العنوان قصتي مع الأدب الإسلامي
الكاتب الدكتور محمد علي الهاشمي
تاريخ النشر الثلاثاء 13-مارس-1984
مشاهدات 29
نشر في العدد 662
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 13-مارس-1984
لامست هذه الفكرة نفسي مذ وعيت الكلمة الأدبية المحملة بالإيحاء، فلم أجدها في السبحات الضائعة في أكثر الصحف والمجلات، ولم أجدها في المؤلفات الأدبية التي اعتمدت مناهج بعيدة عن جوهر الروح الإسلامي، وإنما وجدتها في نتاج الأديب المسلم شاعرًا وكاتبًا، ذلك الأديب الذي أطلق كلمته منبثقة من روحه، ثم مضى يصارع التيارات الوافدة بكلمِه الطيب، وينثر العطر المتميز فتتنسمه النفوس الذواقة المؤمنة وتطمح إلى المزيد... وكان إن توافد النتاج، نتاج الأديب المسلم، فتكاثر وازدلف، ونما وتعمق، وكان لا بد له من خط سير ومسار، وكانت الخطوة الأولى الموفقة عند الرائد محمد قطب في كتابه «منهج الفن الإسلامي» الذي وضع حجر الأساس، ثم تقاطرت الأبعاد.
وتفاعلت الفكرة في نفسي وأخذت أبعادها، ومضيت في الطريق، وأملي أن تأخذ هذه الطاقات الأدبية المسلمة طريقها إلى أدب منهج يصب في جدول واحد، يترقرق بالنبع الإسلامي الصافي، ولم يكن الأمر سهلًا، إنه ليس ضم النتاج إلى النتاج، وليس تراكم الألوان والفنون، إنه بناء الطريق الجديد بعد وضع حجر الأساس، والبناء ينبغي أن يكون متينًا وموثوقًا، ومشهودًا له من أكبر الجهات العلمية والأدبية، ليأخذ الأدب الإسلامي طريقه المتين القوي الأمين، ولكي يدخل المدارس والجامعات والأوساط الأدبية، فيعرفه الناس في صفاء نظرته، وأصالة بحثه بعيدًا عن الاجتهادات الفردية التي قد تخطئ، وتقدمت برسالتي للدكتوراة في الأدب الإسلامي، بعد أن شغلت بالتفكير فيه أكثر من عشر سنين، وكان أن استقر الموضوع على بحث بعنوان «الإنسان في الأدب الإسلامي، تأصيل وتحليل» في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وصرفت في البحث ست سنين تراءت لي من خلاله أبعاد وآفاق أوسع بكثير مما خطر لي، تجاوزت بي ما كنت آمله، وتخطت بي ما كنت أتوقعه، إنها عوالم الإسلام تترجم إلى بيان، وآفاقه وقيمه الكبرى ترود الوجدان الإنساني لترتفع به إلى أسمى ما بلغته البشرية من آفاق. وكان عليَّ أن أمر خلال البحث بما يسمى بالأدب العالمي، فإذا بي -وأتحدث بكل ثقة- أجد أن نتاج الشعراء والأدباء الإسلاميين بمبادراتهم الذاتية قد فاقوا -آفاقًا ومضامين- كثيرًا من الأدباء الأوروبيين الذين أشاد بذكرهم جيل المتغربين من الأدباء عندنا، إن أدباءنا الإسلاميين -دون شك- يفتقرون إلى مزيد من المهارة التقنية والتكوين الفني، أما آفاقهم وعوالمهم فشتان بينها وبين الآفاق الأوروبية.
وكان عليَّ أن أمر بأكثر النتاج الأدبي المعاصر لكي أوضح من خلاله خط الأصالة والإسلامية من التغريب ومتابعة الخط الأوروبي في الأدب، فوجدت أثناء ذلك من المفارقات العجيبة ما يذهل ويؤلم، كيف يحتل أدباء التغريب اهتمام أكبر صحف عالمنا العربي ومجلاته، وجل محافله الأدبية والنقدية، ويقولون ما يشاؤون في أكثر وسائل الإعلام، ونتاج أدبائنا الإسلاميين، نتاج أمتنا الأصيل الذي يفوق ذلك النتاج المتغرب يقبع في صحيفة أو ديوان، وقد لا يجد من يعرف به.
وجدت بعد هذا أنه لا بد من هذا الخط الجديد الذي يقيم البناء، بناء الأدب الإسلامي على أسس راسخة، ولا بد من خط سير ينير الطريق لأدبائنا الإسلاميين. ومضيت خلال السنين الست الماضية فرجعت إلى مئات المصادر والمراجع، فيها من التنوع والتكامل ما ينير الرؤية ويوضح خط الأدب الإسلامي، مقارنًا بالآداب الجاهلية. وتحت رقابة الخبراء في البحث وتوجيههم كتبت بحثي «الإنسان في الأدب الإسلامي» الذي ناقشته جامعة الإسكندرية، ونال شهادة الدكتوراة فأضحى البحث المعتمد علميًّا، وعلى مستوى المحافل العلمية والأدبية مؤصلًا للأدب الإسلامي ورسم خط طريقه.
وحين أنجز بحثي عن الإنسان في الأدب الإسلامي أكون قد عرضت لمحور من محاوره الكثيرة من مثل الكون، والمخلوقات، والإيمان، وسواها من محاور ترتقب البحث المنهجي الهادف، وإن كان محور الإنسان الذي كان موضوع البحث يضم في ثناياه أكثرها، ويتعمق حقيقة الإنسان في الأدب الإسلامي.
ويمكنني أن أعرض من خلال البحث ما حقق من نتائج وما رسم من أهداف.
أما النتائج التي حققها ولم يسبق إليها فهي:
(1) إثبات وجود الأدب الإسلامي في عالمنا المعاصر من خلال بحث علمي، يرسم الخطوط موثقة بالشواهد الأدبية في مجال الفنون الأدبية المختلفة.
(2) تقديم منحى جديد في البحث الأدبي يتخذ من معيار الأصالة الإسلامية مقومًا أساسيًّا للأدب بجوار المقوم الفني، وفي ذلك طرح لمنهج أدبي جديد له أثره الكبير في تقويم مسار الأدب المعاصر.
(3) توسيع المضامين الأدبية وتحريرها من التقليدية والتبعية، ولأن الأدب الإسلامي حين يستلهم مضامينه من عوالم الإسلام وآفاقه الشاملة يمتلك أشمل تصور عرفته الآداب الأخرى وأوسعه، ولأن الأدب على طريق الإسلام الخصب سينتج ويبدع كل يوم ليستوعب ما يطيق من معطيات الإسلام، الثروة التي لم ينتج فيها الأدباء إلا الجزء اليسير وجلها آفاق بكر ترتقب الأدباء الموهوبين.
من تلك المضامين نظرة الأدب الإسلامي الفريدة إلى الإنسان، وموازنته فيها بين المادة والروح بما يضبط السلوك البشري بهذه النظرة المساوقة لناموس الكون، ونظرته إلى الكون بما في تكوينه من اتساق وتوازن وفاعلية وجمال، تنعكس على الإنسان مشاركة في هذه الآفاق في موقف متفاعل تأمل رهيف رفيع للجمال، ومن ثم تذكير الأدب الإسلامي بأمانة الاستخلاف -كي لا يطول بُعد الناس عن تمثلها- عبر تجارب أدبائه بوصفها حجر الزاوية في حياة الإنسان. إن تمثلها كان لحياته معنى، وإن لم يدركها سدر في الشرود والعدم والضياع، إنها هدف الحياة الذي يجلو المعنى الإنساني المتكامل وينشئ الحياة الإنسانية الرفيعة المهتدية بهدى الله، والسائرة على ناموسه. الإنسان فيها مكرم عند الله، موفور الكرامة والقدر في الحياة، يحس بوجوده وتبعته، ويؤكد هذا الوجود الإنساني بمزاولته مهمته، وتأكيده ذاته في عزة وحرية وكفاية، وحمايته حقوقه الإنسانية من كل اعتداء، واعتماد الأصل الواحد للبشرية الذي يجمعها على الحب والتعاون، ودفع الطغيان والعدوان، وعمران الكون في ظل شرع الله وقيمه.
(4) تقديم الأدب الإسلامي إلى الأوساط العالمية بالصورة الإنسانية الإيجابية التي عرضنا لها، على أنه بديل راق للنزعات الأدبية الموقوتة التي هي في طريقها إلى الزوال، من مثل الرومانسية الجدية والسيريالية، ليحقق إضافة إلى التراث الأدبي المعاصر، فلا يقدم نسخة مكرورة من آداب الأمم المعاصرة، وإنما يقدم لونًا متميزًا متفردًا، له نكهته الخاصة يستقبله التراث العالمي على أنه زاد جديد يفيد منه، يوسع من رؤيته ويجدد من قيمه.
(5) تقديم الأدب الإسلامي للأجيال الإسلامية، بوصفه حركة تغيير للواقع المعاش، يملأ الفراغ الأدبي الذي أحدثته حركة التغريب في أدبنا المعاصر بروح حية، ولونه يجدد حياة الأمة الإسلامية، وتبعث فيها طاقاتها المعطلة، وتؤلق إنسانية الإنسان، وستجد الأجيال الإسلامية في الأدب الإسلامي مقومًا للأفكار والأحداث والأشخاص من خلال قيمه الذاتية التي يرعاها الإسلام، سيجد فيها ضمًّا لجهوده وطاقاته، وربطًا بالناموس الإلهي الذي يحكم الوجود والحياة، وتحديدًا لمنطلق الحياة على هدى رسالة رب السماء الذي استخلف الإنسان في الأرض.
(6) تحقيق الأدب الإسلامي التطلع الإنساني الذي عجزت عنه الرومانسية في أفق «العالم الثاني»، فظل لدى الرومانسية أملًا واهمًا وخيالًا موهومًا، وهروبًا، وذلك حين حقق الأدب الإسلامي القفزة إلى الواقع الأكبر على مستوى التصور والإبداع الفني، ومست أنامل الأدباء الإسلاميين تلك اللحظات الأثيرية من عالم الإنسان في تفوقه على نفسه، وفي ارتقائه إلى العالم الثاني.
(7) وفي قضية الموت: تجاوز الأدب الإسلامي النظرات الفزعة من الموت لدى المذاهب الأوروبية المعاصرة التي ترى الموت نفيًا للحياة، وقد أورثت نظرتها المحدودة القلق والاغتراب، كما تجاوز النظر الأسطوري الذي يزعم التغلب على الموت بالانبعاث الواهم، حين جعل الأدب الإسلامي من الموت قنطرة يعبر عليها الإنسان المسلم من الدنيا إلى الآخرة المتحدتي الهدف، في حياة متصلة لا تنقطع، الجزء المخوف منها في تلك النظرات، هو الجزء المحبب إلى الإنسان المسلم، به ينتقل من السعي إلى الثمرة، ومن المعاناة إلى النعيم، وهذا سر مسابقة الإنسان المسلم لتحقيق العالم الثاني في الشهادة حيث النعيم الأكبر.
(8) النظرة الإيجابية إلى الحياة: تجاوز الأدب الإسلامي النظرات السود التي ترى في الحياة لعنة الوجود، أو تراها خالية من الغاية تملأ بانتهاب اللذات، فالحياة في الأدب الإسلامي مشرقة، الكون فيها جميل، حي، متناسق، متعاطف مع الإنسان، والمخلوقات كلها أصدقاء للإنسان، والإنسان مكرم، وذو إرادة وطاقة، والغاية واضحة، والحياة ممتدة، وللإنسان دوره الخطير ومسؤوليته الكبرى، فلا يعيش ذرة هائمة، وإنما هو مخلوق لغاية وهدف وكذلك كل ما حوله، هذا كله يمنح الإنسان قوة دافعة واستبشارًا بالحياة وإقبالًا على العمل والنتاج.
(9) النظرة الجمالية الواسعة التي تتجاوز في الأدب الإسلامي النظرات الجمالية المادية المحدودة بشمول النظرة الإسلامية التي تضم أطراف الوجود مادة ومعنى، شكلًا جميلًا، وقيمًا جميلة، من خلال كلية تعد الجمال أصلًا في بنية الكون وفي خلق الإنسان والمخلوقات صفات ومعاني، ومشاعر، بما يرفع من شأن النظرة الجمالية لدى الإنسان ويغنيها.
(10) النظرة الوجدانية التي تميز في الأدب الإسلامي إنسانية الإنسان، وتفتح وجدانه على عوالم عُليا فتبعث فيه من الطاقات ما يجعله يستعذب المر، ويستلين الشوك، ويستنير الظلام.
(11) يقدم الأدب الإسلامي -في عصر ضعف فيه سلطان العقيدة- انطلاقته على أساس من العقيدة التي تربط الإنسان بربه فيستشعر من الطاقات ما يجاوز قدرته، فيبدع، ويتوثب، ويفتح الأبواب المغلقة، ويسمو بنفسه على المواضعات إلى أفق أرقى فيرتفع على نفسه: يفقد فيصبر، يفتقر فيتعفف، يؤذَى فيصفح، يجد فينفق، يساوره حب الحياة فيجود بها راضيًا في سبيل ربه، ويتذوق في ظل هذا الآفاق الحياة بطعم خاص ورؤية متميزة.
(12) وأخيرًا، فإن مجموع هذا البحث يحقق إرساء مفهوم إنسانية الإنسان على نحو لا نرى له نظيرًا في النظرات الأخرى، في خصائصه وعوالمه، ورحابة آفاقه الفنية.
أما الأهداف التي يرمي إليها البحث بعد النتائج التي حققها فهي:
1- إحداث صدمة شعورية تهز كيان الإنسان العربي المعاصر ليعيد ذرات تكوينه من جديد، بعد أن استغرق طويلًا في إلف الجاهليات المغربية المعاصرة، ليجد نفسه من خلال خصائص تميز وجوده ودوره في الحياة.
2- تقديم الأدب الإسلامي لألف مليون من المسلمين في بقاع العالم مقوم وحدة، وعامل التقاء، سيجدون أنفسهم في الأدب الإسلامي ويجدون تطلعاتهم ورسالتهم، ويتزودون منه ويزودونه، ومن هذا التفاعل تتجدد الرابطة الإسلامية في القلوب، ويخصب الأدب الإسلامي من خلال معطيات أدباء الإسلام، ويقوم من خلال الإيحاءات واللمسات الفنية بحركة تعريب جديدة، يكون الأدب الإسلامي محورها الجديد.
3- إعلاء قيمة الكلمة والارتقاء بالقيم الفنية في تعبير الإنسان من خلال أرقى تصور للوجود، لذا كان من مرامي إرساء قواعد الأدب الإسلامي الارتفاع بالكلمة عن مهاوي السقوط والضياع والنزعات الطائشة، وهذا ما يسهم في إعلاء قيمة الإنسان عن طريق تعبيره بما يتناسب مع تكريم الله له.
4- طرح مفهوم الأدب الإسلامي على مستوى الجامعات والأوساط الثقافية في العالم العربي والإسلامي؛ للتعرف إلى خصائصه وآفاقه والإضافة إليه عن طريق النتاج الأدبي والنقدي.
5- إفراد مادة خاصة في الجامعات العربية والإسلامية لتدريس الأدب الإسلامي بما يسهم في صنع الأصالة الأدبية لدى الأجيال الناشئة، ليكون الغد المرتقب أقرب إلى طابع أمتهم وآفاقها الأصيلة، وقد بدأت بعض الجامعات بذلك.
هذا ما وفق الله له، ولا أزعم في جهدي الكمال، ولا سيما في بحث بكر متسع كالأدب الإسلامي، والله من وراء القصد.
بمناسبة مناقشة أول رسالة للدكتوراة في الأدب الإسلامي قدمها صاحب المقال تحت عنوان «الإنسان في الأدب الإسلامي» في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وحازت التقدير بدرجة الشرف الأولى، وذلك مساء الخميس 17 من ربيع الأول سنة 1304هـ المصادف 22/12/1983م.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل