; أين السعادة؟ | مجلة المجتمع

العنوان أين السعادة؟

الكاتب د. عمر سليمان الأشقر

تاريخ النشر الثلاثاء 05-مايو-1970

مشاهدات 33

نشر في العدد 8

نشر في الصفحة 13

الثلاثاء 05-مايو-1970

باحث عن السعادة

   قلت لصاحبي، وقد أسفني ما يرتسم على قسمات وجهه من ظلال الكآبة والحزن توحي بما يعانيه في دخيلة نفسه من شقوة. قلت له: عجيب أمرك! إن الحزن يكاد يعصف بك ويبلي شبابك الناضر، مع أنك أُعطيت من الدنيا زهرتها المال الكثير، والبيوت الملأى بحاجات الإنسان، والمراكب الفارهة من أحدث طراز، والأولاد الذين يمرحون بين يديك، فما الذي يجلب لك الهم والنكد وهذه حالك؟ فنظر إليّ نظرة مهموم حائر فاقد لشيء ليس يدريه، وقال: لست أدري، إن في النفس لفراغاً، وفيها جوعة أحسّ بها ولا أعرف حقيقتها، إن ما بين يدي من مال وما عندي مما يصبو إليه كثيرون لا يفيء عليّ ظلال السعادة، بل قد أتمنى أن أكون فقيراً كأولئك الذين أرى السعادة ترتسم على وجوههم رغم قلة ما يملكون من زينة الدنيا.

أمنية الإنسان

  وألقيت النظر بعيداً، وسابق الخيال النظر فسبقه، وحلّق في حياة الناس يستشفّ الغاية التي يريدون من وراء سعيهم في الحياة، فإذا بهم يطلبون ما يطلب صاحبي على اختلاف أشكالهم وألوانهم وسعيهم، إن ما يطلبون هو: هناء الروح، وطمأنينة القلب، ونعيم الخاطر، وسعادة النفس في عالمهم المشهود.

طريقان وصنفان

  قد يرى بعضهم أنهم يصلون إلى تحقيق أمنياتهم بالوصول إلى متع الدنيا وزينتها، ولكنهم يُدركون بعد حين - كما أدرك صاحبي - أن ما حصّلوه لم يحقق لهم السعادة المرجوة، وقد يظن بعضهم أنهم سعداء بما لديهم، ولكنهم كالمريض الذي يتغلغل المرض في أحشائه، وهو يظن نفسه يتمتع بالصحة والعافية، وعندما يدرك الناس ما أدرك صاحبي، يحاول بعضهم أن ينغمس في دنياه أكثر وأكثر علّه يروي نفسه الظمأى على طريقة القائل وداوني بالتي كانت هي الداء، وقد يهرب بعضهم من دنياهم ويهجرونها، ويبحثون عن السعادة في قمم الجبال بعيداً عن الحياة، يُعذبون أجسادهم ويحرمونها من متع الدنيا، وهؤلاء وهؤلاء يحملون السُلم من أحد طرفيه، ويعيشون في دنيا الإنسان ويخرجون منها وقد شقوا بدنياهم.

أدعياء

  وإلى كلا الفكرتين المتضادتين، يقوم دعاة يُغلفون أفكارهم بمعسول القول، وينقسم المنادون إلى كل من السبيلين على أنفسهم، فإذا هُم مذاهب شتى، وتطغى الدعوات المادية على غيرها، ويدّعي كل داعية أنه يملك المنهج الأفضل والأكمل، ويدّعي أنه يملك إكسير السعادة، وأنه يهدي البشرية الحائرة إلى شاطئ الأمن والسلام، ويقيها لواعج الأحزان ومرارة الآلام .

الإنسان لا يصنع السعادة

  ولكن التجارب المتكررة قديماً وحديثاً في الشرق والغرب، تثبت أن سبيل السعادة الحقة لا يصنعه بنو الإنسان لأنفسهم لأنهم غير مؤهلين لصنعه.

علة ذلك

  ذلك أن السبيل الصحيح لمن يتصدى للمنهج الذي يُسعد الإنسان، يقوم على معرفة كاملة بأسرار النفس البشرية، والعلاقة الحقة التي تقوم بين الإنسان وهذا الكون الذي يعيش فيه، لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، والإنسان في كلا الأمرين - رغم تقدّمه - يقف على أبواب مجاهيل، ولذلك كانت أحكامه ومناهجه التي يضعها على اختلافها وتباينها تسير في خط متعرج، وهي مناهج تحتاج دائماً إلى تطوير وتحوير وتغيير، لذلك كان لزاماً أن تتوفر فيمن يهدي الإنسان إلى ما يسعده، أن يكون عليماً بأسرار النفس البشرية عليماً لعلاقتها بالكون وما وراء الكون، لا تخفى عليه خافية؛ ليأتي المنهج متكاملاً شاملاً، ونحن لا نجد هذه الصفات في بني البشر، ولا في أحد من الخليقة، ولكنها في خالق البشر الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، الذي يعلم الإنسان جهره وسره، وهو أعلم به من نفسه، ذلك أنه هو الذي أنشأ هذه النفس من تراب، ونفخ فيها الروح، فكانت بشراً سوياً، وجعل نسلها من سلالة من ماء مهين، وخلقها في أحسن تقويم، فمِن الواحد الأحد الخالق البارئ السميع العليم نستمد السبيل السليم، والنور الكاشف، والسُبل من غيره لا تخلو من عوار، وهي تؤدي بصاحبها إلى هاوية سحيقة الغور ليس لها قرار.

 

بداية الطريق

  ولقد أخبرنا الله بعد أن قصّ علينا قصة إهباط آدم من الجنة الآمنة الخالية من التعب والنصب: أنه أعطى آدم عهداً له ولذريته أن يعطيهم السعادة والهناء في دنياهم وأخراهم، إن هم اتبعوا منهجه وهداه الذي ينزله لهم، فإن هم تولوا وأعرضوا عن سبيله، فالشقوة نصيبهم في دنياهم وأخراهم ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ  وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ    قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا   قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ [ سورة طه من 123: 126].

السعادة تقوم على أساسين

   قال صاحبي وكأنه قد أفاق من رؤيا، وكأنه بدأ يحس بما يريد، قال لي: كأنك تدعونني إلى أن أترك دنياي لأجد سعادتي، قلت: كلا، لكنني أدعوك لتأخذ المنهج الذي يتلاءم مع فطرتك، ويعرفك بنفسك وبالكون وبخالقك وخالق الكون، بالحق الذي يرسم لك معالم الطريق، وستجد أنه منهج يدعوك أن تأخذ نصيبك من الدنيا، ولا يحرمك منها، ولكنه يوجّه همك الأكبر إلى تفضيل ما عند الله وإيثار الآجل على العاجل، إنه يدعوك إلى تطهير نفسك وتزكيتها، وتخليصها من قيود ثقيلة، تشدها إلى الأرض وتهبط بها إلى الحضيض، انظر يا صاحبي إلى بني البشر، وقد بلغوا ما بلغوا من تقدم في عالمهم المشهود، انظر إليهم إذ أعرضوا عن ذكر الله هل حققوا السعادة في الحياة؟ الدول الراقية المتقدمة، الدول التي جاوزت الأرض إلى القمر، والتي تملك من أسباب الرفاهية ما يعجز عنه الحصر، هذه الدول تعيش في فراغ نفسي كبير: جوعة روحية، قلق وضياع، ظلم وجبروت في الأفراد والأسر، والدول في الأطفال والشباب والشيب، وما حديثهم بسرّ، وأخبارهم تترى تحكي أن القوم على شفى هاوية.

  وتركت صاحبي يفكّر على أن أعود إليه بعد حين، وكل أملي أن يجد سعادته التي يبحث عنها.

   عمر سليمان الأشقر

الرابط المختصر :