; قصة قصيرة - «و من يتق الله يجعل له مخرجا » | مجلة المجتمع

العنوان قصة قصيرة - «و من يتق الله يجعل له مخرجا »

الكاتب عوض توفيق عبد الرحمن

تاريخ النشر الثلاثاء 12-مارس-1974

مشاهدات 19

نشر في العدد 191

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 12-مارس-1974

قصة قصيرة

«و من يتق الله يجعل له مخرجا »

... كان مترددًا في أمره؛ فتارة يتصفح كتابًا، وتارة أخرى يزرع أرض غرفته جيئة وذهابًا؛ عله يتخذ قراره النهائي بتفضيل أمنية على أخرى، ولكن ذلك لم يكن بالشيء السهل بالنسبة له؛ فالزواج كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نصف الدين. وهو في هذه السن بحاجة إلى الزواج؛ حتى يجد من يقوم بتدبير شؤونه وشؤون والدته التي تقدم بها العمر؛ فأصبحت لا تستطيع القيام بما كانت تقوم به فيما مضى من: تنظيف وترتيب وطبخ وما إلى ذلك من شؤون البيت.

وأمنيته الأخرى التي كانت تراوده منذ صغره هي زيارة البيت العتيق والطواف حول الكعبة وتقبيل الحجر الأسود، وزيارة مسجد الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- والصلاة فيه. أحلام كانت تراوده في القديم ولا تغيب عن مخيلته لحظة واحدة. وها هي الأحلام قد أصبحت حقائق وما عليه إلا أن يسرع إلى والدته- تلك التي رفضت كل من تقدم لخطبتها؛ علها تسعد طفلها الوحيد بحنانها، وتسعد نفسها بالقرب منه-، أسرع إليها يعلمها بما استقر عليه من رأي. فقد قرر تأجيل الزواج إلى أن يتمكن من جمع ما يحتاج الزواج من نفقات، وأنهما سيمتعان نفسيهما بالحج هذا العام، وسينفقان ما لديهما من مال في التجهيز والسفر للحج، فردت عليه والدته داعية له بالتوفيق، وأعلمته أن كلا الأمرين محبب إلى نفسها؛ فهي تواقة كما هو تواق إلى الديار المقدسة، وكذلك فهي تتمنى أن ترى ابنها وقد أصبح رجلًا له زوجة وأولاد، خصوصا وأن سنها متقدمة والموت لا ينتظر، ولكنها أخيرًا أقرت ابنها على رأيه. فجهزا نفسيهما وأعدا العدة للسفر، ولحسن حظهما فقد تحركت القافلة حين وصولهما لأنها كانت بحاجة لاثنين فقط، وسارت القافلة على بركة الله، والكل يهفو قلبه كلما أقبلوا على قرية أو مدينة مستبشرين بأنها أم القرى، فإن لم تكن هي، فلا شك أنها ستقربهم منها.

ولم يكن كل ما لاقوه من تعب ومشقة وبلاء طول الطريق ليضعف العزائم أو يفتر الهمم، فهم واثقون أن ذلك يضاعف حسناتهم وينقص من سيئاتهم.

وأخيرًا فقد جاء الفرج بعد الصبر على الشدة، ووصل الحجيج إلى البيت العتيق، ووصل الابن ووالدته إلى البيت الحرام، فصليا ما شاء الله لهما ذلك ودعوا الله مخلصين أن يجزيهما خيرًا في الدنيا والآخرة وأن يغفر ذنوبهما ويسامحهما. ولم يكونا ليبتعدا عن البيت الحرام قيد أنملة.

ولكن غروب الشمس في تلك اللحظة جعلهما يحثان الخطى؛ بحثًا عن مكان يبيتان فيه ليلتهما تلك؛ كي يذهبا في الصباح إلى منى. ولم يجهدا نفسيهما في البحث، فقد وجدا خانًا ينزل فيه المسافرون والحجيج.

فوضعا فيه الأمتعة وقضيا فيه ليلتهما، وفي الصباح كان أهم ما يهمهم هو أين سيتركان ما معهما من نقود أثناء فترة غيابهما في منى، حيث خافا إذا هما أخذا النقود معهما أن تتعرض للسرقة أو الضياع. ولم يمضيا كثير بحث حتى عثرا على رجل مسن أقعده المرض عن الذهاب إلى منى فوجدا فيه ضالتهما المنشودة، فوضعا عنده المتاع وبداخله النقود، ثم انطلقا بعد ذلك إلى منى وكلهم ثقة بأن متاعهم في مأمن ولن يمسه سوء، ولم يعلما بما خبأت لهما الأيام بين طياتها من متاعب وهموم إلا بعد عودتهما من منى، حيث فوجئا بأن الرجل لم يكن في غرفته ولم يجدا فيها شيئًا من المتاع. وعبثًا حاولا العثور عليه فلم يستطيعا، وبعد جهد جهيد هداهما بعض الناس إلى أن يسألا صاحب الخان فذهبا إليه ولكن جوابه كان مخيبًا لآمالهما، فقد أعلمهما بأن الرجل قد توفي، وأن امرأة فقيرة حضرت للخان وأعطوها كل ما في غرفته من متاع صدقة عنه، وأنه من الصعب جدًا العثور على المرأة لأنهم لا يعرفونها ولا يعرفون أين تسكن.

وهكذا أصبح الابن وأمه لا يجدان ما ينفقان به على نفسيهما أو يسدان به رمقهما. واستمرا على هذه الحال ثلاثة أيام، يصومان على الماء و يفطران عليه. ورأى الابن أن لا أمل في الخلاص من مأزقهم هذا إلا بسؤال الناس والحصول على شيء يقتاتان به، فانزوى في ركن من أركان البيت العتيق مادًا يده لكل من يمر أمامه. ولكن هيهات أن يتصدق عليه أحد وهو في ريعان الشباب وفي مظهر لا يدل على حاجة. وكيف يعطونه وهو لم يحسن الدور الذي يقوم به؟ وكيف يعطونه وهو لم يكثر السؤال ولم يلح في الطلب؟

واستصغر أخونا نفسه، وتمنى الموت قبل تلك اللحظات القاتلة قبل أن يتذوق ذل السؤال ويواجهه وجهًا لوجه. فعاد أدراجه إلى والدته التي تنتظر على أحر من الجمر، عاد صفر اليدين وقد خارت قواه من الإرهاق والجوع والتعب، عاد وفي نيته أن يفعل شيئًا من أجل الحصول على شيء يقتاتان به، وحدث أمه بأنه سيحضر شيئًا من الطعام بشتى السبل غير الشرعية، ولكن الوالدة التي تفضل الموت والله راض عنها، ما كانت لتقر ابنها على رأيه، بل أخبرته بأن الله وحده الرزاق وما عداه فهم أكالون، وطلبت منه أن يسأل الله فهو الذي يعطي ويرزق؛ فعاد للمسجد وهو أكثر يقينًا وأكثر إيمانًا من ذي قبل، فصلى العشاء مع الجماعة، وتنفل بركعات خالصة لوجه الله أطال فيها السجود ودعا الله أن ينقذهما مما هما فيه من شدة ومحنة.

وما أن خرج من المسجد حتى تعثر بشيء ثقيل كاد أن يسقطه، فمد يده وتناوله فإذا هو كيس مملوء بدنانير ذهبية؛ فصاح من شدة الفرح «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» صدق الله العظيم.. ويا لها من لحظات سعيدة تلك التي سار فيها؛ ليعلم والدته بعطية الكريم؛ لعل ذلك يخفف من ألمها، ريثما يحضر طعامًا فاخرًا يفطران عليه. ولشد ما كانت دهشته واستغرابه عندما صاحت به والدته: تريدنا بعد كل هذا أن نفطر على حرام؟ لا والله لن يكون ذلك. اذهب وقف على مشهد من القوم فابحث عمن فقد ألف دينار، فإن جاءك أحد بأوصافها فادفعها إليه.

- ولكنها غير حرام يا أمي، فأنا لم أسرقها، وكذلك فنحن بحاجة ماسة إليها.

- أقول لك اذهب لما أمرك به ولا تتأخر.

وذهب وهو مكره على ذلك، ولو كان الأمر من غير والدته- تلك التي حملته وهنًا على وهن- لما أطاعها في ذلك. وأتى القوم ونادى بأعلى صوته بأن من فقد دنانير من ذهب وأتى بأوصافها فسيدله عليها.

ويقبل عليه أحد الحجيج.

●     أنا فقدت ألف دينار من ذهب.

- أهي وحدها أم معها شيء آخر؟

●     معها قرط من ماس. والجميع بداخل جراب من جلد.

- نعم هذه أوصاف دنانيرك، كم تعطيني حتى أدلك عليها؟ أتعطيني مئة دينار؟

●     لا..

-         إذن لا أدلك عليها.

●     كما يحلو لك.

 وذهب الرجل وترك الشاب مشدوهًا، فخاف أن يبتعد؛ فلا يلقاه، فصاح به.

-        يا رجل أتعطيني خمسين دينارًا

●     لا أعطيك ..

-        خمسًا وعشرين.. عشرة دنانير. وفي كل مرة يقول الرجل لا.

-         إذن تصدق علي بدرهم واحد فقط.

●     لن أعطيك شيئًا.

-        درهمًا يا رجل.

●     قلت لك لن أعطيك شيئا.

ولما يئس من الرجل دفع إليه المال وانصرف، وهو حانق غاضب على هذا العالم الذي لا يوجد فيه متصدق على جائع ولو بشيء يسير.

ولما وصل والدته قص عليها ما دار بينه وبين الرجل، وكيف أنه رفض أن يعطيه حتى ولو درهمًا واحدًا، وتتساءل الأم باستغراب:

-        ألم يعطك شيئًا من الدنانير؟

-        لا لم يعطني أي شيء.

وفيما هما يتحدثان بهذا الشأن. سمعا طرقًا على الباب، فقالت الأم قم يا ولدي فانظر من الطارق فلعل الله أن يجعله خيرًا.

ودهش الشاب وهو يفتح الباب بأن القادم كان الرجل نفسه الذي رفض من قبل أن يدفع له درهمًا واحدًا.

وازدادت دهشته عندما رأى الرجل يدفع إليه الكيس وبداخله المال ويهم بالانصراف ولكن الشاب أدركه قبل أن ينصرف وقال له:

- عجبًا لأمرك يا أخي! قبل قليل رفضت أن تدفع إلي حتى ولو درهمًا واحدًا والآن تدفع الدنانير كلها.

وبعد أن أطرق الرجل لحظة رفع رأسه قائلًا:

- اعلم يا ولدي أن المال لم يكن لي ولكني كنت مؤتمنًا عليه؛ فلقد طلب مني رجل فاضل تقدم به العمر في بلدتنا عندما علم أنني مسافر للحج هذا العام أن آخذه وأعطيه لرجل اشترط فيه شروطًا لم أجدها في أحد غيرك، فأنت أحق بهذا المال من سواك، ودفع إليه المال وخرج.

عندها خر الشاب ساجدًا لله حمدا على ما أنعم عليهما به، وعندها علم أن من يحفظ الله يحفظه، ويجده تجاهه.

ولم يكن الأمر ليقف عند هذا الحد، فلقد كان ابتلاء الشاب المؤمن صعبًا وقاسيًا، فما كاد يعود من جولته في السوق؛ لشراء طعام الإفطار حتى رأى جمهرة من الناس أمام غرفتهم

 - ولم يطل به الأمر ليعرف السبب؛ فلقد رأى جثة هامدة مسجاة في وسط الغرفة، ولم تكن تلك الجثة سوى جثة من نذرت نفسها لخدمته؛ لتخرج منه رجلًا ليس كبقية الرجال، بل بطلًا، ولكن ليس كبقية الأبطال، كانت نائمة وعلى شفتيها ابتسامة حلوة وكأنها تريد أن تقول: ها قد حققت أمنيتي الأولى، فاحرص على أن تحقق الثانية، ولا تحزن فإني أحب أن ألقى الله صائمة، وموعدنا الجنة إن شاء الله.

دارت هذه الخواطر في فكره تلك اللحظة هائمًا وفي عينيه دمعة حارة ومن شفتيه تخرج كلمات حلوة «إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون» صدق الله العظيم.

عوض توفيق عبد الرحمن 

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

أين السعادة؟

نشر في العدد 8

32

الثلاثاء 05-مايو-1970

يوميات المجتمع (34)

نشر في العدد 34

16

الثلاثاء 03-نوفمبر-1970