; صفحات من دفتر الذكريات (23).. مشاهدات في إسبانيا | مجلة المجتمع

العنوان صفحات من دفتر الذكريات (23).. مشاهدات في إسبانيا

الكاتب الدكتور توفيق الشاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

مشاهدات 12

نشر في العدد 1125

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

  • الحلفاء يستخدمون الأمم المتحدة في إصدار قرارات بمقاطعة الدول التي لا تخضع لهيمنتهم.
  •  زعماء حزب الدستور الجديد كانوا على صلات مع اليهود وتبرءوا من أصولهم الإسلامية وعادوا العلماء وكل من له اتجاه إسلامي.

في الوقت الذي أوشكت فيه على الانتهاء من رسالتي في أواخر عام ١٩٤٨م، وفي أوائل ١٩٤٩م، تواردت أنباء سيئة من مصر عن حملة الاعتقالات والاضطهاد التي تقوم بها حكومة إبراهيم عبد الهادي ضد الإخوان المسلمين في مصر، ومن بين هذه الأنباء اعتقال أخوي الصغيرين محمود وعمر اللذين كانا في السنة الأولى في الجامعة، وتوالت هذه الأنباء السيئة حتى شعرت بشيء من الضيق والألم، وترددت في إتمام رسالتي، لأن كثيرين كتبوا إلي بأنه من الأفضل ألا أستعجل في العودة إلى مصر في هذه الظروف لأنني إذا حضرت فلاشك سوف اعتقل، وليس هذا مناسبًا في الوقت الحاضر.

ولذلك قل ترددي على الأستاذ «هوجينيه» المشرف على الرسالة، وكنت قد وعدته بأن أقدم له النص الأخير لاعتماده، وتحدد الموعد بيني وبينه، وفي الليلة التي كنت فيها عازمًا على أن أذهب إليه في الصباح التالي، فكرت في أنه ليس من المناسب أن أقدم له الرسالة، لأن معنى ذلك أن أنهي دراستي، وأعود إلى مصر، وصرت محتارًا في هذا الموضوع هل أقدم الرسالة وأعود، أو أماطل وأتأخر؟ ولا أعرف إن كان ذلك مصادفة، أو أن هذا الاكتئاب والتردد قد أحدث عندي حالة نفسية سيئة، فشعرت في منتصف الليل بمغص كلوي حاد، وقاسيت منه تلك الليلة مقاساة لم أعرفها قبل ذلك، لكني اضطررت إلى أن أبقى في غرفتي أقاسي آلامي للصباح وفي الغد عندما ذهبت إلى أحد الأطباء أمر بإجراء أشعة، وتبين أن عندي حصوة في الكلى في الجانب الأيسر، وأعطاني أدوية، وقال إذا لم تنزل الحصوة في خلال أسبوع أو أسبوعين، فيحسن إجراء العملية، وبقيت في المنزل أسبوعًا، ولكن المغص والآلام اشتدت بي فعدت إلى الطبيب، فأمر بإدخالي إلى المستشفى وكانت تسمى مستشفى «القديس جان» قرب «ممبارناس»، وقرر أن يجري لي عملية جراحية.

اغتيال البنا

بعد العملية الجراحية بأيام قليلة، وأنا طريح فراشي في المستشفى في الصباح فتحت جهاز الراديو المجاور لي، ففوجئت بخبر اغتيال المرحوم «حسن البنا» فزاد هذا من اكتئابي، ومن آلامي، وطالت مدة إقامتي في المستشفى.

كان ذلك في شهر فبراير ١٩٤٩م، وفوجئت وأنا في المستشفى بزيارة من الأستاذ «هوجينيه» وفهمت منه أنه لما تأخرت عن الموعد الذي حددته معه ذهب إلى الفندق الذي أقيم به بعد أن أخذ العنوان من بعض زملائي وذهب بنفسه هناك، فقالوا له إنني في المستشفى، وأعطوا له العنوان، وجاء لي بالمستشفى، وكانت هذه بادرة إنسانية من هذا الأستاذ العظيم، مما زاد تعلقي به واحترامي له، واعتبرته نموذجًا فذًا للأستاذ والإنسان المخلص لعمله ومهنته وتلاميذه، وقد أفهمني بأنه يجب علي أن أهتم بصحتي، وأترك موضوع الرسالة حتى أنتهي من العلاج، وفعلًا خرجت من المستشفى، وبقيت في فترة نقاهة أستقبل الأنباء السيئة من مصر، والتي صدتني عن العمل في رسالتي.

رحلة إلى إسبانيا

وفي يوم من الأيام كنت أسير في شوارع الحي اللاتيني، وفوجئت بإعلان ضخم عن رحلة «للحج» إلى الأماكن المقدسة في إسبانيا، وكان الإعلان من جمعية كاثوليكية في فرنسا والكاثوليك في فرنسا لهم كيان متميز عن البروتستانت، وهناك تنافس بين الطائفتين، ونظرًا لأن إسبانيا كلها كاثوليكية فقد كانوا على ولاء تام مع نظام فرانكو في إسبانيا، وكنت أعرف من مطالعاتي في الصحف أن الدول الغربية ومن بينها فرنسا وبريطانيا كانت تقود حملة شديدة ضد النظام الإسباني «نظام فرانكو» بعد انتهاء الحرب بحجة أنه كان حليفًا لألمانيا وإيطاليا، وأن مساعدتهما له اثناء الحرب الأهلية هي التي مكنته من الاستيلاء على السلطة في إسبانيا، بعد انتصاره على الحكومة الاشتراكية اليسارية، وكانت فرنسا بعد الحرب قد زاد فيها نفوذ الحزب الشيوعي والاشتراكي، لذلك فإن الحكومة الفرنسية قادت الحملة ضد نظام «فرانكو» في ذلك الوقت، وفي المحافل الدولية بالتعاون مع الدول الغربية وقد نجح الحلفاء الغربيون في الحصول على قرار من هيئة الأمم المتحدة التي كانت في ذلك الوقت «وما زالت» أداة طيّعة في يد الحلفاء الغربيين، بعد هزيمة المحور، وإبعاد دول المحور وأعوانها بما فيهم إسبانيا من تلك المنظمة الدولية، وأصدروا قرارًا بدعوة جميع الدول للمقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية لنظام فرانكو حتى يستسلم.

لقد التزمت دول كثيرة بقرار المقاطعة وترتب على ذلك تدهور في الأوضاع المالية والاقتصادية، ولاحظنا في كثير من الأماكن مظاهر البؤس والفقر، مثل كثرة المتسولين الذين يضايقون السواح والمتنزهين، وكثرة بائعي اليانصيب وماسحي الأحذية، بل وحاملي «القلل» الذين يبيعون الماء وينادون عليه «اكوافريسكا» Aqua fresqua، بل والترمس وهو يحمل هذا الاسم في لغتهم Eltormos، فضلًا عن باعة الفول السوداني واللب... إلخ، كل ذلك كان يترتب عليه ضوضاء في كثير من الأماكن المزدحمة والشوارع الضيقة.

لقد نفّذت هذه المقاطعة كثير من دول أوروبا والمتعاونين معها، لكن الدول العربية وبعض دول أمريكا اللاتينية رفضت تنفيذها، وقد فهمت من مراسلاتي مع الإخوة مندوبي الأحزاب الوطنية المغاربية في مصر أن الجامعة العربية بإيعاز من عبد الرحمن عزام واقتراحه، وبناء على إلحاح من الوطنيين المغاربة قد اتخذت هذا الموقف، لأنهم كانوا قد وجدوها فرصة سانحة للانفتاح على نظام «فرانكو» والحصول منه على بعض المزايا للحركات الوطنية التي كانت تستعد لبدء المقاومة ضد فرنسا في شمال إفريقيا، وفعلًا كان رفض الدول العربية تطبيق هذا القرار له أثر كبير في إسبانيا، وكان الإسبانيون سعداء جدًا بذلك، لذلك ساعدوا كثيرًا من العرب -الذين كانوا في ألمانيا وفروا منها عقب الحرب، ولجئوا إلى إسبانيا- على الإقامة في بلادهم، وتمكنوا بعد ذلك من الالتجاء إلى مصر، أو إلى المنطقة الشمالية بالمغرب الخاضعة لإسبانيا .

الاشتراك في الرحلة

قبل مغادرة باريس وفي أثناء لقاء لي مع بعض إخواني المغاربة، وهو السيد «الهادي الديوري» الذي كان أحد التجار المغاربة في باريس، وكانت علاقته وثيقة بحزب الاستقلال، وكان يعتبر أحد المفاتيح لعلاقتهم مع الملك محمد الخامس، وكثيرًا ما ذكر لي أنباء عن علاقته بالملك وحزب الاستقلال، وكنت أتردد عليه من حين لآخر، وسمعت منه أن أحد التونسيين الذين كانوا في فرنسا أيام الاحتلال الألماني قد هاجر إلى إسبانيا بعد الحرب خوفًا من الفرنسيين، وأنه يقيم هناك، وأنه على علاقة وثيقة به، وفى نفس الوقت وصلتني رسائل من «أحمد بن المليح» وهو رئيس لجنة الطلبة المغاربة الممثلة لحزب الاستقلال في مصر بأن السيد «علال الفاسي» يقيم في ذلك الوقت في مدينة طنجة، وبعث لي بعنوانه لأراسله.

وعندما قرأت ذلك الإعلان عن رحلة «الحج إلى إسبانيا» تذكرت أن هذه فرصة إن أمكن لي أن أزور إسبانيا، وربما استطعت أن أذهب إلى طنجة لزيارة «علال الفاسي» هناك، وفعلًا ذهبت إلى الجمعية الكاثوليكية التي تنظم هذا «الحج»، وقلت له إنني مصري وإنني مسلم ومع ذلك فإنني أريد أن أشترك معهم في هذه الرحلة إن لم يكن عندهم مانع، وعلى أنها رحلة سياحية، وفوجئت بأنهم رحبوا بي ترحيبًا كبيرًا، لأنهم كانوا حريصين على أن تضم الرحلة أكبر عدد ممكن، لأنها في نظرهم مظاهرة للتأييد والتشجيع الأدبي والاقتصادي والمالي لنظام فرانكو الذي يساندونه ضد التيار الشيوعي والاشتراكي في فرنسا وإسبانيا ودفعت لهم الاشتراك، وقلت لهم إنني في حاجة إلى تأشيرة، فقالوا لا تشغل نفسك فنحن سنحضر تأشيرة جماعية لجميع أعضاء الرحلة في كشف، دون الحاجة إلى جوازات أو خلافه لكنني فكرت في أنني ربما انفصل عن هذه المجموعة في إسبانيا لكي أذهب إلى طنجة وقررت أن أحصل على تأشيرة شخصية على جواز سفري من باب الاحتياط وذهبت إلى المستشار الثقافي، وطلبت منه خطابًا إلى السفارة الإسبانية بأنني طالب وأريد أن أقوم ببعض الأبحاث العلمية الخاصة برسالتي في إسبانيا، وأريد الحصول على تأشيرة لدخول إسبانيا، ولأول مرة منذ أن ذهبت إلى فرنسا وافق المستشار الثقافي على أن يعطيني خطابًا، ورغم أنه رفض قبل ذلك، لأن الموضوع خاص بإسبانيا، ولا يؤثر على علاقاتهم مع السلطات الفرنسية.                                                                            كانت أول مدينة زرناها تُسمى «برجوس» ثم «أوفيلا» وكانت تمتاز بأن لها سورًا يحيط بها، وقد تجولنا بها، ولاحظت قوة الشعور الديني في إسبانيا في كل مظاهر المجتمع وخاصة في هذه المناسبة والتي تسمى عندهم «الأسبوع المقدس» الذي يقع فيه عيد الفصح في الدول الأوروبية وفى إسبانيا يحتفلون طوال الأسبوع في جميع المدن، سواء في المقاهي أو الشوارع أو ما إلى ذلك، وانتقلنا إلى مدينة «سلمنكا» وزرنا فيها الكنائس الهامة والمواقع السياحية، وبعدها وصلنا إلى مدريد.

مع الدكتور حافظ في مدريد

كان أول ما فعلته في مدريد أنني اتصلت هاتفيًا بالدكتور «حافظ إبراهيم» الذي عرّفني به أخي «الهادي الديوري» فحضر إلي فورًا ورحب بي كثيرًا وسعد بلقائي، لأنه قال لي: إنه يقاسي من العزلة في هذه البلاد، وطلب مني أن أترك الرحلة وأنزل في ضيافته فقلت له سوف أتركها، ولكن عندما يغادرون مدريد، لأنه بقي لنا زيارات في الأسكوريال حيث المكتبة الشهيرة، وفي «طليطلة» التي كانت عاصمة الأندلس -وما زالت تحمل الطابع العربي في شوارعها ومبانيها وأسواقها، رأينا مسجدها الذي حُول إلى كاتدرائية مسيحية تحمل اسم «سانتا بلانكا» والقصر العربي القديم الذي دارت حوله معركة فاصلة بين قوات «فرانكو» والقوات الحكومية- وفي غيرها من ضواحي مدريد، وأنا قد دفعت تكاليف الرحلة ومن حقي على الأقل أن أستفيد من نصف الرحلة مقابل هذه النقود، وسأتصل بك عندما يقررون مغادرة مدريد عائدين إلى فرنسا.                                                   

وفعلًا عندما قرروا العودة إلى فرنسا كان ذلك عن طريق برشلونة، وبرشلونة بلدة سياحية جميلة، ولم أرها للآن بكل أسف وضحيت بزيارتها، وقلت لهم سوف أتخلف وطبعا هم لم يهتموا كثيرًا بهذا وأنا مطمئن، لأن عندي تأشيرتي في جوازي، واتصلت بالدكتور حافظ إبراهيم، وحضر إلي، وأخذني إلى منزله وكان يقطن في فيلا في أحد الأحياء السكنية وكان يدير فيها في الدور الأول والبدروم معملًا للمواد الكيماوية والحقيقة أن الدكتور حافظ إبراهيم درس الطب في فرنسا وأتم دراسته وتدريبه في باريس أثناء الحرب، وعندما جاء هاربًا من فرنسا بسبب خوفه من الفرنسيين بحجة أنه تعاون مع الألمان، لم يحضر معه أوراقه واضطر أولًا أن يعمل في أي عمل حتى يحصل على أوراقه، وعندما حصل على أوراقه طلب أن يصرح له بمزاولة مهنة الطب قال لي إنهم رفضوا ذلك، لأنهم ليسوا محتاجين الاطباء، وواضح أنه هناك بعض التعصب منهم، لأنه مسلم كما يقول، وعرفني الدكتور «حافظ إبراهيم» بزوجته وأولاده، وكان ابنه الأكبر «من حسن الحظ» اسمه «توفيق». 

وأكثر من ذلك أن ابنه الثاني اسمه «عمر»، وكان أخي الأصغر اسمه «عمر»، وكان لهذه المصادفة تأثير كبير في تعميق الود والتعاطف، وقضيت معه أيامًا معدودة، وقلت له أريد أن أذهب إلى الأندلس لزيارتها و«الحج» إليها حجًا إسلاميًا بعد هذا الحج المسيحي الذى شاركت في نصفه، وقال لي: من حسن الحظ أن أسبوع الاحتفالات في إسبانيا كلها، وفى الأندلس بصفة خاصة بمناسبة الأسبوع المقدس، وكل المدن تقيم المهرجانات والاحتفالات والكنيسة تنفق أموالًا ضخمة من أجل هذا، وخصوصًا في الأندلس نظرًا لأن الجو هناك أكثر ربيعًا وجمالًا، والطبيعة جميلة جدًا هناك، وقال إنه لم يزر الاندلس للآن، ولذلك فهو سينتهز فرصة حضوري ونذهب معًا لزيارة الأندلس، وحجز لنا في إحدى الطائرات من مدريد إلى إشبيلية، وكانت هذه أول مرة أركب فيها الطائرة في حياتي لأن سفرنا من مصر لفرنسا كان دائمًا في ذلك الوقت على ظهر السفينة.

خلال فترة إقامتي مع «حافظ إبراهيم» بمدريد شعر باهتمامي بقضايا شمال إفريقيا وسرّه ذلك لكنه صرح بعدم ثقته في الأحزاب الوطنية التي أتعاون معها، فبالنسبة لتونس مثلًا ذكر لي أن زعماء الدستور الجديد هؤلاء لهم علاقات مشبوهة مع بعض اليهود في تونس وأنهم يتبرءون من الأصول الإسلامية التي يعتز بها الشعب ويعادون العلماء، وكل من يكون له اتجاه إسلامي، وبالنسبة للجزائر فإن حركة «مصالي» حركة نقابية لا تعرف شيئًا في السياسة ونشأت في باريس بعيدًا عن الوطن دون أن تعرف كثيرًا عن الواقع الاستعماري هناك، ولم يقتصر على ذلك بل كانت له انتقادات كثيرة على جميع الزعماء المغاربة ومنهم «علال الفاسي» وكان هذا السخط ينسحب حتى على العرب غير الزعماء، وفهمت من تاريخ حافظ إبراهيم أنه قاسى كثيرًا من العزلة التي فرضت عليه في إسبانيا، وجو الخوف والرعب الذي مر به في فرنسا بعد خروج الألمان منها.

 وكان الفرنسيون يعتبرون أن العرب جميعًا الذين بقوا في فرنسا بعد احتلال الألمان لها، قد انحازوا للألمان أو على الأقل كانوا فرحين، لأن فرنسا رکعت وهزمت أمام الألمان، وكانوا يعتبرون هذا انتقامًا إلهيًا منهم بسبب ظلمهم للشعوب التي تقاسي من الاحتلال، ومن الظلم الفرنسي، وهذا شعور حقيقي وطبيعي، وخصوصًا من جانب أبناء شمال إفريقيا الذين يقاسون سوء المعاملة والظلم على يد الفرنسيين في بلادهم، وفي فرنسا، ولا يمكن أن يلاموا عليه وهذا الشعور بالفرح لهزيمة فرنسا، كان الفرنسيون يصفونه بأنه تعاون مع الألمان، وهم يعاملون العرب كأنهم فرنسيون لا يجوز لهم أن يتعاونوا مع الألمان، ولا يعرفون أو على الأقل ينسون أن الفرنسيين في نظرنا أيضًا هم أعداء، بل أكثر عداوة لنا من الألمان والتعاون معهم جريمة إذا كان لابد من الكلام عن الجرائم، لأن الفرنسيين أعداء في نظرنا، لأنهم يحتلون شمال إفريقيا.

ولذلك فهم أعداء حقيقيون، أما الألمان فهم أعداء لفرنسا، ولكن على الأقل لم يظهروا عداء صريحًا لبلاد المغرب العربي أثناء الحرب، وكان العرب جميعًا في شمال إفريقيا، بل حتى في مصر أيضًا، لا يخفون شعورهم من السرور، مما يلاقيه الحلفاء من هزائم أمام الألمان وليس هذا تأييدًا للألمان، ولكنه كان شعورًا طبيعيًا بالسخط على الاحتلال الإنجليزي والفرنسي، والاستعمار الأوروبي على وجه العموم، وإذا كان الألمان ظالمين، فإن الله سلط ظالمًا على ظالم.

إن حافظ إبراهيم كان كتلة من السخط على العالم، وعلى العرب بصفة خاصة، فهو يخشى العودة إلى بلاده، لأن بلاده ما زال يحتلها الفرنسيون، وشمال إفريقيا كله يحتله الفرنسيون، والمشرق بعيد عليه، وإسبانيا ولو أنها «آوته» إلا أن الكاثوليكية في إسبانيا مازالت تعتبر كلمة «مسلم» معناها عدو، وهو يشعر بهذا من تعامله مع الإدارة هناك، ولذلك عندما وصل إلى إسبانيا كان مضطرًا للعمل في أي مهنة يلقاها، رغم أنه طبيب ومؤهل للطب، لكنهم لم يعطوا له رخصة للعمل في مهنته واضطر إلى أن ينشئ مشروعًا للاتجار في المواد الكيماوية التي يستوردها من ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، ثم بعد ذلك يصنع منها المواد اللازمة للصيدليات ويبيعها، وقال لي إن لي عملاء كثيرين في جميع أنحاء إسبانيا، وأن من بين أهداف جولته في الأندلس أن يلتقى مع عملائه في كل بلد منها، وعلى كل حال نجح في هذا المشروع وأصبح يتمتع بثقة الإسبان، ويتعامل معهم تعاملًا إنسانيًا وسمّى شركته الشركة الإسبانية الشرقية Hispano Oriente، وأنه كان مستريحًا، ولكن طبعًا اضطر إلى أن يعلم أولاده باللغة الاسبانية، فضلًا عن اللغة الفرنسية لأنها لغة أمهم الفرنسية، ولم يتعلموا شيئًا من اللغة العربية، وأنهم كافحوا حتى أقاموا لهم وطنًا في وسط هذا الوطن المعادي، ويتمنى أن يتمكن من تعليم أبنائه اللغة العربية، لكن لا أمل له في أن يتيسر ذلك له في تونس هذا هو في نظري السبب الأكبر فيما يشعر به صدق حافظ من سخط وطبعًا لا يظهر سخطه على المجتمع الإسباني الذي آواه وأفسح له مكانًا، ولكن لا يخفي سخطه على العرب بحجة أنهم لا يحسنون الدفاع عن بلادهم، وأنهم استسلموا للاحتلال في شمال إفريقيا ويلاقون العذاب والهوان ليس في شمال إفريقيا وإنما في العالم العربي كله، ويقول: إن كثيرًا من هؤلاء الزعماء يضيعون وقتنا في حركات وأحزاب سياسية لا فائدة منها إلا تضييع الوقت، لأن الفرنسيين لا يعرفون إلا لغة الحرب والقتال، ولا يمكن أبدًا أن يتحرر أي شعب عربي أو شعب إفريقي تحررًا حقيقيًا إلا بالقتال، وكل ما يحدث دون ذلك هو غش في غش وسترون أن ما يسمى بالاستقلال الذي يحصل عليه هؤلاء هو الاستعمار بعينه، وكان يعتبر هذه الانتقادات مبررًا لعدم تعاونه مع هذه الأحزاب، إلا إذا اقتحمت ميدان الكفاح المسلح، وأشهد أنه قام بدور كبير في تدعيم الثورة الجزائرية وإمدادها بالسلاح وكان بن بيلا يتردد عليه كثيرًا كلما جاء لأوروبا قبل اعتقاله وسجنه.

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حول العالم

نشر في العدد 2

35

الثلاثاء 24-مارس-1970

حول العالم - العدد 8

نشر في العدد 8

101

الثلاثاء 05-مايو-1970