العنوان «كفوا أيديكم... وأقيموا الصلاة»
الكاتب محمد عبد العزيز جبر
تاريخ النشر الثلاثاء 29-أغسطس-1972
مشاهدات 16
نشر في العدد 115
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 29-أغسطس-1972
ليس أضر على الدعوة والدعاة من المحاربين لهـا، الصادين عن سبيلها، العاملين على إطفاء نورها، إلا أولئك النفر، الذين ينتسبون إليها، ويرفعون لواءها، ويجاهدون في سبيلها، على غير فقه بالغاية، ولا دراية بالوسيلة، ولا التزام بطريق رسل الله من قبل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأداهم ذلك إلى التهور والاندفاع، وقادهم إلى التخبط والإسراع، فأضروا وما أفادوا وأفسدوا وما أجادوا، وحسبوا أنهم على الحق الذي لا يجوز خلافه، فاشتدوا على إخوانهم، واجتمعوا على أساتذتهم، ولم يلتزموا في ذلك بأدب الإسلام، ولا تحلَّوا بأخلاق عباد الرحمن، وإن تجاوز الحد في الغيرة على الحرمات، والحدة والعنف في نشر الدعوات، زيادة عما حدّه لنا رب السموات، كل ذلك ممقوت كمقت التفريط فى الدعوات، مذموم كمذمة التضييع للحرمات، مكروه كراهة العجز عند العقبات.
وإنما الحق الذي أمر الله به، وحث عليه، هو التوسط والاعتدال، وعدم التعدي في جميع الأحوال، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 193)، وقال سبحانه ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ (المائده :8) أي لا يحملنكم بغضكم لقوم وعداوتكم لهم على تجاوز الحد في معاملتهم والتعدى عليهم، ولكن.. اعدلوا أيها المسلمون، فذلك أقرب للتقوى..
غير أن هذا العدل شاق على النفس، والتوسط والاعتدال كانا دائما مطلبين عسيرين، وغايتين بعيدتين؛ فالنفس ميالة إلى الإفراط أو التفريط ولها في ذلك شهوة خفية، والاستقامة على الحد المشروع له في النفس مرارة يعرفها من يجاهد نفسه ليلزمها الجد حتى لا تغضب إلا لله وبالقدر الذي شرعه الله، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه هم بجلد رجل لله فشتمه الرجل فأمسك عمر عن جلده وقال: «كنت أريد جلده لله، فلما شتمني خشيت أن أفعل غضبًا لنفسي»، وتطاول عليه أحد الجهال في مجلسه رضي الله عنه فهَمّ به فقال أحد الصحابة «يا أمير المؤمنين خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» فأمسك عمر وكان وقّافًا عند كتاب الله يحيط نفسه بالحفاظ حتى يذكروه دائما بالحق الذي يجب عليه التزامه ورضي الله عن جميعهم وألزمنا سبيلهم.
ولعل هذا سر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه الترمذي «فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي»، ولعلنا لا نفقه سر هذا الفرق الشاسع بين العالم والعابد إلا إذا أدركنا الأخطار المردية والأخطاء المهلكة التي نتجت عن قيام دعاة إلى الله، لا نتهمهم في إخلاصهم، ولكن في علمهم وفقههم للغاية التي يدعون إليها والوسيلة المشروعة التي لا يحل لهم سلوك سواها، غير أنهم لجهلهم سلكوا سواها، دون أن يخافوا عقباها ولا حول ولا قوة إلا بالله هو حسبنا ونعم الوكيل ..
قبل عشرين سنة تقريبا كان يتولى منصب الإفتاء في مصر فضيلة الشيخ حسنين مخلوف، وحدث أن سألته سائلة عن حد عورة المرأة وما يجوز كشفه وما لا يجوز فأجاب بأن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، ونشر الحديث في جريدة الأهرام المصرية، فثارت ثائرة جماعة مسلمة كانت ترى أن المرأة كلها عورة من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وطلعت علينا صحيفتها بعنوان بارز وباللون الأحمر تقول
«نتهم مفتي الديار، بجهله بالأحكام، أو تواطئه على الإسلام» وفي الأعداد التالية كانت قد تلقت رسائل التأييد من أتباعها ونشرتها تباعا تحت عنوان «مفتي الديار يلتقم الأحجار» والتزم فضيلته بأدب العلماء ولم يحرك ساكنًا.
وللأسف كنت واحدا من الذين بعثوا برسائل التجريح عن جهل مني إذ كنت يومها في السادسة عشرة، ولم أقصر في التطاول على مقام شيخ كريم غير أن رسالتي لم تنشر والحمد لله وأستغفره.
هذا مثال، وأخطر من ذلك صدر من جماعات أخر كثير، غير أني لا أريد الحصر، وحسبي الإشارة والله يتولى هدايتنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولقد ذكرت في بعض كلماتي السابقة ما يدل على فقه أئمتنا لغايتنا الأصيلة، وإدراكهم لسبيلها القويم وجهادهم لحمل الناس عليها، وقلت: «غير أن البلاء جاء من خلافهم».
وهذه حقيقة..
وضربت أمثلة لذلك، من اجتماع الإمام الشهيد حسن رحمه الله بطلبة الجامعة محاولا أن يقنعهم بأن طريقهم غير طريق الأحزاب السياسية، غير أنهم أبوا إلا الخوض فيما خاض فيه الناس.
ولم تُجدِ حكمة الشيوخ في وقف اندفاعة الشباب... وخالفوا ....
وهذه واحدة ..
والأخرى... حادثة عابرة لعل الكثير ممن شهدها لم يُلق لها بالاً، غير أني لا أنساها إن شاء الله؛ لأنها عندي من أدل الدليل على سلامة اتجاه فضيلة المرشد حسن الهضيبي وفقهه بطريق الدعوة المستقيم الآمن بإذن الله.
كان يتحدث في جموع الإخوان الحاشدة، وكان الشـباب كعادتهم يسارعون بالهتاف والتكبير كلما أثارت عاطفتهم كلمة الخطيب أو المحاضر، وهو سلوك حميد لولا أنه يدل على عاطفة متأججة لا تستمسك وانفعال عنيف لا تحمد عقباه، فصبر المرشد حتى أحس أن الأمر قد خرج من حد الاعتدال فصاح بالشاب الذي وقف يهتف قائلا بحدة «اسكت» فأسكته.. وتعلم الشباب درسا في الاتزان..
غير أن الأحداث التي تتابعت بعد ذلك جعلت حكمة الشيوخ تقف ذاهلة أمام اندفاعة الشباب.. وخالفوا مرة أخرى.
وخالفوا مرة ثالثة.. غير أني لن أخوض في تفاصيل ذلك، وسأكتفي بذكر النص الذي خولف وترتب على خلافه امتحان بالغ الرهبة.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾(النساء: 77)
أ- كفوا أيديكم.. أي عن القتال ورد العدوان..
ب- وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.. فهذا اليوم شأنكم.. والأمران في مكة.
أما في المدينة.. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾(النساء: 77).
ولأدلل بقوة على أن أستاذنا الشهيد رحمه الله ممن هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه سأنقل تفسيره لهذه الآية بالنص حتى يتبين للمتهورين المتعجلين أن أستاذهم الذي يحتجون بقوله على اندفاعاتهم على غير مذهبهم ولا يرضى عن حماستهم.
ولننظر:
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال حـ 5 ص ٤٥ ما نصه:
«إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا.. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويتحملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف.. فيصبرون ويمهلون ويعدون للأمر عدته.. والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا، وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك.
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة، فيندفع بطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى وحفظ الكرامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص، لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة ضرورة. ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ ﴾(النساء:77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً، بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى، وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض، وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ إنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظام العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو، وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه، وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك وينهي عن الجهاد» انتهى بنصه .
وبعد:
فهذا مَعلم أساسي من معالم الطريق خولف من بعض أهل الطريق..
ومرة ثالثة.. لم تُجدِ حكمة الشيوخ في صد اندفاعة الشباب.. وخالفوا.. أترانا نفقه؟
كم من دروس أليمة قاسية، وتجاريب مريرة مبكية، ومآس عنيفة، صنعناها باندفاعنا وتهورنا، وخضناها بجهلنا وتسرعنا، وفتن فيها الرجل والطفل الصغير والمرأة والشيخ الكبير وحسبنا الله ونعم الوكيل..
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: 165)
صدق الله العظيم.. قل هو من عند أنفسكم.. أترنا نفقه.. يا ليت صحبي يعقلون.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل