العنوان محطات إيمانية في طريق التربية هلال الأمل
الكاتب د. إيمان مغازي الشرقاوي
تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
مشاهدات 22
نشر في العدد 2147
نشر في الصفحة 47
الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
محطات إيمانية في طريق التربية
هلال الأمل
رؤية الهلال تذكرنا بالله الذي خلقنا وخلقه وتبث فينا الأمل فنستبشر بتجدد الليالي وازدياد الطاعات
إذا خلت حياة الناس من الأمن والأمان تنغصت على الناس معايشهم
مهما سلِم الإنسان سلامة ظاهرة فلن يعيش الأمن النفسي إلا إذا أسلم نفسه واستسلم لله تعالى
إذا وفَّق الله عبادَه لما يحبه ويرضاه فإنه يحبِّب إليهم الإيمان وعمل الخير ويعينهم على البر
ها قد أطلَّ علينا هلال عام هجري جديد يحمل بين نوره الأمل في حياة أفضل وعمل أحسن وعودة راشدة إلى منهج الله، وتذكِرة بمرور الأيام والسنين مع مسير قطار العمر عاماً بعد عام، فالحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة الحياة لنزداد له ذكراً، ونسجد له شكراً، ونستكثر من فعل الخيرات، والحمد لله الذي أمدَّ في أعمارنا وبلغنا هذا العام الجديد علنا نلملم شعث قلوبنا، ونضمد جراحات ذنوبنا، ونتوب إلى ربنا، فنستقبله بقلب جديد ونية جديدة.
كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا رأى الهلالَ قال: «اللَّهمَّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمانِ والسَّلامةِ والإسلامِ والتَّوفيقِ لِما تُحب وتَرضى ربُّنا وربُّكَ اللهُ» (صحيح ابن حبان).
لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء كل مقومات الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، فهو دعاء جامع لأصول السعادة لمن أراد أن يسلك سبلها.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم» فيه الاعتراف بألوهية الله سبحانه وتعالى وتوحيده ويدخل فيها دعاؤه سبحانه وحده لا شريك له، (وكلمة «اللهم» صيغة نداء ودعاء مثل: يا الله)، ومَن قال: يا الله، فهو إنما يلجأ إلى ربه عز وجل القادر، ويدعوه ويستعين به ويستغيث، ويطلب منه حاجته، وهذا ما ينبغي بل يجب أن يكون عليه المسلم، فهو إنما يَكِلُ ويفوّض أمره إلى الله، ويبث إليه حاجته وشكواه، وكلما كان ذلك في السِر والخلوة كان إلى الإخلاص أقرب وإلى الإجابة أسرع.
لكننا، للأسف، انتشرت بيننا على صفحات التواصل الاجتماعي آهات الشكاوى وبث النجوى، ليس إلى الله سِراً، بل إلى الناس علانية وجهراً، بالليل والنهار، حتى إنك عندما تقرؤها تعرف أن فلاناً في ضيق مالي، قد ترك عمله، وهذا مريض يعرض مرضه، وفلانة غضبى مع زوجها، وأخرى سافر ابنها، وهذه تركها خطيبها، وأخرى تنعى حالها! وهكذا حتى أصبحت هذه الأجهزة –بقصد وبغير قصد- محلاً للتشكّي بدلاً من اللجوء إلى الله ودعائه على سجادة الصلاة وفي جوف الليل، وتحوَّل الصبر والتصبر إلى شكوى وجزع، إلا من رحم الله، فصارت الهموم تُبث لغير الله، وتُعلن على الملأ دونما تردد.
لذا، فإن علينا أن نحسن العَود إلى الدعاء، ونقول من قلوبنا في كل وقت وحال اللهم: يا الله، ونكِل إليه أمورنا كلها بعيداً عن أعين وآذان المخلوقين، فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يدعو ويطلب من الله «الأمن والأمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ربنا ويرضى».
الأمن في حياة المسلم
إن الحياة الدنيا إذا خلت من الأمن والأمان تنغصت على الناس معايشهم، وصارت حياتهم كبداً ومشقة، لا سيما إذا انتزع هذا الأمن الحروب والصراعات المسلحة، لكن المسلم المؤمن بأقدار الله الصابر على ابتلاءاته ينعم مع كل ذلك بأمن من نوع آخر لا يملكه إلا الله، وهو الأمن النفسي والأمان القلبي الذي يجده العبد في إيمانه بالله وعبوديته له، ورضاه بقدره، وفي صدق التوجه إليه والإخلاص له، وفي سجوده بين يديه وتضرعه بالدعاء وشعوره بالذل أمام عظمته سبحانه، ولا عجب أن تجد وسط البلاء من يلهج لسانه بـ»يا الله»، وقلبه بـ»الحمد لله».
إن هذا الأمن يسكب في النفس الراحة والطمأنينة، وقد قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28) قال ابن كثير: «تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيراً»، وقال السعدي: «يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها»، وهذا الأمن النفسي الناشئ عن الإيمان بالله والاستقامة على أمره يؤدي إلى الأمن في الحياة الدنيا، والأمن عند لقاء الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30)، قال ابن كثير: «فيُؤَمِّن الله خوفه، ويقرّ عينه، فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين؛ لما هداه الله، ولما كان يعمل له في الدنيا، وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث».
ومن الأمن أيضاً الأمن يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، قال تعالى: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل: 89)، قال البغوي: «الحسنة: كلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: هي كل طاعة لله»، (فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا) قال ابن عباس: «فمنها يصل الخير إليه، يعني: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب»، قال تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (الأنبياء: 103)، قال السعدي: «لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة، حين تقرب النار، تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم، لعلمهم بما يقدمون عليه، وأن الله قد أمنهم مما يخافون».
السلامة والإسلام
إن الإسلام دين الأمن والأمان والسلامة، ويتحقق كل ذلك بالتسليم لله سبحانه وتعالى، ومهما سلِم الإنسان سلامة ظاهرة للعين، فإنه لن يعيش الأمن النفسي الخفي والسلام الحقيقي إلا إذا أسلم نفسه واستسلم لله عز وجل وخضع له وذل.
إننا حين نطلب في دعائنا السلامة من الله تعالى، فإن هذه السلامة قد تكون في سلامة أعضائنا وجوارحنا من العاهات والأمراض البدنية؛ لنتمتع بأبدان قوية وأجساد سالمة، وهذا يستلزم منا الأخذ بأسباب ذلك من تناول الطعام الصحي المتوازن، وممارسة الرياضة البدنية المعتدلة، والتداوي المباح من أي مرض، والبعد عما يضرنا تناوله.
كما تتمثل السلامة أيضاً في سلامة العقيدة من أمراض الشرك المهلكة؛ كاعتقاد الضر والنفع من غير الله، ودعاء الأولياء والتمسح بالأضرحة، واللجوء إلى الكهان والمشعوذين والمنجمين وتصديق ونشر ما يدّعون، وكذلك طلب سلامة النفس من الآفات المهلكة من الذنوب والمعاصي، والأخذ بها لتطهر وتتحول من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس المطمئنة، فتَسلم القلوب من أمراضها الفتاكة؛ كالكبر والحسد والرياء والنفاق والغل والقسوة والغفلة، وهذا يتطلب من كل مسلم أن يصحح إيمانه، وأن يعالج أدواء نفسه، فإن فعل فإن الله يمنّ عليه بالسلامة في بدنه وقلبه، وهو إن سلم فقد أمِن ونجا.
سؤال الله التوفيق
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والتَّوفيقِ لِما تحب وتَرضى» توجيه نبوي لنا جميعاً في حسن الظن والثقة بالله عز وجل، وطلب التوفيق لما يرضيه فيه حرص على حُسن العمل ورغبة في إرضاء الله الذي بيده مقاليد الأمور، وفيه إظهار لضعف ذلك العبد المخلوق وحاجته إلى ربه أن يوفقه لما فيه صلاح دنياه، من العمل المناسب، والرزق الحلال، والزوجة الصالحة، والمسكن الواسع، وقرة العين من الذرية البارة، وكل هذا من الله مِنحة وعطاء وتوفيق، وهو من وسائل الحياة الطيبة في الدنيا المعينة على القيام بدور الإنسان في الأرض كما أمر الله عز وجل.
فإذا وفق الله عباده لما يحبه ويرضاه، فإنه يحبب إليهم الإيمان والعلم وعمل الخير، ويعينهم على البر والصلة وصدق الأخوة، وييسر لهم سبل الدعوة إليه، ويبغض إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلهم بإيمانهم وأعمالهم الصالحة خير البرية كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7)، وإذا كانوا خير البرية، فإنهم لن يستحلوا أكل الحرام، ولا سفك الدماء، ولا استباحة الأعراض، ولن يتفكهوا بالغيبة وتضييع الأوقات، بل يكون مطعمهم طيباً، ودماؤهم معصومة، وأعراضهم محفوظة، وحقوقهم معروفة، وأوقاتهم ثمينة.
أما التوفيق في الآخرة فليس بعد رضا الله توفيق، قال تعالى: (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: 8)، قال الطبري: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلاصهم من عقابه، (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الثواب يومئذ، على طاعتهم ربهم في الدنيا، وجزاهم عليها من الكرامة.
إن رؤية الهلال لتذكِّرنا بربنا وربه الذي خلقنا وخلقه، وتبث فينا الأمل والحياة، فالهلال يبدأ صغيراً ثم يكبر رويداً رويداً، وكلما كبر بث النور في الآفاق فأنار لغيره الطريق، وبدد بنوره الظلمات، فلنستبشر مع ظهوره بتجدد الليالي وازدياد الطاعات، ولنسأل الله تعالى في مطلع كل شهر أن يهلّ علينا هلاله بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ويرضى.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
محطات إيمانية في طريق التربية (9) الذِّكْرُ المحفوظ.. الهُدَى والنور
نشر في العدد 2113
24
الأربعاء 01-نوفمبر-2017