العنوان كلينتون.. والأزمة الحضارية
الكاتب نبيل شبيب
تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1992
مشاهدات 16
نشر في العدد 1028
نشر في الصفحة 34
الثلاثاء 08-ديسمبر-1992
مسؤول القسم العربي في إذاعة الألمانية - بون
بلغت التقارير والتحليلات والتوقعات بصدد الانتخابات الأمريكية حد الإشباع، وكان القسط الأكبر منها منصبًا على الجانب الاقتصادي الداخلي والنتائج السياسية الدولية المحتملة في الدرجة الأولى، مع اختلاف مواطن التركيز على حسب اختلاف المواقع والاهتمامات.. ويلفت النظر أن تعداد ما تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية من أزمات ومشكلات داخلية وعلى المستوى الدولي من زاوية تعليل خسارة بوش، كان يتضمن إشارات لا بأس بها إلى الخلفية الحضارية والفكرية ولكن كان من النادر رصد تحليلات أو تنبؤات ما بصدد النتائج المستقبلية على هذا الصعيد.. الذي لم تبدل نتائج الانتخابات محتواه أو مجراه.. وإن ساهمت في الكشف عنه نسبيًا.
محور الفشل:
ذكرت أسباب عديدة استنبطها من يتابعون عمليات استطلاع الرأي وتفاصيل توزيع نسب الأصوات لتعليل فشل الرئيس بوش في الانتخابات بعد أن بدأ قبل عام واحد في قمة الشعبية التي يرجوها رئيس أمريكي لنفسه، وفي قمة تصميمه على متابعة الطريق الأمريكي لإقامة نظام دولي بزعامة أمريكية.. ولكن السبب الرئيسي الذي يجد ما يشبه الإجماع هو الوضع الاقتصادي، قد اعتبر هو العامل الحاسم وهو المجال الذي سبق أن أهمله بوش منشغلًا بالقضايا الدولية فهل يمكن الوقوف عند هذا الحد من التعليل والتحليل؟ إن التأمل في بعض التفاصيل يوصل إلى الاقتناع بأن المشكلة الحقيقية لم تكن تكمن في «انهيار.. أو ركود.. أو ضعف شديد» على المستوى الاقتصادي بل كانت ولا تزال- تكمن في «خلل نوعي» عميق الجذور.. ويعيد النتائج، على المستوى الاجتماعي الداخلي في الدرجة الأولى، ولن يكون دون أثر على المستوى العالمي أيضًا.
والوضع الاقتصادي ما بين الازدهار والركود مقاييسه المعروفة، فإذا رجعنا إلى بعضها أمكن التأكيد على أن أزمة الاقتصاد الأمريكي لم تبلغ تلك الدرجة من الخطورة من الناحية الإجمالية، كما كانت توحي به التحليلات المذكورة! فرغم العجز المتصاعد في الميزانية السنوية والذي يزيد حجم الديون على كاهل الدولة -وهو ما يسري على سائر البلدان الرأسمالية- فإن الموازنة بين الاقتصاد الأمريكي، والأوروبي المنافس له عالميًا تبقى إيجابية فمن ذلك مثلًا «والمصادر أمريكية وأوروبية»:
- نسبة النمو الاقتصادي الأمريكي ٢ إلى 2.5% وكذلك الأوروبي
- ونسبة التضخم ما بين 5.3 و5.5% وفي الرابطة الأوروبية 5.6 و5.8%
- ونسبة البطالة الأمريكية حوالي 7.5% والأوروبية 9.5%
- ووسطي دخل الفرد الأمريكي ٢٢ والأوروبي ١٧ ألف دولار في السنة.
- وسجلت الصادرات الأمريكية عام ١٩٩١ زيادة بنسبة 7% فبلغ حجمها ٤١٦,٥ مليار دولار.. واحتلت التجارة الأمريكية المرتبة الأولى عالميًا بنسبة 12%
- ولا تزل الشركات الأمريكية تحتل ٥٠٪ من قائمة الشركات العشرة الكبرى في العالم و70% في قطاع صناعة السلاح.
رغم ذلك فالأزمة قائمة.. إنما ينبغي تحديد معالمها في قطاع آخر هو القطاع الاقتصادي - الاجتماعي في الدرجة الأولى، فهو الذي يترجم المنجزات الاقتصادية الجماعية التي تعبر عنها أرقام إيجابية كالمذكورة أعلاه، إلى واقع يومي يعيشه الفرد فإما أن يصل ذلك إلى أكبر عدد من أفراد المجتمع الواحد وبنسبة متقاربة على الأقل.. أو يكون الخلل..
وهنا يظهر للعيان أن محور أسباب فشل بوش هو «نوعية» السياسة الاقتصادية وليس نتائجها بالمقاييس التقليدية في البلدان الرأسمالية الصناعية.
معالم الأزمة:
ويمكن الاطلاع على النتائج الاقتصادية - الاجتماعية في مصادر عديدة منها كتاب بعنوان «سياسة الثراء والفقر» وله قيمته الخاصة باعتبار انتماء مؤلفه «كيفين فيليبس» إلى الجمهوريين، مثل ریجان وبوش ومن الأمثلة على ما جاء فيه:
كان وسطي دخل مدير الأعمال يعادل ١٢ ضعف الدخل الوسطى للمستخدمين لديه عام ١٩٦٠ م وهو الآن أكثر من ٩٣ ضعفًا.
- كانت نسبة الضرائب المفروضة على أصحاب الدخل المرتفع تعادل 70% عام ١٩٧٧م وأصبحت الآن 28% وفي المدة نفسها رفعت السلطات نسبة الضرائب المفروضة على الطبقة المتوسطة من ۲۸ إلى 33% وكان من نتائج هذا الإجراء فقط نقص حجم واردات الدولة من الضرائب من فئة الأثرياء بما يعادل ٧٢ مليار دولار في العام الواحد..
- وفي فترة رئاسة «ريجان وبوش» أيضًا ازداد ثراء 20% من السكان في الطبقة «العليا» بمعدل 9% وتناقص دخل نسبة مماثلة من الطبقة الدنيا، الأفقر في المجتمع بمعدل 20%
لقد ارتفع عدد الفقراء خلال عشرة أعوام من ٢٢ إلى ٣٣,٦ مليون، أي حوالي 14% من السكان ولكن ليس بسبب نقص في ثروة البلاد أو انهيار اقتصادي ما.. ففي المدة نفسها ازداد عدد أصحاب الملايين من ٥٧٤ ألفًا إلى الضعف تقريبًا أي أكثر من 1.3 مليون في الوقت الحاضر ومنهم ١٠٠ ألف بثروة فردية تزيد على ١٠ ملايين و٥٠ من أصحاب المليارات.
- وكان من إجراءات الدولة للتوفير اختصار المخصصات المالية للدعم الاجتماعي في القطاعات الصحية والتعليمية مثلًا.. وبلغ ذلك نسبة 33% في ١٠ سنوات وكان من النتائج أن عدد من لا يجدون أي رعاية صحية إطلاقًا قد تضاعف إلى ٣٧ مليونًا أي 15% من السكان كما ازداد عدد الأميين إلى ٢٣ مليونًا أي 10% من السكان وأصبحت شبكة المنشآت التعليمية والتثقيفية والاجتماعية والصحية وشبكة طرق المواصلات والمنشآت العامة في أزمة، أدركت الحكومة حجمها مؤخرًا وعجزت عن مواجهتها بحلول فعالة.
ولم تكن هذه التطورات السلبية مجرد أرقام عن ثراء وفقر بل الخطر الأكبر كامن في ارتباطها المباشر بالعديد من التطورات السلبية الأخرى المرئية في معظم المجالات الفردية والأسرية والاجتماعية.
فنسبة الفقر الوسطية 14% من السكان ولكنها تعادل 31.8% بين «السود» من السكان ويسري شبيه ذلك على الأرقام الأخرى.. وذلك مما يفسر الاضطرابات العنصرية كما كشفت عنها أحداث لوس أنجلوس قبل شهور معدودة.
وتحت تأثير انتشار ظاهرة الفقر التي بدأت منذ بدأ الازدهار الاقتصادي كانت نسبة ربات البيوت «بغالبية من غير الراغبات في مزاولة العمل» في حدود 60% عام ١٩٦٠م وانقلب الوضع فأصبحت نسبة العاملات «بغالبية من المضطرات اضطرارا إلى العمل تحت وطأة الحاجة» في حدود 60% الآن.
- وكان من نتائج ذلك لأسباب أخرى- أن ارتفعت نسبة الطلاق فبلغت 50% من حالات الزواج وارتفعت نسبة الأطفال الذين يعيشون دون أب أو دون أم إلى ٥٠٪ من الأطفال الأمريكيين بمجموعهم.
كما ارتفعت نسبة الجريمة فسجل القتل رقمًا قياسيًا وصل إلى ٢٤۰۰۰ جريمة قتل عام ١٩٩١ م بزيادة بلغت 25% على عام ١٩٨٥م وأصبح عدد المعتقلين في السجون حوالي المليون كرقم قياسي آخر.
ويمكن ذكر المزيد من الأرقام من عالم المخدرات والاغتصاب والتشرد وأنواع الاستغلال والإساءة بما في ذلك على الصعيد الجنسي للأطفال والنساء.. فالولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الكبرى في معظم هذه المجالات وليس في قوتها الاقتصادية والعسكرية فقط! ثم يبقى بعد ذلك الفارق كبيرًا بين استنتاج يصل إليه من لا يتقن إلا التقليد فيقول إن التقدم الصناعي لا يخلو من أمراض وهذا من أمراضه فلا بد من العيش معها وبين من يرى تلك الأمراض سبب «موت» لا حياة.. ويقول بلسان الدارسين والباحثين في الغرب نفسه: رغم التقدم التقني والمادي.. استحال بناء مجتمع أمن بفرص متكافئة، وتقارب نسبي في توفير الضرورات المعيشية فضلًا عن كماليات الرفاهية.
ومع ذلك فلا ينبغي القول إن الرئيس بوش يحمل وحده المسؤولية ولذلك فقد فشل في الانتخابات فالقضية قضية المنهج بمجموعه، بل إن الأمراض الحضارية المذكورة مشتركة بنسب متفاوتة بين سائر البلدان الرأسمالية ومن يقلدها منذ زمن.. على حسب درجة «التقدم» في تطبيق المنهج أو تقليده وليس درجة التقدم التقني والمادي بحد ذاته.
سبب النجاح:
وإذا كان النجاح قد حالف كلينتون فلا ينبغي الإغفال عن ظاهرة «بيرو» التي يمكن وصفها بالتمرد المحظور في الولايات المتحدة الأمريكية.. فالتناقض بين تأييد قطاعات انتخابية كبيرة للمرشح المستقل وبين عجزه عن تقديم برنامج تغییر متميز تناقض ظاهري يضمحل عند النظر إلى استقلال المرشح بيرو عبر منظار التركيبة السياسية التي استقل عنها فتمرد على أسلوبها المسيطر بين حزبين واستقطاب ثنائي، وحملات تليفزيونية ومهرجانات شعبية وفشل في هذا التمرد.. رغم الحصول على ما يوازي «قيمته الجزئية» من أصوات الناخبين.. أما التركيبة الحضارية أو الاجتماعية والفكرية في المجتمع الأمريكي، فذاك ما اقتصر عند بيرو على طرح المشكلة طرحًا قويًا، جنبًا إلى جنب مع العجز عن تقديم أي بديل من القيم الأساسية وقواعد التعامل الاجتماعي الرئيسية، والمفاهيم الفكرية والخلقية.. فضلًا عن الوصول بذلك إلى مرحلة «المنهج التطبيقي» فكان محتمًا على «التمرد دون تقديم البديل» أن يفشل.
لقد كانت ظاهرة «بيرو» تعبيرًا عن التمرد المحظور في تركيبة المجتمع الأمريكي وكان انتخاب كلينتون.. هو انتخاب «الأمل» المحتمل وليس المؤكد تحقيقه بل المرجح ألا يتحقق فالمنهج الذي أوصل الولايات المتحدة الأمريكية إلى أزمة اجتماعية - حضارية رغم التقدم الاقتصادي وزعامة التقدم التقني عالميًا هو ما اتبعه ريجان وبوش ولا يمكن أن يوصل إلى نتيجة أخرى عندما يتبناه كلينتون تحت عنوان انتمائه إلى الديمقراطيين بديلًا عن الجمهوريين؟
تصدير الأزمة:
إن ما يحتاج إليه المجتمع الأمريكي أو الغربي عامة هو الحلول التي تتناول القيم المادية من الجذور وليس من عوارضها المرضية السطحية فقط ولكن المشكلة الأكبر خطرًا في الوقت الحاضر هي أن من أسس المنهج المتبع في العالم الرأسمالي ما يمكن وصفه بتصدير الأزمة..
فاقتصاد مجتمع الرفاهية الاستهلاكي كان ولا يزال يقوم على نظام هرم العلاقات المادية «ويسري ذلك على الجوانب الفكرية والاجتماعية» ويتضمن ابتداء احتمالات سحق من في القاعدة لحساب من في قمة الهرم ولو أن الأمر يقتصر على العلاقات الاقتصادية الداخلية لكانت نتائج الأزمة داخلية محضة كما كان مع نهاية المجتمع الإقطاعي من قبل، ولكن ما تصنعه الرأسمالية اليوم عالمي الانتشار والتأثير بل إن العنصر الرئيس الذي حافظت به على حياتها زمنًا أطول من العهد الإقطاعي وحتى الشيوعي هو انطلاقتها الاستعمارية خارج الحدود الوطنية والقارية، وهذا ما لا تزال تقوم عليه إلى اليوم علاقات السيطرة الاقتصادية التي يمكن تصويرها بقولنا إن ما يتناقص بامتصاص طاقات الطبقات الأضعف داخل المجتمع الرأسمالي لمصلحة قمته الهرمية يجري التعويض عليه من خلال امتصاص الثروات والطاقات من خارج المجتمع الرأسمالي.. وميدان ذلك منذ «مئات» السنين هو ما يسمى اليوم «العالم الثالث».
وهذا ما تشهد آثاره على أرض الواقع في ازدياد هوة الثراء والفقر وفوارق التقدم والتخلف ودرجات القوة والضعف.. مما أصبحت الأرقام عنه معروفة.. مثل استهلاك الدول الصناعية وفيها 14% من سكان العالم الحوالي 75% من ثرواته الطبيعية وإنجازاته الاقتصادية وسيطرتها على زهاء 75% من التجارة العالمية مع ازدياد هبوط أسعار ما تصدره البلدان النامية عامًا بعد عام وازدياد ارتفاع ما تصدره الدول الصناعية عامًا بعد عام.. ثم مشكلة الديون بحجم ١٣٥٠ مليار دولار التي تعادل حوالي ١٧٦٪ من قيمة صادرات الدول النامية السنوية جميعًا وأصبح تسديد تلك القروض وفوائدها الربوية يستهلك من الدول النامية ١٥٤ مليار دولار في السنة تدفعها للدول ٥٨ مليارًا على شكل قروض وتتلقى منها «إنمائية» دون أن يتناقص جبل الديون بفضل لعبة الفوائد المركبة.
إن من أشد وجوه المشكلة الحضارية التي نواجهها أننا أصبحنا «نألف» التعبير عن المآسي بالأرقام فلا يؤثر كثيرًا ذكر وصول نقص التغذية إلى ٥٥٠ مليون «إنسان» ووصول الموت جوعًا إلى ٧٠ مليون إنسان ووصول عدد المشردين- لغير أسباب الجوع والقحط- إلى 17.7 مليون إنسان في أنحاء العالم حتى أصبحت الدول الصناعية تسعى لإغلاق حدودها رغم ثرائها وهي جميعها لا تستوعب سوى 4 ملايين من المشردين أما الباقون وهم ۱۳٫۷ مليون إنسان ففي البلدان النامية يزيدون فقرها فقرًا ومشكلاتها تعقيدًا وتراكمًا.
ولئن كان ما سبق أو الجزء الأعظم منه، من نتائج الخلل في العلاقات الاقتصادية العالمية خلال عقود مضت من السنوات فما الذي ينتظر في العقود القادمة.. تحت تأثير «حاجة» الشمال إلي:
مصادر ثروات إضافية تنقذ اقتصاد عدد من البلدان الشرقية التي أصبحت جزءًا من كتلة الشمال الرأسمالي.. وأخرى تمكن من ظهور القطب الاقتصادي الأوروبي.. ولا مزيد لضمان استمرار تصعيد حجم «الرفاهية» في المجتمع الأمريكي مع تخفيف الضغوط على الطبقات الفقيرة.. في وقت واحد.
لعل بعض ما ينتظر نتيجة لذلك هو ما يعبر عنه قول مصادر منظمة برنامج التنمية التابعة للأمم المتحدة إن انتشار الفقر المطلق يشمل حاليًا زهاء 1.1 مليار نسمة ومن المنتظر أن يصل عام ٢٠٠٠ إلى ۱٫۳ مليار نسمة أي ما يعادل 24.1 من سكان الدول النامية.
كما ذكرنا.. هو جانب واحد فلا نفصل في الجوانب الأخرى العقيدية والخلقية والسلوكية التي تؤكد جميعًا: لن تقف آثار الأزمة الحضارية المادية عند حدود دول الشمال المادية..
والأهم من ذلك..
ما هو جواب «العالم الثالث المتخلف»؟ وهل يستطيع الجواب أصلًا إذا استمر على ما هو عليه الآن يتجنب التكتل والتعاون والتكامل والاستقلال بقراره السياسي والاقتصادي ويفضل على ذلك أن ترتبط كل دولة أو كل مجموعة دول على حدة بكتلة الشمال أو ببعض أقطابها على حساب مصالحها الذاتية وعلى حساب المصالح المشتركة للدول النامية على السواء.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقدس خافق الأمة ومشروعها الحضاري (1 - 2) منعطف وجودي للأمة
نشر في العدد 2116
15
الخميس 01-فبراير-2018