; كتاب الإيمان أثره في حياة الإنسان مقدمته تحدد منهجه.. وأهدافه | مجلة المجتمع

العنوان كتاب الإيمان أثره في حياة الإنسان مقدمته تحدد منهجه.. وأهدافه

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 11-فبراير-1975

مشاهدات 39

نشر في العدد 236

نشر في الصفحة 44

الثلاثاء 11-فبراير-1975

هذه مقدمة كتاب «الإيمان أثره في حياة الإنسان» الذي ألفه الدكتور حسن الترابي. حدد المؤلف منهج كتابه في هذه المقدمة؛ لكي يزود القارئ بخريطة فكرية في رحلته بين فصول الكتاب وصفحاته، و«المجتمع» تنشر هذه المقدمة كتمهيد للدراسة التي ستقدمها في عدد قادم - بعون الله- عن «الإيمان أثره في حياة الإنسان». هذا بحث في العقيدة الدينية من حيث هي قوة ذات أثر جليل في الحياة الدنيا، ومهما يتخذ الإنسان من عقيدة تنطيع حياته بأثر منها، ولو كانت من بنات الفكر والوضع البشري. لكن الإيمان يختص عما دونه من العقائد الوضعية بآثار بعيد مداها حميد وقعها في الحياة، وهو من ثم جدير بالنظر المخصوص، وما أدعانا لأن نقدر آثار الإيمان الصالحة؛ لنستبين جانبا من عظيم خطر الدين في زمان طفا فيه الفكر المادي الذي جعل لأوضاع المادة شأنًا تنكشف إزائه حقائق الدين الغيبية وتستحقر في جانبه إرادة النفس المؤمنة حتى آيس الإنسان من آخرته وأضر به في دنياه وكاد يحرمه من كل أثر طيب يحدثه الإيمان بحق الله وحتم لقائه وصدق رسالاته ومن كل سبب يبارك به الدين حياة المؤمنين ولعل في توفير شأن الإيمان وتقدير آثاره الطيبة ما يجلب الطمأنينة لأهل الاعتقاد ويدعو المكذبين إلى التصديق فتزكو نفوس بني الإنسان وتطيب حياتهم دنيا وأخرى. وإذا اغترب الدين في عصرنا وألف الناس شتى المذاهب العقلية والمادية والروحية من دونه، فربما نضطر إلى إشارات لما يعهد الناس من مذاهب استئناسا وتوطئة أو مقايسة بينها وبين العقيدة الدينية، ولكنا لا نبسط الكلام في تلك المذاهب ولا في آثارها العملية، إنما نعني في هذا البحث بالإيمان وآثاره- نخصه بالنظر ونجرد متن الحديث لبيانه، لا تصرفنا غربته إلى دحض الأوهام والشبهات عن جنابه، ولا تحرفنا ألفة المذاهب الوضعية إلى الإفاضة في شرحها أو في نقض حجتها وإثبات مضرتها. وقد يحسب المرء بادئ الرأي أن الدين كله شيء واحد تصور غيبي للوجود، وأن الديانات كلها ذات مغزى واحد- يتحد أثرها في الواقع على تباين أشكال الشعائر وفروع التعاليم والحق أن رسالات الله المتعاقبة- ما دبر منها وما غير- قد أحدثت توافقًا في أصول الديانات الكبرى السائدة في حاضر البشر، فالمرسلون إخوان دعوة واحدة المعنى بين رسالاتهم نسب واضطرار وثيق تصدق كل منها ما بين يديها وتبشر بما خلفها؛ لتجعل من أهل الدين أجمعين ملة واحدة، ولكن تقادم العهود وعوامل النسيان والوضع اخترمت أصول الدين الصحيح فتلاشت معانيه وتبدلت مظاهره حتى بقيت اليوم بقية أنبت ما بينها وبين السماء وأصبحت ركامًا من التقاليد والتصورات الموروثة. بل إن الديانات التي عهدها قريب بالسماء- كاليهودية والنصرانية- قد غلب عليها الوضع والابتداع في العقائد والأحكام؛ انطباعًا بالأوضاع المحلية وتأثرًا بالظروف التاريخية التي اكتنفت تطورها، وقد تطرأ عناصر الوضع على الدين من جراء اجتهادات تلحق به أول الأمر شرحًا وتفصيلًا من أجل تهيئته للنشر والتطبيق بما يجاوب حاجات العصر الفكرية والواقعية، ثم ما تلبث تلك الاجتهادات البشرية أن تتقوى بحجة الدين وتكتسب حرمته وتصبح تراثًا جامدًا يغمر برواسبه حقائق الدين ولا يزايله مهما تغيرت الأحوال والحاجات فلا تبقى للدين من بعد معانيه الأصيلة ولا آثاره المعهودة. فلا جرم أن أصدق الحديث عن الإيمان هو ما كان منسوبًا إلى الإسلام؛ لأنه الدين الخالص ذو الأصول المحفوظة ولأن سائر الأديان قد تبدلت عقائدها وشرائعها بما شابها من بدع شتى ما أنزل الله بها من سلطان فالحديث في شأن الدين ينبغي ألا يساق على سبيل الإطلاق، ولئن تشابهت الملل في مبدأ انبعاث الدوافع الدينية الفعالة فإنها تختلف اختلافًا كبيرًا في مدى مفعولها وصور تأثيرها في واقع الحياة وربما يصدق بعض ما نقوله عن عقيدة الإسلام على بعض العقائد الأخرى، دون أن تضطرد المعاني على وجه العموم، بل ينبغي أن نحرر الإسلام الذي قرره الوحي وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مما ينسب إليه من تصورات واهمة شاعت اليوم بين عامة المسلمين أو سادت في فترات معينة من تاريخهم، فذلك هو خلاق المسلمين في التبديل يضاهون به سنن الملل الأخرى حتى ينيبوا إلى كتاب الله المحفوظ وسنة رسوله الباقية. ولسنا بحاجة إلى تعريف الإيمان في دين الإسلام من عبادة الله الواحد والإيمان باليوم الآخر وبالجزاء والتصديق بالرسالة وبمسمعيات الغيب ثم تتدرج في هذه الأصول سائر شعاب الاعتقاد التي بسط علماء الفقه والكلام تفصيلها وأفاضوا في مباحث المعاني والألفاظ المتصلة بها، ولما كان همنا قاصرًا على بيان الآثار العملية للعقيدة فليس من شأننا أن نخوض في شروح الإيمان أو نسلك النهج المعروف في مباحثه، وإنما نعني بعناصره وشعابه من حيث تأثيرها في واقع الحياة فلا نعرض لها إلا في سياق ذكرنا لوجوه ذلك التأثير. والحديث عن الإيمان ذو شجون، ولا ينفك القرآن يجمل القول ويفصله في أمره، فهو يوالي سوق البراهين لقضاياه مذكرًا بأصله المركوز في فطرة النفس البشرية ثم هاديًا بالأدلة إلى وحدانية الله وصفاته الحسنى تقدسه عما يشوب تصورات البشر من أوهام وتنزهه عما يشركون ويشبهون. ويحشد القرآن المعاني؛ لإثبات مبدأ المسئولية يوم الدين، فهو يوجه الإنسان أن ينظر كيف بوأه الله الأرض وسخر له ما فيها وما حولها ليقدر أن مستقرة ومتاعه إلى أجل وأن الله ما خلق الوجود باطلا وعبثا وما ترك الناس سدى يلجون في خوض وتظالم وتدور عليهم دورة الحياة والموت بلا غاية ولا نهاية، بل جعل قدرهم أن يبتلوا في الدنيا أيهم أحسن عملا ثم يبعثون يوم الدين ليوفوا جزاءهم بموازين عدالة مطلقة. ويذكر القرآن بأن الإنسان وقد هبط إلى الأرض عرضة لفتنة الشر وإغراء الشيطان ولكن ربه يسعفه بالهدى يتنزل عليه على لسان المرسلين؛ تبيانًا للتي هي أقوم في شأن دنياه وآخرته، ويبسط القرآن دلائل صدق الرسل وقصص الصراع بين الكفر والإيمان، ويكشف للناس أمورًا سمعية تصور لهم عالم الغيب، ويوجههم في عالم الشهادة لما ينبغي أن يكون من سيرة المؤمنين، ويصور لهم كيف يتفاعل الإيمان مع شتى أحوال الحياة ويزف اليهم البشائر والنذر المرهونة بالأعمال. ومهما تكن معاني الكتاب الخالدة فإن المسلمين مدعوون في كل زمان ومكان لأن يقتبسوا منها ما يعالج واقعهم ليصوغوا من ذلك مقتضى الدين الذي يتعين عليهم ويناسب ظروفهم الخاصة. وهذا القبس المخصوص- مثل ما ينتج عنه من صورة تطبيق الإسلام- لاحظ له من خلود الكتاب، وإنما تقوم حجته ما قامت ظروف الزمان والمكان. بيد أن ركود المسلمين في العهود الأخيرة جعل الغالب من فكرهم الحاضر تراثًا تناقلوه من نتاج العصور السالفة التي كان فيها شأنهم مزدهرًا. ولنا إذا تأملنا مقالات الإسلاميين السالفين في قضية الإيمان أن ننسبها لثلاثة من وجوه النظر: أولًا: نظر المتكلمين والفلاسفة الذين تصدوا لبراهين الإيمان وإثبات حقائقه علاجا للمسائل التي طرحها الجدل مع الكتابيين والزنادقة والخلاف بين الفرق الكلامية عند المسلمين، ويغلب على ذلك كله قوالب المناظر وأساليب المنطق التي كانت سائدة آنذاك. ثانيًا: نظر الفقهاء الذين تورع كثير منهم عن الخوض في مناظرات علم الكلام ولكنهم شرحوا أحكام الإيمان والكفر شرحًا فقهيًا فحرروا ألفاظها وحددوا شروط انطباقها، لا سيما حين اتجه الفقه بعد طور الاهتمام بمقاصد الدين ومعانيه نحو الإيغال في مباحث الألفاظ والأشكال. ثالثًا: نظر علماء الدين الذين اشتهر من بينهم أهل التصوف والذين اهتموا بحقائق الإيمان الحية وراء أشكال المنطق وألفاظ الفقه فأبانوا دقائق الاعتقاد وشعاب العاطفة الدينية ومناهج التربية النفسية لتزكية الإيمان. وإذا قومنا اليوم هذه الوجوه من الفكر الإسلامي فإننا لا ريب واجدون لكل منها بعض القيمة الباقية لا سيما إذا جردنا أطرافها من الشطط الذي يبدو شذوذه اليوم أكثر مما بدا لأهلها يوم كان تحرير تلك الأفكار استجابة لأزمات حادة راهنة استدعت أن يبالغ أطباء المجتمع المسلم أحيانًا في وصف العلاج. ولكن ظروف فكرنا الحاضر أدعى إلى نظرة جامعة في العقيدة تأخذ أيضًا من معاني القرآن الخالد الذي لا تنفد ذخائره، بيد أنها تعني بجملة أثر الإيمان في الحياة، ولقد أصبحت الدراسة الواقعية لشأن الإنسان مشهورة وميسورة؛ لأن العلم البشري من تقدم أشواطا في اكتشاف نواميس الوجود قد أفاض في دراسة الإنسان يحلل الأصول النفسية لمواقفه وسيرته ويتأمل السنن العامة في نهج حياته، ولأنه قد انتشر الوعي بظواهر التطور الذي يكتنف حياة الإنسان واهتم الناس بتوجيه مصائر لحياة حتى غدت حركة التخطيط والتدبير والتغيير ناشطة في كل مجال. ولربما يتوهم المرء أن النظر إلى حياة الإنسان بنهج واقعي شامل لا يتأتى من زاوية الإيمان، حسبانًا بأن العقيدة من الدين ما هي إلا شطره الذي يتصل بتصور الحقائق النظرية وأن التعبير عنها في الواقع إنما يقتصر على الشهادة بصدق لتوقير الله وتكبيره والتخشع له والتضرع، ولربما يحسب المرء لذلك أن فساد العقيدة إنما يتجلى في خطل التقريرات التي تتضمنها شهادة العابد أو خطأ الوجهة التي تتوخاها شعائر العبادة. ولكن الإيمان معنى يتخلل كل وجود المؤمن وينبغي أن يتمثل في كل لحظة ولمحة من حياته، فعقيدة الإيمان تقوم على التوحيد والاستغراق، فهي موقف كلي ليس لوجوه التعبير عنها من حصر، بل مسرحها الحياة الإنسانية جميعًا، فحيث ما وقعت وقائع الحياة من فكر أو ذكر أو فعل فهي تحقيق وتربية لها في ذات الوقت. وتجري الحياة على الانسان بأحداث وأنماط لا تتناهى حسبما تصورها أقدار الله الواسعة- ما يكون منها متصلا بكسب البشر وما يمضي به سائر القضاء، فمهما كان قدر المؤمن في الحياة وحيثما وجد نفسه في أحوالها وجب عليه أن يمارس دينه، أن يعبد الله، أن يحقق عقيدته ويزكيها متفاعلا مع واقع الوجود، فالدين لم يشرع للإنسان في فراغ، وإنما يتحقق من خلال العيش في الأرض والتفاعل مع أشيائها وبشرها، ومن ثم تتم معرفة الرب وتقدير الغيب وتكون عبادته تعالى والسعي نحو لقائه. ولئن كان من العبادة أشكال مقررة مسنونة أدعى وأخلص لذكر الله فإنما ذلك هو النصاب الأدنى الذي يضمن للإنسان أصلى من التدين، ثم تلتمس وجوه العبادة وراء ذلك عبر مختلف أشكال الحياة وأعمالها، فإذا كمل إيمان المرء وخلصت عبوديته لله سرت روح الدين في حياته جميعا وانتظمت كل عمل تتيحه الظروف التي تلقيها بين يديه أقدار الله، فتتجلى العقيدة في المجال السياسي- إفرادًا لله بالحاكمية، ورفضًا لحكم الهوى والطاغوت، ومخافة لليوم الآخر في تصريف السلطة والولاية، ومجاهدة لقوة الباطل في سبيل الله، وتظهر العقيدة في المجال الاقتصادي إقرارًا في شأن المال بملكية الله وخلافة البشر وتوجيهًا للسعي في الرزق نحو مقاصد العبادة وعكوفًا عن التعبد للمتاع، وقيامًا في علاقات المعاش بمقتضى تقوى الله وطاعته، وتبدو العقيدة في المجال العلمي توحيدًا لمعقول العلم ومنقولا في سبيل الازدياد من معرفة الله، وتسخيرا له من أجل الاتساع في عبادته، بل تتمثل العقيدة في كل وجه من الحياة وتتكثف العبادة كلما تشعبت تلك الوجوه، فإذا صح الإيمان ووقر في النفس فاض في واقع الحياة حتى تغدو كلها مشهدًا له يحققه ويصدقه، وإذا أصابته انحسر عن بعض نواحيها حتى إذا غلب عليه الفساد أجدبت من مظاهره. فالحديث عن عقيدة الإيمان لا يقتصر على ترتيب المعلومات النظرية أو تعداد الواجب والمحال في حق الله والملائكة والمرسلين أو إحصاء سمعيات الغيب، ولا على المناظرة والكلام حجية أحكام الاعتقاد، ولا على تقرير الشروط اللازمة لصحة الشهادة بالدين أو الحدود التي تؤدي إلى الارتداد ولا على تحليل الأحوال النفسية اللطيفة التي تورثها شعاب الإيمان وإنما الحديث عن العقيدة حديث عن الحياة جمعاء. ويجدينا كثيرا أن في الإيمان بهذا الوجه الجامع فنستبطن مقتضاه في سيرة الفرد في أحول الجماعة ونقدر ما يحدثه في الإنسان من تبديل جليل.. وقد يكون لنا أن نعرف آثار الإيمان من استقراء الواقع التاريخي لدين الإسلام، فإن من أبلغ العبر أن ننظر كيف ألفى الإسلام في العرب شعوبًا مبعثرة الكيان تستقل كل طائفة منهم بولاء قبلي وولاية سياسية وينهك قواهم الحرب المضني فأحالهم بعد الشقاق إخوانا وجعلهم أمة واحدة وأقام عليهم سلطانًا مركزيًا شاملًا، وكيف كانت أطرافهم واقعة تحت نفوذ الآخرين، بل كان سائرهم غرضًا للغزو والتسلط فاستشرفوا بالإسلام إلى العزة والحرية وتصدروا لقيادة سياسية مسرحها العالم العريض، كانوا فقراء إلا من رحلتي الشتاء والصيف وأسواق التجارة الزهيدة فاستثارهم الإسلام إلى الجد والكسب الدؤوب وسخر لهم ثروات كانت مكنوزة وإمكانات كانت مهجورة وقاعدة إقليمية متزايدة حتى أحدثوا نهضة اقتصادية رائعة، والهند فأسسوا بدوافع الدين حضارة راقية أظلت العالم دهورًا طويلة وأفاضت عليه من خيرها العميم وكيف كانوا في مجال العلم خاصة أمة أمية فأهلهم الإسلام ليصبحوا أرباب المعرفة وأئمة العلوم ابتداعًا وتنظيمًا وتدوينًا ونشرًا فأقاموا مراكز العلم التي أشعت على أوربا من نورها فأيقظتها من سنة القرون.. ولنا أن نرد كل هذه النهضة الهائلة السريعة إلى دوافع الإيمان الفياضة التي هاجت ذلك الجيل الإسلامي الأول وعبأت طاقاته في حملة ضخمة تفاعلوا فيها مع ظروفهم الجديدة فشادوا ذلك المجد الشامخ، وأن ننظر كيف خبا وقت ذلك الإيمان من بعد وخلف خلفًا ذبلت في نفوسهم معاني الدين الحية وغلب عليهم اتخاذ الدين نظاما لظاهر الحياة فتعثرت تلك الدفعة وتلاشت قواها ولقد ظلت بعض وجوه حياة المسلمين تزدهر زمنا ما، ولكن النكسة أدركتها بعد حين وتداركت مظاهر الانحطاط. ولنا أن نتأمل موكب التاريخ الإسلامي اللاحق لنرى أنه ما تنبعث الحياة في عقيدة المسلمين في بقعة أو فترة ما إلا لتولد تيارًا فعالًا يحدث أثرًا ملموسًا في بعض حياتهم أو كلها حيثما اتجهت طاقته ثم لا يسقط إلا إذا أدركه فتور العقيدة أو هدته ظروف قاهرة تستدعي قدرًا أعظم من الإيمان أو خذله الجهل بعلم الشريعة فتخبط سدی. وللباحث أن يرقب تاريخ سائر الأديان ليقف على مشاهد شتى لشدة فعل العقيدة في الحياة في سياق ظروف مختلفة وعلى شواهد بينة الأثر أمراض العقيدة في انحطاط المجتمع- حينما يصبح الدين مراسم ومظاهر والنفوس خواء من الإيمان، أو حينما يتوافر الحماس الديني بغير هدى من العلم. بيد أنا لا ننهج في هذا البحث نهج الاستقراء لتاريخ الدين فذلك شأن المؤرخين «وإن لم تكن مدونات تاريخنا قد رصدت كثيرا من هذه الزاوية»، وإنما نتوخى التحليل دون القصص، وقد يماري مكابر في الدين بأن فاعليته كانت رهنا بظروف مواتية في مرحلة منصرمة في مدارج تطور البشرية، فإذا تسنى لنا بالتحليل والتدبر أن نكتشف في الإيمان عناصر قوة فعالة أمكننا أن نفسر سوالف النهضات الدينية ونقدر إمكانات الانبعاث في المستقبل على أساس من الإيمان. وصحيح أن للظروف الراهنة في كل عصر اعتبارا ذا بال؛ لأن قوة الدفع الإيماني إنما تتفاعل مع تلك الظروف لتنتج مظاهر النهضة الحضارية، ولكنا نخص الإيمان في ذاته بالنظر لنتعرف شيئا من قوانين قوته ووجوه اندفاعها ومن طبيعة آثاره ومدى نفعها العميم. وقد لا يرتاب المؤمن في جدوى الإيمان ولا يتساءل عن نفعه؛ لأنه بما آمن بالله واعتصم به واستقام على عبادته- يعلم أنه مؤيد بأقدار الوجود كلها مهيأ لأسباب الخير، فإليه تعالى ترجع الأمور والأسباب- يوفق سعي المؤمنين ويبارك جهدهم ويجعل لهم من أمرهم كله ما تطيب به الحياة، والله جل شأنه إنما يرتب الآثار الصالحة على الإيمان بسنن مقدرة ثابتة كما يقضي بذلك سائر نهجه في الوجود. ولكن من تلك المقادير ما هو علم غيبي لا نعلم طرقه إلا من الأصول الدينية التي ترهن عواقب الخير بشرط الوفاء بواجب الإيمان اعتقادًا وعملا، فعاقبة الإيمان بهذا الوجه وعد حق يستيقنه المؤمن بعقيدته ويعرف صدقه من تجاربه الذاتية ومن اعتباره بواقع المؤمنين. بيد أنا لا نريد إحصاء منافع الإيمان استنباطا من النصوص التي تبشر المؤمنين بحسن المآل، كما لم نلتمسها في استقراء تاريخ المؤمنين، وإنما خطتنا أن ننظر في طبيعة الاعتقاد الديني وشعابه ومقتضياته فنقدر النتائج التي تترتب عليه بالنظر الظاهر حسب أسباب الدنيا المعهودة المشهودة. ولا يعالج البشر قضايا الحياة إلا بإدراك عليل وعلم قليل، فليس لامرئ مهما أنعم النظر ووالاه أن يحيط بأبعاد التأثير النافع للإيمان، ولا يغنى المؤمن إلا أن يطلب ذلك في نصوص الوحي المنقول ليتم له العلم ويكتمل التصور، فلا مطمع لنا من هذا البحث في أمر الإيمان إلا أن نتأمل في بعض الأسباب المعقولة لنا مما يبارك الله به حياة المؤمنين- عسى أن نكتشف من خلال تلك التأملات وجوها من تأويل حديث القرآن عن الإيمان، أو أن تقوى بها قناعتنا بعظيم شأن الإيمان في الحياة الدنيا فيشتد اطمئناننا وإيقاننا بحقائق الاعتقاد، أو أن نهتدي إلى جانب من حكمة الله في الوجود تزيدنا معرفة به تعالى وقربا من جنابه.
الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الشورى أم الاستبداد؟

نشر في العدد 41

18

الثلاثاء 29-ديسمبر-1970

يا حكام الخليج اتحدوا

نشر في العدد 236

11

الثلاثاء 11-فبراير-1975