; كتاب «الإيمان.. أثره في حَياة الإنسَان» «القسم الأخير» | مجلة المجتمع

العنوان كتاب «الإيمان.. أثره في حَياة الإنسَان» «القسم الأخير»

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 18-فبراير-1975

مشاهدات 23

نشر في العدد 237

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 18-فبراير-1975

هذه مقدمة كتاب «الإيمان.. أثره في حياة الإنسان» الذي ألفه الدكتور حسن الترابي. حدد المؤلف منهج كتابه في هذه المقدمة. لكي يزود القارئ بخريطة فكرية في رحلته بين فصول الكتاب وصفحاته. «والمجتمع» تنشر هذه المقدمة كتمهيد للدراسة التي ستقدمها في عدد قادم- بعون الله- عن «الإيمان.. أثره في حياة الإنسان». ولقد وضح من فحوى القول إن همنا في أمر الإيمان يقتصر على آثاره العاجلة التي تحدث في دنيا الإنسان فتقيم له أموره وتصلح معاشه ومحياه. ولا ريب أن الدار الآخرة هي الحيوان في حساب الدين وأن عيشها خير من عيش الدنيا وأبقى، وأن غاية الإيمان وما يواكبه من عبادة وعمل إنما هي ابتغاء وجه الله وأن ثمرته العظمى وأثره الأجل أنه مفتاح الفوز يوم القيامة بالنعيم العظيم الديوم، عيشة الجنان الهنيئة ورضوان الله الأكبر، فما من بشارة دينية بنعيم الآخرة إلا جاءت مقرونة بشرط الإيمان والعمل الصالح شاهدًا له، أو إنذاره بالشقاء إلا جاءت رهينة بالكفر والتولي. تلك معانٍ لا حاجة لأن نستشهد لها بنصوص الدين لأنها من بدائهه ومقتضياته الأساسية والإيمان بها هو عماد الدين لا قوام له من دونه. ولكن الدين يقتضي أيضًا أن الحياة العاجلة مطية الآجلة وأن الطريق الراشد الذي ينتهي إلى آخره طيبة يعبر الدنيا فيطيبها، فصلاح الدار الأولى فضلة تنتج بين يدي صلاح الأخرى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: ٩٦). فللإیمان من دون العاقبة العاجلة المرضية ثمرة عظيمة وآثار جليلة في عاجل حياة الإنسان.. هو الذي يبحث على عمران الدنيا بالصلاح وصونها من الفساد بوجه لا يضاهيه شيء مما يحاول الناس بغير الدين. ولا ندعي في بيان فائدة الإيمان أو ضرورته في الحياة الدنيا ما يؤسس حجة ملزمة تثبت حقائق الدين، كما لا ينبغي أن يستأنس بذلك البيان الذين يردون الدين كله إلى مجرد ظاهرة اجتماعية وضعها الإنسان للوفاء بحاجاته. ولا نتوهم أن الدنيا هي مبلغ علم المؤمن أو أكبر همه، فليس من الدين- كما قدمنا- أن يبتغي المرء بإيمانه عرض الدنيا القريب دون الآخرة، بل تلك بغية خائبة لا محالة لأن إيماننا كهذا عقيدة عقيمة لا تثمر في عاجلة ولا في آجلة. ولكن كثيرًا من مواقف الناس نحو الدين فرع عن رأيهم في جدواه العاجلة فإذا لم يرجوا به خيرًا أو يخشوا من دونه شرًّا في حياتهم العاجلة فالأولى في حسبانهم ألا يكون فيه خير في الآجلة، وينقلبون من هذا الحكم الغائي على الدين إلى مقدمات الاعتقاد الأولية فينكرونها أو يأخذهم بها الشك حتى يلتمسوا الطمأنينة في إهمال مسألة الدين جملة واحدة ويتقلبوا في حياتهم غير آبهين بشأنه البتة. ولعل انصراف كثير من أتباع الدين في العالم اليوم عن دينهم عائد إلى أن التقاليد الدينية الموروثة حجبت أصل الدين الخالد عن الناس فلما تخلفت تلك التقاليد عن حاجاتهم الحاضرة صدوا عن الدين كله، غير مكترثين لحجج المناطقة المتدينين ولا لإنذارات الفقهاء المفتين ولا أخبار الصوفيين عن مكاشفات عالم الروح. - * *- ولربما يلزم المرء- ليستوفي تقدير مغزى الدين في واقع الحياة- أن يعم بنظره كل التعاليم الدينية عقيدة وشريعة. ولكن بحثنا هذا إنما يقتصر على عقيدة الإيمان. ولا يستقيم بالطبع أن يكون الفصل بين نظام الدين العملي وعقيدته فصلًا بائنًا، فالأحكام الفرعية العملية إنما هي وجوه التعبير عن الإيمان في واقع الحياة، وهي في ذات الوقت أسباب تزكية لمعانيه في النفوس، كما أن الإيمان ينصب الغاية التي ينبغي أن يتجه إليها كل عمل، ويمثل القاعدة التي تندفع عنها طاقاته. فالدين واحد في معانيه، تتكامل فيه العقيدة والشريعة. وهو في حقيقته الواقعة، العقيدة تدفع المؤمن لصالح الأعمال وتضبطه عن سيئاتها وتخط له معالم تجدي الخير والشر في الحياة، والشريعة بمبادئها العامة وأحكامها الفرعية هي دليل العمل ونظامه تبين اتجاهاته وأشكاله وترسم علاقاته وحدوده.. فبالإيمان يستمد المرء قوته ويهتدي إلى وجهته في الحياة، وبالشريعة يتعلم أي نحو مفصل ينحو بعمله في واقع أحواله المعنية كما يتعرف دقائق نظم السلوك وضوابطه. وما دام الإيمان واتّباع الشريعة وجهين للدين متلازمين متكاملين فإن الآثار الخيرة الناتجة عنهما في الحياة الدنيا يمكن أن ترد بحق لأي منهما. فالإيمان سبب في منافع الدنيا ومتاعها: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ﴾ (يونس: ۹۸). والشريعة طريق إلى العيش الهنيء ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ (طه: 123- 124). وإن هذا التلازم الوثيق بين الإيمان والتعاليم العملية يبلغ دروته في دين الإسلام الذي احتفظ بنسجه الرباني الموضوع وتكامله الموزون ولم تخالجه اختلافات الوضع واختلافاته. ومهما يكن من ذلك فإن الاقتصاد في الحديث يدعونا لأن نصوب النظر إلى جماع آثار الدين في الحياة كما تفضي إليها أصوله العقدية أو إلى النتائج العملية الأساسية التي يقتضيها الإيمان- يتحقق بها وتصدقه في واقع الحياة ولأن نكفه عما يؤيد ذلـك ويفصله من مقتضى الأحكام الشرعية- إلا إشارات عابرة نومئ بها إلى طرف من الأحكام التي تستكمل معاني الإيمان وتشكل منها أبنيات النظام الاجتماعي وأطر الحياة الدينية. إلا أن التصديق بأصل الشريعة والعلم بها شعبتان من العقيدة يستلزمها الإيمان ولا يتم إلا بهما، فالشريعة بهذا الوجه من صميم ما نشمله بالنظر لنستبين أثره العام في الحياة. - * *- ولئن كففنا الحديث عن أمر الشريعة فلعل في إرساله في أمر الإيمان استكمالًا لازمًا لبعض الدراسات التي تصف نظام الإسلام من حيث أحكامه وأوضاعه العملية. وقد كان ذلك النهج فاشيًا عهد ازدهار الفقه الإسلامي، ثم دعت مناهج العلوم الاجتماعية في حاضرنا إلى دراسة نظم الحياة بوجه واقعي وإلى المقايسة بين المذاهب المختلفة ليتسنى الحكم بين فضلها أو قصورها في الوفاء بالحاجات وتوفير الخير للإنسان. ومنذ كان ذلك غدت المناظرة مألوفة بين الإسلام والنظم الأخرى، لا سيما أنه بأصله نظام كلي متميز وأنه يقف اليوم بأهله وجهًا لوجه مع سائر الملل في عالم وثيق الاتصال. ولا شك أن للإسلام بكونه وحيًا منزلًا من الله خصائص تميزه عن جملة مذاهب البشر الوضعية مهما اختلفت أسماؤها، ذلك أمر يثبت للناظر أيًّا كان اعتقاده في حق الإسلام وباطل الأهواء. لكن أعظم تلك الخصائص أن شريعته العملية مؤسسة على قاعدة من معاني الإيمان، ولا يستقيم الدين البتة إذا جرد من تلك المعاني ولم يعتبر منه إلا الأحكام والأوضاع، فذلك اعتبار يصوره صورة ممسوخة بما يسلب منه العنصر المؤثر الفعال ويدخله في زمرة النظم المادية الدنيوية. فعنصر الإيمان هو الروح التي تحيا بها نظام الشرع، وهو لذلك جدير بدراسة مخصوصة ليتم لنا تقدير الشريعة حق قدرها فإذا نسبناها إلى شرائع الوضّاعين تجلى فضلها بوجه لا تبرزه أبدًا مقارنة صورة منها ميتة إلى سائر النظم. ولعل في ذلك ما يهيئ أهل شريعة الإسلام ليجابهوا الغزو الفكري الذي يعصف بهم من كل جانب، بل ليتصدوا للعالمين بدعوتهم إليها ومجاهدتهم بها جهادًا كبيرًا. - * *- ومهما تكن جدوى الحديث عن الإيمان لدحض شبهات المرتابين في أصل الدين أو لإقناع الملل الأخرى بفضل الشرع الإسلامي وفاعليـة نظامه، فإن المسلمين في خاصة أمرهم بحاجة للتذكير بعظيم شأن الإيمان. ذلك أن سوادًا عظيمًا منهم يكتفى من دينه بإجراءات تعبد يوقعها أشكالًا ظاهرية، وبمعاملات يرائي بها المجتمع الذي يراقبه، وبآداب في اللفظ الجاري على اللسان، ويحسبون أن البر والبركة في اللفظ والحركة دون كبير اعتبار لمقاصد الدين ومعانيه الحية. وما علة انحطاط المسلمين في أمور الدنيا إلا أن تضاءل في نفوسهم الإيمان حتى غدت منه خرابًا بعد عمران: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11) فتراهم يتسابقون في انضباط السلوك الظاهر وفي حساب التعاويذ والأذكار وطويتهم هواء، لا تجيش بحواث الإيمان وعزائمه التي تحدث النهضة في واقع الحياة. ولو أنهم أصلحوا ما بأنفسهم فصدقوا الإيمان باطنًا ثم استقاموا ظاهرًا على حكم الشرع؛ لتقبل الله منهم وأصلح حالهم وبارك سعيهم نحو حياة أفضل. وإذا ذكر الإيمان وعظم شأنه في الحياة لزم التنبيه إلى ضرورة تربية معانيه في نفس المؤمن لتربو آثاره وتشتد، وتثقيفه بالعلم لتستقيم وجهته؛ ذلك أن الإيمان ليس كبعض تعاليم الشريعة حكمًا منضبطًا ظاهرًا حده وشرطه، وليس اسمًا تترتب عليه الآثار بصورة آلية ويعقب الخير فور شعوره بدرجة من درجات القوة ثم يطرأ عليه النمو أو الذبول حسب حظ صاحبه من أعمال التعهد أو التضييع- العلم والعبادة أو الخوض واللهو. فلا يجدي إيمان لا يتخوله صاحبه بالتربية لأنه لا محالة آيل إلى ذبول حتى يغدو مجرد خاطر يقوم بالذهن غير دفاع ولا مناع، ولا يستقيم دين بغير علم لأنه يصبح قوة رعناء لاغية أو باغية. فكل ما نصف من آثار جليلة لعقيدة الإيمان إنما ينبني على شروط الوعي والقوة في دين المؤمنين. ولكننا نستعفى بهذا التنبيه عن أن نخوض في أمر التربية الدينية ووسائلها لئلا يتطاول البحث. - * *- ونمضي في ختام هذه المقدمات في حصر حدود الإيمان فنقرر أنا لا نقصد ولا ندعي الإحاطة والشمول، وأنا لا ننهج في بحثنا نهج علوم النفس أو الاجتماع ولا ننسبه إليها، وإنما هي خواطر حول الإیمان ووقعه في الحياة راودت صاحبها لزمن مضى، ثم قيض الله له أن يحتبس عليها فيقيدها عفوًا لا يتكلف البحث الوافي ولا تتيسر له أسبابه، وها هو يخرجها إلى سماحة القراء. وبالله التوفيق.
الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

خير أمـة أُخرجت للنـاس!

نشر في العدد 14

30

الثلاثاء 16-يونيو-1970

مع القراء- العدد 14

نشر في العدد 14

26

الثلاثاء 16-يونيو-1970