العنوان ليبيا وتونس.. جمهورية واحدة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 15-يناير-1974
مشاهدات 18
نشر في العدد 183
نشر في الصفحة 4
الثلاثاء 15-يناير-1974
بالنظر إلى حجم الإقليمين «ليبيا وتونس» وعلاقاتهما.. لا تبدو في الأفق مطامع شرهة.. أو اعتبارات «الأعلى والدون».
وينبغي التمييز -بدقة- بين روح المطامع المرفوضة.. والمصلحة الوطنية المطلوبة.
فلا شك أن لليبيا مصلحتها الوطنية في الوحدة.. وأن لتونس-بالمثل- مصلحتها الوطنية.
وفي حدود المرحلة التاريخية، والتطور النفسي والثقافي لمواطني الإقليمين.. يصبح السعي من أجل تحقيق المصلحة الوطنية -في إطار الوحدة- مفهومًا ومقدرًا.
ثمة اعتبارات إنسانية.. ستظل قائمة ونشطة.. لا تقدح في فضائل الإنسان.. ولا تنال من قيمته.. لأنها اعتبارات طبيعية وسوية.
فالإحساس الوطني ليس عيبًا.. ونشاط الرجل في خدمة قومه ليس رذيلة.. إنما العيب هو التعصب.. واعتبار الوطنية المحدودة هي المعيار الأعلى لكل شيء.
فأهل ويلز يخدمون مقاطعتهم في إطار بريطانيا.. والرجل الأوكراني يخدم جمهوريته في نطاق الاتحاد السوفيتي.. ومواطن تكساس يخدم ولايته في نطاق الدستور الفدرالي.. والكردفاني يخدم محافظته في إطار السودان.
ولو أرسلنا البصر إلى المستقبل.. وشاهدنا الكويتي يجد في خدمة إقليمه في إطار وحدة خليجية شاملة.. لكان ذلك شارة تقدم حقيقي يجمع بين المصلحة الوطنية.. والارتباط الخليجي في اعتدال وسعة أفق.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾.
لقد أقر القرآن العظيم هذه النزعات الإنسانية الفطرية.. ولكن في ضوء مقياس
أعلى.. يرد التفاضل بين الناس إلى القرب من الله وحده.
● إن الوحدة بين ليبيا وتونس، هي وحدة طبيعية لأكثر من سبب.
● طبيعية بسبب العقيدة الواحدة.. فالليبيون والتونسيون إخوة في الله، وفي الإسلام.. ربهم واحد ودينهم واحد.. وقبلتهم واحدة.
● طبيعية بحكم التركيب البشري.. فالناس في ليبيا وتونس عرب ثقافةً ولغةً.. وعنصرًا.
● وطبيعية بحكم الاتصال الجغرافي.. فبين الإقليمين حدود مشتركة.. وتخوم متجاورة.
● طبيعية بحكم «الوجود القاري».. فتونس وليبيا يقعان في قارة إفريقيا، وفي شمالها بالتحديد.
● وطبيعية بمنطق «المصلحة الاقتصادية».. فتونس إقليم فقير من حيث الموارد.. ولكنه متقدم -نسبيًا- إداريًا وفنيًا.. وليبيا إقليم غني من حيث الموارد.. ولكن ينقصه التقدم الإداري والفني.
وتبادل المنفعة.. والتكامل الاقتصادي يقضيان بقيام وحدة، تخدم المصلحة الاقتصادية والصناعية للإقليمين.
● وطبيعية بمنطق العصر، واتجاهاته الموضوعية القوية نحو «التجمع الكبير»، ففي عالمنا المعاصر أكثر من تكتل، وأكثر من منظومة..
- هناك المنظومة الشيوعية.
- وهناك المنظومة الأمريكية.
- وهناك المنظومة الأوروبية.
وتمثل العمل المشترك لهذه المنظومات.. في تنسيق العملات أو توحيدها.. وفي إقامة دفاع جماعي، وفي تنظيم الأسواق، وفي تنسيق السياسة الخارجية.. وفي تسهيل المواصلات، وإجراءات العبور: جوازات مرور وغير ذلك.
الأسباب متوفرة -إذن- لقيام وحدة بين تونس وليبيا.
● وقد تتوفر جملة أسباب وعوامل حسنة لمشروع ما -وحدة وسواها- ولكن سوء التطبيق يفسد المشروع أو يشوهه.
وتأييد هذه الوحدة، يجب أن يقترن بالتنبيه إلى المثبطات ومعوقات التطبيق.
● وأول هذه المعوقات هو الخيال الجامح، أو المثالية التي تتجاوز «الواقع البشري»، لتتعامل مع الفكرة المجردة في الذهن.
إن الانطلاق من «الواقع»، والتدرج بالناس من النقطة التي هم فيها، أمر تقتضيه طبيعة المبادئ، وتمليه شروط النجاح.. وأمانة المسؤولية؛ فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.
ومعنا تجارب معاصرة، بالغة المرارة.
تجربة الوحدة بين مصر وسوريا.. وبين مصر واليمن.. وبين ليبيا وسوريا ومصر.
إن تجاهل «الواقع» أدى إلى إحباط تلك المحاولات، وإذا كانت رحلة طولها مليون ميل تبدأ بخطوة، فليس معنى ذلك أن تتم جميع الخطوات الباقية، في جزء من دقيقة أو بعض ثانية.
إن إجهاض الفكرة بهذه الطريقة، يساوي عداءها!
ليس لنا أن نتوقع قيام نموذج من دولة الخلافة الراشدة.. ولا نقبل من الناس في الإقليمين التونسي والليبي، التصريح بذلك، فلقد تعبت الأمة تمامًا من تضخيم الإنجازات.. وتكبير الأعمال المتواضعة آلاف المرات في مكبرات صوت أو صورة.
● وثاني هذه المعوقات هو الانفصال بين الشعار المرفوع.. والسلوك المعاش.
وننقل التعبير من السلب إلى الإيجاب لكي نقول: إن الوحدة بين تونس وليبيا، تمت تحت اسم «الجمهورية العربية الإسلامية».. وهذا الاسم يعبر -دستوريًا- عن طبيعة الدولة الموحدة.. يعبر عن صبغتها الإسلامية واتجاهها الإسلامي.
وهذا التصريح الدستوري.. يوجب الاتجاه العملي الحقيقي نحو الإسلام، في البناء الداخلي.. قبل التمدد الخارجي.
أي قبل التخطيط أو الانطلاق بالإسلام إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. ينبغي أن يلتزم الناس في ليبيا وتونس بالإسلام داخل بلادهم.
وببدايات متواضعة، إن نقصها الكمال التام.. لا ينقصها الصدق والإخلاص.
بدايات متواضعة في مناهج التربية.. وفي أجهزة الإعلام.. وفي الحياة الاجتماعية.. وفي تعديل القوانين.. وفي كفالة الحريات العامة، والعدل الاقتصادي.
إن هذا العمل بسيط.. وممكن.. وهو في نفس الوقت أعظم خدمة تقدم للإسلام.. وللناس.. وأروع دعاية لدين الله.
وبين يدي هذا الاتجاه العملي أدلة قوية المنطق.. مشرقة الدلالة:
١- فطبيعة الإسلام: أن الاهتداء الذاتي يسبق عملية نقل الهدى للآخرين، ولقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، لم يقل: صلوا كما أقول لكم.
ودلالة ذلك: افعلوا كما أفعل.. أي أن النبي عليه الصلاة والسلام، يسبق إلى «الفعل».. يهتدي بالإسلام ذاتيًا، ثم يدعو الآخرين إلى الهدى.
وكانت حياته كلها كذلك.. إذا أَمَّ المسلمين في الصلاة أحنی هامته لخالقه قبلهم.. وخر ساجدًا لربه قبلهم.. وإذا دعاهم إلى الجهاد تقلد سيفه «قبلهم».
والفائدة العملية هنا تتمثل في التزام «المنهج».
۲- وأمتنا لم تعد تثق برفع الشعارات، غير المرتبطة بسلوك عملي، لأنها -عمليًا- لم تحصد من كفاح الكلام والقرارات، والتوصيات والتصريحات، سوى خيبة الأمل.
٣- ونحن في عالم يحترم «النموذج العملي»، ولا يحترم الكلام.
وبالتأكيد.. إن المبادئ التي بين أيدينا أعظم وأنفس ملايين المرات -إذا جازت المقارنة- من المبادئ التي في أيدي ماوتسي تنج .. بيد أن العالم يقيم وزنًا لماوتسي تنج والصين أكبر مما يقيم لنا.. ليس نتيجةً لعقد مقارنة منطقية، بين مبادئ الإسلام ومبادئ الشيوعية.. ولكن نظرًا لأن ماوتسي تونج أقام «نموذجًا عمليًا»، بينما انحصر كفاحنا في دائرة الكلام.
● وثالث نقطة ينبغي التركيز عليها.. لأنها كفيلة بدفع الوحدة بين ليبيا وتونس في مجرى إيجابي.. هي ربط الوحدة بالقيم وبمصائر الشعوب.. لا بمواقف الأفراد.
فمهما طال عمر الحبيب بورقيبة، وعمر معمر القذافي.. فإن الرجلين سيذهبان يومًا ما.
وربط الوحدة بهما -بقاءً وفناءً- لا يعني سوى ذهاب القيم ومصائر الشعوب
بذهابهما. وهذا خطأ ماحق.
لقد كنا نود أن يجري الاستفتاء على الوحدة في الإقليمين قبل قيامها لا بعده.. فإن ذلك أسلم بدايةً.. وأصون مسيرةً.. ولكن ما الذي يزود الوحدة بضمانات القوة والاستمرار في المستقبل؟
لا شيء سوى إحياء القيم الإسلامية في نفوس الناس، لا شيء سوى رفع الوصاية نهائيًا عن الشعوب، لا شيء سوى قيام أجهزة دستورية ثابتة ومحترمة، لا شيء سوى انتخابات حرة.. تمنح الوحدة مزيدًا من التفويض الشعبي، والولاء الشعبي، والحراسة الشعبية.
إن حرصنا على نجاح المحاولة.. هو الذي دفعنا دفعًا إلى هذه الصراحة.. والتنبيه منذ البداية إلى حقائق نحسبها ذات نفع.. وينبغي أن تقال، وهي حقائق يتقبلها المخلصون للوحدة.. ولا تزعجهم أبدًا.
● ولقد تعودنا في هذه الافتتاحية، أن ننظر إلى الأحداث في ضوء رؤية.. نحاول أن تكون متكاملة، فذلك أدعى للتحليل الموضوعي.. والاستنتاج الصحيح.
فهل لإعلان الوحدة بين ليبيا وتونس، علاقة بما يجري في منطقتنا هذه؟
السؤال في صيغة أكثر صراحة: هل يعني إعلان الوحدة أن ليبيا قد أدارت ظهرها لمصر؟
بكل محبتنا للشعوب المسلمة في مصر وليبيا، نتمنى ألا يحدث ذلك، لأننا ندرك خطورة هذا الموقف ومضاعفاته.
دعاة الفرعونية في مصر -لويس عوض وكتيبته- سيسألون، ربما باندهاش: وما الخطورة في أن تدير ليبيا ظهرها لمصر؟
إن مصر- يقول هذا الفريق- تعبت جدًا من ارتباطها بالعروبة، ويجب أن تلتفت لنفسها، وقضاياها الخاصة حتى تنهض.. على الرغم من أن هذه النزعة.. يلفها التخلف من كل جانب.. في عصر تميز بالانفتاح الإقليمي والعالمي.. فإن وضع الصورة في مكانها الطبيعي، يزيد الأمر جلاءً وضياءً.
الامتداد الطبيعي لمصر هو..
- السودان جنوبًا.
- وليبيا غربًا.
وبكل وسيلة، حاول الاستعمار أن يمزق العلائق -عن طريق أناس لا يقدرون
المسؤولية- بين مصر والسودان.
وفي السنوات الأخيرة، حدث انفتاح ضخم بين ليبيا ومصر.. وقام تعاون كبير.. في مجالات الاقتصاد والتعليم والهجرة.
والقوى العالمية الشريرة التي تقتات من فرقتنا.. وتقترب من أهدافها بتباعدنا.. أفزعها هذا الاتجاه.
وجاءت حرب رمضان.. فرصت الصفوف -تلقائيًا- لمواجهة العدو المشترك. وتسابق العرب إلى دعم مصر.. بكل شيء.
هنالك أحست القوى الشريرة، بأن الأحداث تسير في خط مناوئ لأطماعها.
فقررت عزل مصر.. لمضغها على حدة، ثم التسلي بالعالم العربي -بعد حرمانه من قوة مصر- دولة إثر دولة.
إن الخطر القادم.. هو عزل مصر.
ونكرر التعبير حتى تتضح خطورة المحاولة، ولقد رسموا لذلك استراتيجية.. وانتدبوا منفذًا.
أما الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية فهي:
● عزل مصر سياسيًا.. عن طريق إغراء متلاحق بتوقيع صلح، أو اتفاقات منفردة مع العدو. وهذا العزل السياسي إذ يقصد به تطويق مصر من جانب.. يقصد به من جانب آخر إثارة حساسيات بينها وبين أشقائها العرب.
● عزل مصر اقتصاديًا.. فلا شك في أن ليبيا هي الرافد الأول، الذي يرفد مصر بالإمكانات الاقتصادية المتنوعة.
اليوم تملك ليبيا ثروات بترولية هائلة.
وليس هذا هو المهم!
المهم.. هو المساحة السكانية للهجرة والاستقرار.. والمساحة الزراعية للغذاء.. إن البحث عن الغذاء هو «مشكلة المستقبل».
ومستحيل أن تعيش مصر في المستقبل على القروض والمعونات.. ولا بد لها من موارد زراعية ثابتة، تمدها بالغذاء الدائم. وليبيا هي أنسب بلد يلبي هذه الحاجة.
من جانب آخر، فإن ليبيا تحتاج إلى علم مصر وخبرة مصر.. والأيدي العاملة المصرية.
إن الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية، تضرب مصر وليبيا معًا، بهذه المحاولات الشريرة.
أما منفذ هذه الخطة فهو الصهيوني الملتزم هنري كيسنجر.
ما الحل إذن؟؟
إن أي قوة في الأرض لا يمكن أن تؤدي عملها، إلا إذا وجدت «جهازًا قابلًا».. فلنعطل هذه القابلية التي تعرضنا للتمزيق.. والتفتيت والتحطيم.
على العرب ألا يدعو مصر وحدها تواجه.. هذا التطويق العالمي الرهيب..
وعلى مصر ألا تقدم على أي خطوة.. تحقق هدف الخصوم في عزلها وضربها.
وما دام الكل يقر بأن القضية واحدة.. والمصير واحد، نقترح أن نواجه العدو على قلب رجل واحد، ولا نسمح له باختراق صفوفنا أبدًا.
وكل دولة على ثغرة، فلا تؤتين الأمة من قبلها.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل