العنوان كيف تستثمر الابتلاء..؟
الكاتب أ. د. سمير يونس
تاريخ النشر السبت 21-يونيو-2008
مشاهدات 10
نشر في العدد 1807
نشر في الصفحة 58
السبت 21-يونيو-2008
عندما ينزل البلاء ويحل المحن، تضرب أفهام الناس، وتطيش عقولهم ويحيدون عن الحق والصواب، وينسون أن الابتلاء سنة كتبها الله على خلقه. قال تعالى: ﴿لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَٰلِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلكِتَٰبَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشرَكُواْ أَذى كَثِيرا وَإِن تَصبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِن عَزمِ ٱلأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186).
وقال تبارك وتعالى، ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّىٰ نَعلَمَ ٱلمُجَٰهِدِينَ مِنكُم وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبلُوَاْ أَخبَارَكُم﴾ (محمد: 31).
ولا علاج للبلاء. عند المؤمن إلا بالصبر، يقول ابن القيم رحمه الله عما بين مقامي الصبر والسخط ما بينهما صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة..
الابتلاء سنة كونية
الابتلاء سنة ربانية، لم يستثن الله منها أنبياءه وأحباءه من عباده الصالحين، بل جعلهم أشد الناس بلاء، فقد نزل برسول الله محمد من البلاء ما لا يتحمله بشر غيره، لقد كذبه قومه، واستهزأوا به، وناصبوه العداء، وأعاقوا نشر دعوته ورسالته، وأعلنوا الحرب عليه، وحزبوا الناس ضده، وتأمروا لقتله، وأخرجوه من بيته ووطنه، فكان شأنه في ذلك شأن رفاقه من النبيين، فثبت مع الحق، وصبر على البلاء، وسار على الدرب مجاهداً، حتى أتاه نصر الله الذي وعده، وأنار الله به أقطار السموات والأرض، وخالطت بشاشة الإيمان قلوب البشر، ولقي ربه قرير العين راضي النفس.
حكم الابتلاء وثمراته
لقد صبر رسولنا الكريم ومن قبله الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم بإحسان ليوم الدين، لأنهم فقهوا حكم الابتلاء وثماره، فرغبوا فيما عند ربهم.. إن الله عز وجل لم يكتب عليهم الابتلاء ليعذبهم، فمعلوم أنهم أحب الخلق إليه سبحانه، اصطفاهم لتبليغ رسالته وإنما كتب الله عز وجل البلاء على أحبائه من خلقه لحكم عظيمة وفوائد جليلة، وثمرات لا حصر لها. وحسبنا أن نعلم أن الابتلاء مقدمة طبيعية لتربية العبد على الصبر وتحقيقه، ومن ثم فهو سبب لتحصيل الأجر الجزيل والنعيم المقيم.
ومن أعظم ثمار الصبر
1- الابتلاء تحقيق للعبودية: فإن الله تعالى يربي عباده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، حتى يعبده عبده على اختلاف أحواله، لذا يقول سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ما أعطي عبد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
2- الابتلاء يمحو الذنوب: يقول الرسول الكريم «..... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»، (أخرجه الترمذي والنسائي).
3- الصابرون مرحومون مهتدون: يقول ربنا عز وجل، ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ ٱلخَوفِ وَٱلجُوعِ وَنَقص مِّنَ ٱلأَموَٰلِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَة قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَٰجِعُونَ أُوْلَٰئِكَ عَلَيهِم صَلَوَٰت مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَة وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلمُهتَدُونَ﴾ (البقرة: 155-157)، ومن أقوال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .. ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
4- دخول الجنة بغير حساب: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَاب﴾ (الزمر: 10)، فهل هناك عطاء أعظم من ذلك؟! يوم تدنو الشمس من رؤوس العباد، ويلجم الناس في عرقهم، ويفر المرء من أخيه وأمه وأبيه.. يوم تذهب كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.. وإذا بالصابرين ينادي عليهم، أن ادخلوا الجنة بغير حساب!!
صور الابتلاء
يظن كثير من الناس، أن الابتلاء مقصور على الفقر والمرض، بيد أن صور الابتلاء كثيرة ومتعددة، فقد يبتلى المرء في ماله وصحته، وقد يبتلى بزوجته أو تبتلى الزوجة بزوجها، وقد يبتلى الآباء بأبنائهم، وربما يبتلى الأبناء بآبائهم، ومن الابتلاء أيضاً فقدان عزيز أو حبيب، وقد يبتلى الموظف بمسؤوله أو مديره بالعمل، وقد يبتلى المدير بأحد الموظفين، وقد يبتلى المرء في دينه، وهذا أشد البلاء.
الابتلاء في الدين
الابتلاء في الدين أحد المعالم البارزة في طريق الدعاة، فما من نبي بعث في أمة إلا وابتلي بشياطين الإنس، فقد كذب الأنبياء والرسل، ثم الدعاة، وحوربوا، وأوذوا، وهكذا جرت سنة الابتلاء والتمحيص، ومرت بها تلك الكوكبة العظيمة من الأنبياء والمرسلين والدعاة والصالحين المصلحين.
نموذج نوح عليه السلام
لقد مكن سيدنا نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً. ولم يؤمن معه إلا قليل من قومه، مع أنه أبدع معهم في وسائل الدعوة، وجدد ونوع، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَومِي لَيلا وَنَهَارا فَلَم يَزِدهُم دُعَاءِي إِلَّا فِرَارا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُم فِي ءَاذَانِهِم وَٱستَغشَواْ ثِيَابَهُم وَأَصَرُّواْ وَٱستَكبَرُواْ ٱستِكبَارا ثُمَّ إِنِّي دَعَوتُهُم جِهَارا ثُمَّ إِنِّي أَعلَنتُ لَهُم وَأَسرَرتُ لَهُم إِسرَارا ﴾، (نوح: 5-9).
وبرغم تلطف نوح- عليه السلام- ورفقه في دعوته لقومه، فإنهم طغوا وتكبروا وتجبروا، وقالوا: ﴿قَالُواْ يَٰنُوحُ قَد جَٰدَلتَنَا فَأَكثَرتَ جِدَٰلَنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ﴾ (هود: 32)... لقد كان ابتلاء شديداً، ومع ذلك فقد صبر واحتسب حتى نجاه الله عز وجل، وأغرق الذين كفروا وأذوه، ووقفوا حجر عثرة في طريقه في نشر دعوة الله عز وجل.
نموذج موسى عليه السلام
لقد كان موسى عليه السلام صابراً، حسبه أنه دعا فرعون وملأه ليريهم آيات ربهم، فازدادوا عتوا ونفوراً، وجمع فرعون السحرة، وأخذ يمنيهم ويغريهم، وسرعان ما أبطل الله سحرهم، ﴿فَأُلقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدا قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ﴾، (طه: 70).
وهنالك ابتليت الفئة المؤمنة، حيث هددهم فرعون وتوعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم في جذوع النخل، فثبتوا وصبروا وكان ردهم ﴿قَالُواْ لَن نُّؤثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ ٱلبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقضِي هَٰذِهِ ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنيَا﴾ (طه: 72)، فصبر موسى عليه السلام ومن معه، وثبتوا على الحق والإيمان، وخرج موسى بهم، وأتبعهم فرعون وجنوده، فكانت عاقبة فرعون وجنوده خسرا، حيث أغرقهم الله عز وجل بذنوبهم، ونجا الله عز وجل موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين.
نموذج محمد صلى الله عليه وسلم
لقد علم رسولنا الكريم أنه مبتلى في دعوته منذ أن نزل عليه الوحي أول مرة، وسألت خديجة رضي الله عنها، ورقة بن نوفل، فأخبرها بأن قومه سيخرجونه، وكان مما قاله ورقة آنذاك، «ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم»؟، قال: «نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا»..
نماذج من الصحابة
وتلك كوكبة أخرى ابتليت من أمثال: مصعب بن عمير فقد منعت أمه عنه النفقة، وأخرجته من بيته بسبب إسلامه، فما رده ذلك عن دينه، وهذا بلال رضي الله عنه، يسلمه أمية بن خلف للصبيان يلعبون به في أنحاء مكة، ثم يطرحه وقت الظهيرة، ويضع على صدره صخرة كبيرة، فلم يزده ذلك إلا توحيدا، وكان شعاره يومها ونطقه أحد.. أحد ..
ومن تلك النماذج الصابرة على الابتلاء- أيضاً- عمار بن ياسر والخباب بن الأرت، وعثمان بن عفان، وغيرهم كثير- رضي الله عنهم- أجمعين.
فليعلم الداعية، وليعلم الدعاة السائرون على درب الأنبياء وخاتمهم محمد أن الله وعدهم النصر والتمكين شريطة أن يصبروا، والصبر كما يرى ابن القيم رحمه الله في كتابه «عدة الصابرين» يتحقق بثلاثة أمور هي:
1- حبس النفس عن الجزع والسخط.
2- وحبس اللسان عن الشكوى للخلق.
3- وحبس الجوارح عن فعل ينافي الصبر.
(*) أستاذ المناهج وأساليب التربية الإسلامية المساعد.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل