النهار بحركته وأتى الليل بسكونه ذهب جلال إلى أبيه، ونادى عليه بالكلمات التي تفجر الحنان، وتثير في النفس عاطفة الأبوة: أبي، خرج إليه بوجه عابس، ونظر إليه نظرات لا تعرف الحب، مد جلال يده وصافح أباه، وقبل يده تقبيل من يعترف له بالفضل، وتحدث بحديث عذب؛ راجيا أن يكون معه في ليلة العمر «كما يقولون»، ويقف بجانبه، وكان يأمل أن يعيد وجوده المياه لمجاريها، ويصلح ما فسد، ويعوض ما افتقد، وترك أباه بعد أن أخذ منه الوعد بالحضور، وإن كان في نفسه مقتنعا بأن ما يرجوه لن يحدث.

وفي ليلة عرسه جلس بين أحبابه وأصدقائه، ولكنه لم ير أمامه أحدًا رغم كثرة الحاضرين، عيناه تترقب شخصًا واحدًا يتمنى حضوره، وبخاصة عندما مال عليه أحد الحاضرين وسأله: أين أبوك؟، سؤال سبب له إحراجًا، وما عرف له جوابًا، وبمرور الوقت دب القلق في نفسه، وها هي ليلة عرسه قد أوشكت أن تنقضي وأبوه لم يحضر، فهمس في أذن عمه: هل هذا يرضيك؟، قال له عمه: لا يا ولدي، ولكن هل لديك استعداد لأن تذهب إليه مرة أخرى؛ لعل الله يصلح حاله ويهدي قلبه؟، فما كان من جلال إلا أن أخذ بيد عمه وذهب مرة أخرى إلى أبيه آملًا أن يكون لعمه دور في إقناعه بالحضور، وقطع المسافة من بيته إلى بيت أبيه تنتابه مشاعر متضاربة بين الأمل واليأس، ولكن كان لليأس الغلبة، فقد خاب ظنه وعاد مثلما ذهب بعد أن سمع ما لا يرضى من القول، وحاول عمه أن يطيب خاطره، وأن يهون وقع الصدمة على نفسه قائلًا له: هذه ليلة عرسك لا تفكر في شيء مما حدث، كلنا بجانبك، لم يكن مع عمه، كان في واد آخر.

لم تكن الصدمة الوحيدة

قطع المسافة من بيت أبيه إلى بيته وهو يفكر في الموقف، فهذه لم تكن الصدمة الوحيدة التي تلقاها من أبيه، ويعلم أنها لن تكون الأخيرة، وهنا تذكر موقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، وتخيل صورة الرجل الذي جاء إليه يشكو سوء معاملة ابنه له فأمر عمر- رضي الله عنه- أن يؤتى بالابن، فجيء به، فقال له عمر: إن أباك يشكو سوء معاملتك له وقسوتك عليه، فقال له: يا أمير المؤمنين ألا تسأله ماذا فعل بي؟، فقال له: ماذا فعل بك؟، قال الابن: لم يحسن اختيار أمي فاختارها مجوسية، فكنت أعير بها، ولم يحسن اختيار تسميتي، فسماني جعلًا، ولم يحسن تربيتي، فكان يهملني ولا يرفق بي، فالتفت عمر بن الخطاب إلى الرجل وقال له: يا هذا، لقد عققته قبل أن يعقك.

ثم قال جلال في نفسه: لقد عققتني يا أبي، ولكني لن أعقك.

الرابط المختصر :