العنوان كارثة القرن في السودان
الكاتب محمد اليقظان
تاريخ النشر الثلاثاء 30-أغسطس-1988
مشاهدات 12
نشر في العدد 880
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 30-أغسطس-1988
ما زال النيل يواصل ارتفاعه الذي فاق هذا العام ارتفاع الأسعار الجنوني فأضاف إلى المواطنين على طول امتداد النيل هما على هم وأصابهم غما بغم.
المدن والقرى هددتها مياه الفيضان وغمرت أكثرها وخربت المزارع وأتلفت المحاصيل والثمار وتعرضت العاصمة المثلثة «الخرطوم، أم درمان-الخرطوم بحري» إلى زحف المياه على أحيائها، أما جزيرة تونشي التي تقع في قلب ملتقى النيلين الأزرق والأبيض فهي صامدة تقاوم ارتفاع النيل ومواطنوها يعيشون في قلق بالغ.
آخر الإحصاءات التي وردتنا من الخرطوم تقول إن جملة المنازل التي انهارت بالعاصمة القومية كليًا أو جزئيًا أو آيلة للسقوط من جراء السيول والأمطار هي (117.461) ألف منزل وتفاصيلها كالآتي:
10.685 منزلا بالخرطوم، 29.815 منزلا بأم درمان 66.770 منزلا بالخرطوم بحري، 10.690 منزلا بشرق النيل.
وارتفعت جملة الوفيات حتى بلغت ٦٩ شخصًا بين غريق ومصعوق بالكهرباء وتحت الأنقاض.
عمليات الإغاثة:
وما زالت عمليات الإغاثة تسير بصورة جيدة حيث أن الجمعيات الخيرية والطوعية تؤدي واجبها نحو المنكوبين بهمة ونشاط وفي مقدمة تلك الجمعيات منظمة الدعوة الإسلامية برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب الذي وجه الشكر لكافة الإخوة بالدول العربية الذين هبوا لنجدة السودان وتخفيف مأساة المتضررين بالسيول والأمطار والفيضان استجابة لنداء المنظمة التي وجهته لهم. وقال المشير سوار الذهب: «إننا نود أن نبرز الجوانب الخيرية لدعم الأشقاء العرب والمسلمين الذين لم يكتفوا بإرسال المساعدات وإنما حضرت وفود منهم للوقوف على حجم الإضرار وأبعاده».
وأوضح الأستاذ مبارك قسم الله الأمين العام لمنظمة الدعوة الإسلامية أنهم ينسقون نشاطهم لإيواء وإغاثة المتضررين مع ثلاث من المنظمات الإسلامية العالمية هي لجنة مسلمي أفريقيا وهيئة الإغاثة الكويتية والوكالة الإسلامية الإفريقية.
وذكر د. الأمين محمد عثمان المدير التنفيذي للمنظمة أن المنظمة لديها مشاريع جاهزة بشأن المشاركة في إعادة التعمير والتوطين كما أن بنك التنمية الإسلامي بجدة يدرس الآن حجم الكارثة لتقديم مساعداته لإعادة إصلاح المشاريع الأساسية والمدارس والمرافق العامة وأضاف أن وفودا حضرت للسودان بعد نداء المنظمة حيث حضر وفد رجال الأعمال السعوديين ووفد نقابة الأطباء والجمعيات الطبية الإسلامية بجامعة البترول بالظهران وتبرع بمبلغ ۷۰ ألف ريال كما وصل الخرطوم وفد من اللجنة العليا للإغاثة الكويتية ومنها جمعية الإصلاح الاجتماعي وممثلين للجان الخيرية الإسلامية بالكويت للاطلاع على الأحوال وترتيب ترحيل المعونات الكويتية إلى السودان.
- السعودية تفتح جسرًا جويًا مباشرًا بين جدة والخرطوم لنقل المعونات للشعب السوداني.
- المخرج من المحنة: الصبر والاتحاد والعمل.
ويلاحظ المراقبون جملة العون الخارجي الذي وصل السودان نصفها من المملكة العربية السعودية التي فتحت جسرا جويا مباشرًا بين الخرطوم وجدة ودنقلا وجدة كما لاحظ المراقبون أن ٨٥% من جملة العون من الدول العربية والإسلامية وأن الدول الأوروبية وكثيرًا من الدول الإسلامية كانت استجابتها لنداء السودان ضعيفا للغاية ما عدا إيطاليا.
أما دول المعسكر الشيوعي وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي فلم تتجاوب مطلقًا مع النداء ولم ترسل أية معونة للمنكوبين مع أن السودان هو الدولة الوحيدة التي سمحت بوجود حزب شيوعي علني.
ارتفاع الأسعار:
ارتفعت أسعار المواد الغذائية بالعاصمة ارتفاعا فاق حد التصور وانعدمت الخضراوات بعد الخسائر الكبيرة التي نجمت عن السيول والفيضانات في القطاع الزراعي على شريط النيل الممتد وتسبب انقطاع الطرق بين العاصمة والشمالية إلى شح كبير في الفواكه واختفت سلع الإنتاج الحيواني من البيض والدواجن والألبان والتي تأثرت مزارعها أيضًا بالسيول والأمطار، كما أن سلع الأرز والعدس واللبن المجفف اختفت تمامًا من الأسواق.
وتعاني العاصمة القومية من الشح في المواد الغذائية التي اختفت من البقالات والأسواق ويجد المواطنون الذين لم تتضرر منازلهم من الأمطار والسيول صعوبة كبيرة في الحصول على مواد المعيشة اليومية لأن الإغاثة تصل للمتضررين وأن العاصمة التي كانت تأتيها الإمدادات الغذائية من الضواحي والمزارع المحيطة بها انقطعت عنها الإمدادات لغرق تلك المزارع وانقطاع الطرق.
احتمال كارثة جديدة:
إن عاصمة السودان القومية الخرطوم معرضة إلى كارثة جديدة إذا لم تتضافر الجهود للتصدي لآثار الأمطار والسيول والفيضان وإزالتها بسرعة وذلك بوضع حلول عاجلة لاحتواء الموقف وأهم واجبات الحكومة والمسؤولين هي العمل على دفع الإحباط والعجز عن المواطنين لأن أمة تصاب بالإحباط صعب عليها تجاوز محنها والخروج منها بسلام. إن الأمة قادرة على تجاوز المحنة وعبور المصائب والكوارث إن اتحدت كلمتها وتوحدت صفوفها ولفظت الأجسام الغريبة عنها.
أسباب الكارثة:
لا شك أن كارثة السودان كبيرة وقد حلت به وهو غير متوقع لها وما كان المسؤولون ينتظرون أن يفتح الله أبواب السماء بماء منهمر ويفجر الأرض عيونا وسيولا ويرسل الطوفان والجراد آيات مفصلات بعد أن أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات ولكن الذي حدث حدث والحمد لله على كل حال ولكن لا بد من دراسة الأسباب والعوامل التي حالت دون احتواء الكارثة وتقليل حجم الخسائر والأضرار والتخفيف من معاناة المواطنين.
لقد صرح السيد حسن تاج الدين عضو مجلس رأس الدولة أنهم كانوا لا يتوقعون هطول الأمطار والسيول وارتفاع منسوب النيل إلى هذه الأرقام القياسية في العام الحالي وعزا ذلك إلى الجفاف والقحط والتصحر الذي ضرب البلاد في الأعوام الماضية وأضاف أنهم تلقوا تقريرا علميًا عن التوقعات المحتملة من أحد العلماء يؤكد أن هذا العام سيكون عام جفاف وتصحر مثل الأعوام السابقة وقال إنهم اعتمدوا إلى حد كبير على ما جاء بهذا التقرير إلا أنه كان خادعا ومبنيا على فرضيات غير سليمة.
الحقائق الغيبية:
إن هذا العالم المتنبئ ربما تخصصه في علم الأنهار أو الطبيعيات-والجغرافيا لو كان من أصحاب «العلمية الحقيقية» التي تربط بين واقعيات الحياة العملية والقيم الإيمانية لما كتب تقريره هذا الذي ينكر الحقائق الغيبية وكأنها تتعارض مع الحقائق العلمية.
إن كاتب هذه السطور متخصص في علم الأنهار والسدود وعمل في وزارة الري بالسودان عقدًا من الزمان ودرس علمه هذا في بلاد تنكر وجود الله وتنكر الغيبيات ولكن من واقع الإيمان بالله وبما جاء في القرآن الكريم من علم.
كنا نقول إن تاريخ وادي النيل من قديم يتقلب بين الرفاء والشدة وبين القحط والجفاف والطوفان والفيضان.
في قصة يوسف عليه السلام نقرأ ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ (سورة يوسف: 46:48)
نفهم من هذه الآيات أن وادي النيل تتعاقب عليه سنوات متتالية متتابعة مخصبة ثم تتلوها سنوات قحط وجدب ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة وتعقبها أعوام رخاء يغاث الناس فيه بالزرع وفيه يعصرون كرومهم وسمسمهم وفولهم وجميع محصولاتهم.
إذا فتحنا سورة الأعراف وبحثنا فيها تاريخ القحط والطوفان نجد أن الله قد أخذ أهل وادي النيل أيام فرعون وإبان رسالة موسى عليه السلام بالسنين أي بالقحط والجفاف والجدب ونقص من الثمرات ولم تكن هنالك أمريكا في ذلك الوقت لاستجلاب المعونات واستيراد القمح. ثم أعقبت تلك السنين عام طوفان وجراد وقمل وضفادع ودم آيات مفصلات!! اقرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ (سورة الأعراف: 133:130) والله إن هذه الآيات وكأنها نزلت اليوم فينا، الطوفان والجراد بعد السنين!!
علماء الطبيعة والظاهرة القرآنية:
لم ينتبه أحد من علماء الأنهار والطبيعة إلى الظاهرة القرآنية ولم يحاولوا تنزيل آيات الكتاب لواقع الحال ويستمدوا علمهم الدنيوي على ضوء علم الله ونوره فكان التخبط وكان ذلك التقرير الخاطئ الذي لم يهتد بهدي الله.
صحيح أن علماء الأرصاد في أوروبا يقولون إن جغرافية العالم تتغير بنسبة ضئيلة ولكنها مؤثرة مما سبب الجفاف والتصحر في أجزاء من العالم وإن غاز ثاني أكسيد الكربون قد تزايد في الجو مما كان له تأثير بالغ على الطقس ولكن توقعاتهم كانت تشير إلى أن آثار هذا التلوث لن تظهر إلا في بداية القرن الواحد والعشرين وتوقعوا تغييرًا في الطقس في شكل شتاء دافئ بلا جليد وارتفاع محدد في مياه البحار. ذلك ظنهم وليس لهم من العلم إلا الظن لأنهم يصفون ما يرون ثم يتنبئون وهؤلاء أصلًا مهتمون بمناطقهم وقارتهم ولا يهتمون كثيرًا بمشاكل ومعضلات الشعوب أمثالنا.
آن الأوان أن يتجمع علماؤنا لدراسة مشاكلنا وأمور حياتنا وطبيعة أجوائنا لا على ضوء العلم التجريبي الذي تلقيناه في معاهد وجامعات أوروبا فحسب ولكن أيضًا على ضوء ما عندنا من كتاب مبين بعقلية لا تنكر غيب الله لأنه لا تعارض مطلقا بين العلمية الحقيقية والغيب ومن ينكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعية الحياة العملية فهو ضال لأن أحداث هذا الكون لا تجري مصادفة ولا تمضي بفلتات عابرة كما يظن الجاهلون ولو كانوا علميين!!
يجب أن نغتنم الفرصة ونقف مع أنفسنا وقفة تأمل وتدبر وتفكر لنحول الكارثة بالصبر والإيمان والعمل إلى نعمة نخرج منها ونحن أصلب عودا وأقوى عزيمة فربما تكون المنن في المحن.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل