العنوان مشاهد المعصية في طباع الحيوانات
الكاتب د. ناجي عبدالله الخرس
تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1992
مشاهدات 13
نشر في العدد 1028
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 08-ديسمبر-1992
المقدمة:
إن لله في خلقه شؤون حيث أوجد سبحانه وتعالى في خلقه ما يعرفك بقدرته وبديع صنعه وبكماله سبحانه وتعالى. فأوجد في مخلوقاته عبرًا لمن أراد أن يعتبر ويتذكر، ولذلك تجد أن الله سبحانه لفت قلوبنا وعقولنا إلى بعض خلقه مما يذكرنا عند مشاهدتها بقبح المعصية وأثرها السيئ على الإنسان، وقبل أن تذكر هذه الأمثلة وهي كثيرة نبين أولًا أهمية ضرب المثال بشكل عام.
• أهمية ضرب الأمثال:
يقول جمعة أمين عبد العزيز: "والله يعلمنا كيف نکرر أساليب دعوتنا للناس وكيف ننوعها حسب حال المدعوين دون أن نمل أو نسأم، فمثلًا قد لا يفيد أسلوب مخاطبة الفطرة مع بعض الناس بالرغم من أنه يخاطب مكنون النفوس ويستجيش عواطف القلوب، فرحمة بالعباد فإن المولى يعلمنا كيف نغير من الأسلوب ليناسب المخاطب فبدل أن يخاطب القلب يخاطب العقل الصائب والإدراك السليم؛ علّ هذا الأسلوب يترك الأثر في نفوسهم ويعيدهم إلى رشدهم فيضرب لهم الأمثال لعلهم يتفكرون ويتذكرون.. قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لآن الله يقول ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]"(۱)
1– المثال الأول: من نفسه كلبية:
يقول ابن القيم: "لو صادف جيفة تشيع ألف كلب لوقع عليها، وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق ميتة أو مذكّى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وأن منعته هرك ونبحك" (٢)
ومثال آخر من طبائع الكلب يبينه قوله تعالى في القرآن العظيم قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ [سورة الأعراف:175-177].(۳)
يقول د: صلاح عبد الفتاح الخالدي: وسر التمثيل بالكلب في هذه الآيات هو تشبيه من الله سبحانه من آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض وأتبعه الشيطان واتبع هواه.. أو قل: هو ذلك العالم الذي لم يعمل بعلمه ووجه الشبه بينه وبين الكلب هو اللهاث الدائم المستمر، الكلب يلهث ليخرج العرق من جسمه عن طريق لسانه، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، يلهث باستمرار جريًا وراء حطام الدنيا وتزلفًا للطاغين الظالمين، وحرصًا على إرضائهم على حساب علمه ودينه، وتوظيفًا لعلمه خادمًا لهم. (٤)
•المراجع:
(۱) منهج القرآن في عرض عقيدة الإسلام.
(۲) تهذيب مدارج السالكين ج ۲ ص ۳۳۷ – ۳۳۸
(۳) سورة الأعراف ١٧٥ – ١٧٦
(٤) مع قصص السابقين في القرآن ج ٣ ص ١٤٠
٢– المثال الثاني: من نفسه حمارية
يقول ابن القيم:
"لم تخلق إلا للكد والعلف. كلما زيد في علفه زيدفي كده أبكم حيوان وأقله بصيرة، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه، فلم يحمله معرفة ولا فقهًا ولا عملًا" (1)
يقول تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [ الجمعة: 5]
يقول الشيخ حسنين محمد مخلوف في تفسير هذه الآية: "ضرب الله هذا المثل لليهود الذين أوتوا التوراة وكلفوا العمل بها، فأعرضوا عنها ولم ينتفعوا بها، وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد أمروا فيها بتصديقه واتباعه، فشبههم بالحمار يحمل على ظهره أحمالًا من كتب العلم لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، وليس له إلا ثقل الحمل من غيرفائدة." (۳)
•المراجع:
۱ – تهذيب مدارج السالكين صفحة ٢١١
۲- سورة الجمعة آية (٥)
۳- صفوة البيان لمعاني القرآن صفحة ٧٢٣
3- المثال الثالث: من طبعه طبع خنزير
يمر بالطيبات فلا يلوي عليها. فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ویرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه. فاذا رأى سقطة أوكلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله (۱)
وهذا هو المنافق الذي يتتبع السقطات والزلات ولا يحمل القول أو الفعل من أخيه محمل الخير.. بل يحمله محمل الشر والأذى وسوء الظن.
فهذا المنافق يجره لسانه إلى غضب الله وسخطه جرًّا لأنه بهذا قد وقع في المحاذير والمناهي التي نهى الله عنها كالغيبة والنميمة والكذب وغيرها من آفات اللسان التي من أسباب دخول العبد النار والعياذ بالله، ولذلك نجد التحذيرات عديدة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من عثرات اللسان وأخطاره كمثل قوله تعالى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ ق: 18](۲)
والحديث الذي يرويه الطبراني في الأوسط والصغير وحسن إسناده عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طوبیلمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته»(۳)
وسئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الفم والفرج» (٤) وأيضًا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تتبع السقطات فقال «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (٥) قال الشافعي رحمه الله في تعريف ذوى الهيئات «إنهم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة»
وحتى نحفظ مجتمعنا من قالة السوء علينا بأخذ هذا العلاج من الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله الذي يقول «إن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها، كما شقي بها قائلها» لأن الساعي بقالة السوء يتخذ ذلك سلمًا إلى الفتنة وإفساد صفو الإخوان. وعلى هذا ينبغي محاربة النمام وصده عن طريقته المفسدة لعله يتدارك ما فرط منه وإلا كنا شركاء له في إثمه وإفساده (٦) لأن المستمع شريك القاتل.
•المراجع:
(١) تهذيب مدارج السالكين صفحة ۳٣٩
(۲) سورة ق ۱۸
(۳) ص. ج. ص ۳۹۲۹
(٤) رواه الترمذي (١٦٣٠ الألباني)
(٥) الأحاديث الصحيحة (٦٣٨)
(٦) نفائس الحلة في التآخي والخلة، صفحة ٧٤
المثال الرابع: من هو على طبيعة الطاووس:
يقول ابن القيم رحمه الله «ليس له إلا التطوس والتزين بالريش.. وليس وراء ذلك من شيء»(۱).
لقد أصبح اهتمام كثير من الناس بالمظاهر أكثر من المخابر، والكماليات أكثر من اهتمامهم بالضروريات والحاجيات الأساسية في حياتهم، هذا مما جعل الناس يقيسون الأمور بمقياس مادي بحت دون الالتفات إلى القيم الأخلاقية والعقدية... والسبب الحقيقي في هذا هو الميل إلى الترف.
وإذا بحثت في أحوال الناس وجدتهم يهتمون إما في الملبس أو المطعم أو المسكن أو.. إلخ.
ولهذا تجد علماء الأمة قد تصدوا لهذه التوافه والسفاسف في حياة الناس وأرشدوهم إلى استغلال أوقاتهم وجهودهم وطاقاتهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
قال الثوري وغيره: البس في الثياب ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال. وقال ابن شبرمة: خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته. وقال أبو سليمان الداراني: الثياب ثلاثة : ثوب لله وهو ما يستر العورة، وثوب للنفس وهو ما يطلب لينه، وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اخشوشنوا وإياكم وزي العجم كسرى وقيصر.. ويقول الفضيل : إني لا أعجب ممن بنى وترك ولكني أعجب ممن نظر إليها ولم يعتبر.
فهذه الأقوال من هؤلاء الرجال الذين تسبق أعمالهم أقوالهم ولسان حالهم أبلغ من لسان مقالهم. وهكذا كانوا في عمل واجتهاد وجهاد فكانت هممهم وأفكارهم واجتهاداتهم وأهدافهم تصب في طريق رفع راية الإسلام وعزة المسلمين...وقدوتنا في هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقد جسد هذه المعاني في سلوكه وحياته وهديه.. فقد روى ابن ماجه عدة أحاديث في هذا المعنى تحت باب معيشة آل محمد صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة: قالت: إنا كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا ما نوقد فيه بنار. ما هو إلا التمر والماء «إلا أن ابن نمير قال: نلبث شهرا».»صحيح» مختصر الشمائل المحمدية. وعن عائشة : قالت : لقد كان يأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان. قلت: فما كان طعامهم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء. غير أنه كان لنا جيران من الأنصار جيران صدق. وكانت لهم ربائب فكانوا يبعثون إليه ألبانها.
قال محمد: وكانوا تسعة أبيات. (حسن صحيح)
وعن عمر بن الخطاب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتوي في اليوم من الجوع ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه. (صحيح) مختصر الشمائل.
وعن أنس بن مالك: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مرارًا: «والذي نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع حبٍّ ولا صاع ثمر»، وإن له يومئذ تسع نسوة.
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصبح في آل محمد إلا مد من طعام، أو ما أصبح في آل محمد مد من طعام».
وعن عمر بن الخطاب قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال: فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير، نحو الصاع، وقَرَظ في ناحية في الغرفة. وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناي فقال: «ما يبكيك يا بن الخطاب» فقلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك. قال :« يا بن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟» قلت: بلى.(حسن)– التعليق الرغيب.
•طهارة القلب محل نظر الرب
وخلاصة هذا الموضوع هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم.. يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله في شرح مفهوم هذا الحديث وقد أبان هذا الحديث أن محل القلب موضع نظر الرب سبحانه وتعالى فيا عجبًا ممن يهتم بوجهه الذي هو محل نظر الخلق فيغسله وينظفه من القذر والدنس ويزينه بما أمكن لئلا يطلع مخلوق على عيب فيه ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق فيظهره ويزينه لئلا يطلع ربه على دنس أو غيره (٦).
•المراجع:
۱- تهذيب مدارج السالكين صفحة ٣٣٩
۲- صحيح سنن ابن ماجه – الألباني – صفحة٤٠٠–٤٠١
٣- رواه مسلم.
٤- الأحاديث الثلاثون التي عليها مدار الإسلام وقواعد الدين صفحة ١٤ – المؤلف موسى الأسود.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل