العنوان محطــات إيمانيـــة فـــي طريـــق التربيــــة.. اعفُــوا فــي اليــوم سبعيــن مــرة
الكاتب د. إيمان مغازي الشرقاوي
تاريخ النشر الاثنين 01-مايو-2023
مشاهدات 21
نشر في العدد 2179
نشر في الصفحة 54
الاثنين 01-مايو-2023
إيمان مغازي الشرقاوي
جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَتَ، ثم أعاد عليه الكلام، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثة قال: «اعفُوا عنه في كل يوم سبعين مرة» (أبو داود، وصححه الألباني).
لقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم درساً عظيماً في التعامل مع مَن هم تحت أيدينا حين يخطئون، لا سيما مع القدرة على إنزال العقاب بهم، «وهذا العدد للكثرة لا لبلوغِ مُنتهَى العدد، وهو كناية عن العفو الدائم عن الخادم، مع إرشاده إلى الصَّواب وتأديبه، وهذا من رحمته ورفقه صلى الله عليه وسلم بأمته، وفي هذا الحديث: الحَثّ على العفو عن الخطأ والزلل في الأمور التي لا تندرج تحت المناهي الشرعية» (الدرر السنية).
فإذا كان هذا هو العفو مع الخادم، فماذا تكون الحال مع الزوج والولد والأخ والقريـــب والصديـــق؟! لا شــك أنه أوْلى وأعظم.
العفو عند المقدرة:
إنه العفو عند المقدرة الذي يُثاب فاعله ويؤجر عليه، إذا ابتغى أجره من الله، وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة في ذلك، فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَت: «لم يكن فاحشاً ولا مُتفحِّشاً ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» (رواه الترمذي).
والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وتركُ العقاب عليه، وهو خُلق يحبه الله تعالى، فهو سبحانه العفُوُّ الغفور، كثير العفو، يعفو عن عباده ويقبل أعذارهم، ويغفر لهم، وقد دعانا إلى العفو فقال سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133 الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران)، «ويدخل في العفو عن الناس، العفو عن كلِّ من أساء إليك بقول أو فعل.. وهذا إنما يكون ممن تحلَّى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير» (تفسير السعدي).
ذكر الله تعالى العفو في القرآن الكريم ودعا إليه، ووردت آيات عديدة تدعو الناس للتخلق فيما بينهم بخلق العفو حتى يعفو الله عنهم، فالجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(التغابن: 14).
كما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على العفو ورغَّب فيه، فقال: «ارْحموا تُرْحموا، واغفِروا يغفِرِ اللهُ لكم» (رواه أحمد)، وقال: «ولا يعفو عبدٌ عن مظلمة يبتغي بها وجه الله عز وجل إلا زاده الله بها عزّاً يوم القيامة» (رواه أحمد).
العفو من أخلاق الأنبياء والصالحين:
والعفو من أخلاق الأنبياء والصالحين، فيوسف عليه السلام مع كل ما حصل له من إيذاء وابتلاء ومحن يقول لإخوته حين قدر على عقوبتهم: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92).
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوذي من قومه، وأُخرِج من بلده، وتعرض لصنوف الإيذاء منهم، لكنه حين فتح مكة وقدر عليهم عفا عنهم، أما أبو بكر الصديق رضي الله فقد أوذي في عِرضه باتهام ابنته الصديقة عائشة رضي الله عنها، ومع ذلك أمره الله أن يعفو فقال: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 22)، فعفا أبو بكر وصفح وأحسن.
ومما يقف حائلاً بين بعض الناس والعفو ظنهم أن العفو ضعف منهم، ولو كان كذلك ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ولَمَا دعا لتكراره كثيراً ولو وصل إلى سبعين مرة في اليوم، فالعفو ليس ضعفاً وإن بدا للبعض كذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما زادَ اللَّهُ عَبْداً بعَفْوٍ إلَّا عِزاً» (رواه مسلم)، غير أنه مما يؤسَف له أن تحصل القطيعة من البعض فيما بينهم وبين بعض أهليهم أو أرحامهم لأي سبب من الأسباب؛ فتُقطع حبال الوصل، ويطول الهجر والخصام، ويشح العفو والتسامح والتغافر، وهذا يؤدي إلى تفكك العائلات ويفوت عليهم أجر العفو.
وقد قال الله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40)، فذكر الله العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، وندب إلى الفضل وهو العفو عن المسيء، والإصلاح، ونهى من الظلم بالجناية على الغير، أو بمقابلة الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. (تفسير ابن كثير، السعدي، بتصرف).
ومن عظيم رحمة الإسلام أنه حث على العفو حتى عند القصاص في القتل، كعفو أولياء المقتول عن القاتل، كما جاء في قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178)، ففيه «ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجاناً» (تفسير السعدي)، وكذلك العفو في الجراحات، قال تعالى: (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ) (المائدة: 45) أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح، بأن عفا عمن جنى (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ)؛ أي: كفارة للجاني، لأن الآدمي عفا عن حقه، والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه، وكفارة أيضاً عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته (تفسير السعدي).
حاجة الناس إلى العفو فيما بينهم:
إن الحياة لا تخلو من أخطاء ومظالم في معاملة الناس بعضهم بعضاً، وهذا يحتاج منهم إلى التسامح والعفو احتساباً للأجر عند الله عز وجل وابتغاءَ مرضاته، وجلباً للمحبة والتآلف ونقاءِ السرائر.
وإن الأسرة التي يتخلق أفرادها بخلق العفو لا شك أنها أسرة متحابة هادئة مستقرة، لا يكدر صفوها تلمس الأخطاء وحب الانتقام والتشفي، بل يسودها تلمس الأعذار والتغاضي عن الزلات مع النصح برفق ورحمة لتصحيحها، فما أحسن أن يكون العفو بين الزوجين سبيلاً للمودة بينهما، على أن يكون عفواً صادقاً، فمن عفا حقاً لن يعدّد أخطاء زوجه ويجدّدها ويعيدها مع كل خلاف، فما هذا بالعفو.
وإن الأب الذي يصر على معاقبة ولده بقسوة ويرفض قبول عذره وندمه واعتذاره، قد فوّتَ على نفسه فضل التربية بالعفو، والتقرب إليه ونصيحته بحكمة ورفق، كما أنه لم يقدم لولده القدوة الصالحة في التخلق بهذا الخلق الرائع.
فلنعف عن بعضنا بعضاً، ولا نملّ من تكرار العفو ولو كان سبعين مرة في اليوم، وقد قال الله تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
برقية جمعية الإصلاح الاجتماعي إلى مؤتمر وزراء التربية العرب في ليبيا
نشر في العدد 3
113
الثلاثاء 31-مارس-1970