العنوان مشكلات عصرنا .. يبحثون عن حل لهذه المعادلة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 05-سبتمبر-1972
مشاهدات 68
نشر في العدد 116
نشر في الصفحة 18
الثلاثاء 05-سبتمبر-1972
● طموح إلى زيادة الإنتاج
● يحيط به «الرعب» من المضاعفات.
من أكبر التحولات التي تشهدها السبعينيات من هذا القرن على الصعيد الفكري هو زحزحة «غاية» السعي وراء القوة المادية كهدف للمجتمع الإنساني فمنذ القرن الثامن عشر وعلى أيدي فلاسفة الثورة الفرنسية وضع الرخاء المادي كهدف غائي أمام الحكومات والأفراد حتى دمغت هذه الحضارة بطابع المادية والإلحاد وقد كان للتبشير بهذه الفلسفة تأثير مباشر وبالغ الأثر على الأخلاق والعلاقات الإنسانية فجاءت الثورة الصناعية في أوربا لتركز هذا المفهوم وتعطيه بعدًا اقتصاديَا محددًا وهو أن رخاء الفرد والأمة لا يتأتى بما لديها من ثروة ولكن بالنمو المستمر في هذه الثروة وبذلك فـــــإن العلاج الوحيد لمشكلة الفقر هو النمو السريع والمستقبل للإنتاج الاقتصادي فأصبح الساسة من كل الاتجاهات الفكرية يكرسون أنفسهم لزيادة المقدرة الإنتاجية لشعوبهم باعتبار أن هذا هو مقيـاس نجاحهم.
ولم يستطع أحد أن يلمس بالانتقاد هذا «المعبود» بالرغم من الويلات التي جرها على الإنسانية من انطلاق الدول الأوربية في حملة مسعورة لاستعمار الدول الضعيفة لاستغلال مواردها ليس هذا فقط ولكن ما جره على المجتمع البشرى من تدهور خطير في القيم والأخلاق حتى أصبح المجتمع الإنساني مثل الغابة.
ومنذ سنوات قليلة فقط بدأ العلماء الاقتصاديون ينتبهون إلى حقيقة هامة وهي أن النمو الاقتصادي المستمر إنما هو داء خبيث في طريقه إلى سلب الإنسان ليس فقط قيمه الإنسانية ولكن أيضًا سلبه الرخــاء الاقتصادي نفسه وقد يبدو هذا الاستنتاج غريبًا ومتناقضًا ولكن الحقيقة التي يضعها كثير من العلماء في هذه الأيام أمامنا هي أن زيادة الإنتاج الاقتصادي والصناعي سوف تحطم هذه الحضارة إما عن طريق استنزاف الثروات الطبيعية التي ورثها الإنسان على هذه الأرض أو عن طريق تلويث البيئة التي يحيا فيها الإنسان من هواء ومزروعات بحيث يكون من المتعذر على الإنسان أن يحيا ويتكاثر وقد علق الدكتور مانشولت رئيس اللجنة الاقتصادية للسوق المشتركة قائلًا: «إن الزيادة المطردة في الناتج القومي ينظر إليها في أمريكا وأوربا واليابان على أنها «دين» ولكن الواقع الذي يجب أن نعترف به هو أن الناتج القومي إنما هو هدف مدمر وشيطاني»
وقد تصاعدت المشاعر المضادة للنماء الاقتصادي كهدف أسمى للمجتمع الإنساني منذ سنوات ولكنها لم تظهر عـلى السطح وتجذب الأنظار إلى الخطر الماثل للإنسانية وللحضارة إلا بظهور كتاب بعنوان «حدود النماء» والذي عرفه أحد المعلقين بأنه سيحدث ثورة فكرية لا تقل في أهميتها بالنسبة للعقل الإنساني عن اكتشاف الجاذبية أو الذرة وقد أعد الكتاب واشترك في تأليفه مجموعة مكونة من سبعة عشر عالمًا من جنسيات وتخصصات مختلفة وعلى رأس هذه المجموعة البروفسير جای فورستر من جامعة هارفارد وهو من الرواد الأوائل في حقل استعمال العقول الإلكترونية في تحليل الاتجاهات الأكثر احتمالًا في المستقبل ومما يؤكد أهمية الكتاب أن «نادي روما» الثقافي قد تبنى نشره وهذا النادي ليس إيطاليًا كما يبدو من اسمه ولكنه عبارة عن تنظيم يضم مجموعة من كبار وبعض رجال الصناعة والبنوك المعروفين يمثلون حوالي ٢٥ جنسيه في العالم وكل الكتب والنشرات التي يتبناها هذا النادي ينظر إليها بعين الاحترام والتقدير في الأوساط العلمية وقد قام فورستر والمجموعة التي شاركت في تأليف الكتاب بتغذية العقل الإلكتروني بمعلومات وإحصائيات هائلة عن النمو السكاني في العالم وعن نسبة النمو الصناعي في كل الدول والإنتاج الزراعي والحيواني والبترول والمعادن الخ وكانت النتيجة التي توصلوا إليها أن النماء الاقتصادي والصناعي بدون حدود سيؤدي إلى تدهور مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه في كل من التعداد السكاني للعالم وفي المقدرة والطاقة الصناعية للبشرية قريبًا من عام ٢١٠٠ م وقد أكدت هذه الدراسة بقوة أنه إذا استمر التعداد السكاني في الزيادة بنفس النسبة التي ينمو بها الآن وهي ٢ ٪ سنويَا وإذا استمر الإنتاج الصناعي العالمي في الاتساع بالنسبة الحالية وهي ٧ ٪ سنويًا فإن العالم - خلال حياة الجيل الذي يولد الآن - سوف يواجه عجزًا ونقصًا خطيرًا في الموارد الطبيعية مثل الفحم والبترول والمعادن التي تستخدمها الصناعات الحديثة.
والنقص في هذه الموارد الأساسية للإنتاج سوف يؤدي بالتالي إلى انهيار الصناعات في أوساط القرن الحادي والعشرين ولأن المصانع لن يكون في مقدرتها إنتاج ما يكفي من الأسمدة والمضادات الحشرية والأدوية فإن المجاعات والأوبئة سوف تقضي على أعداد هائلة من الجنس البشري كما أغلقت هذه الدراسة الباب أمام أي وسيله للهروب من هذا المصير المخيف فبالرغم من اعتراف الكتاب بأن التقدم التكنولوجي يمكن أن يضاعف المواد المستعملة في الصناعة مثلما قدم لنا البلاستيك والألياف الصناعية التي تقلل اعتمادنا على الألياف الطبيعية المستخرجة من الأرض مثل القطن والحرير والصوف إلا أن ذلك لن يوقف الصناعة من النماء السريع الأمر الذي يواجه الإنسان بخطر آخر وهو تلوث البيئة والهواء المحيط به بدرجة تكفي لجعل الحياة مستحيلة لكثير من المخلوقات.
ومن ناحية أخرى فإن النمو السكاني المطرد سوف يشكل ضغطًا هائلًا على الأرض الصالحة للزراعة في العالم حتى ينعدم الانسجام والتناسب بين كمية إنتاج الطعام وبين عدد الأفواه التي تأتي للحياة بتزايد مستمر فتحل المجاعات في أنحاء المعمورة
● ما هو المخرج؟
يقول التقرير أن الحل الوحيد هو أن يقف النمو الصناعي والسكاني تمامًا ما بین ۱۹۷٥ ۱۹۹۰ ميلادية وذلك بأن يقتصر حجم الاستثمارات في العالم على النسبة الكافية لاستبدال المصانع والآلات الموجود حاليًا فقط أي عدم استثمار أموال جديدة لبناء مصانع وآلات جديدة إلا بالقدر الذي يحفظ الكمية الموجودة في تلك الفترة في حالة ثبات وهذه الحال يطلق عليها الكتاب اسم «التوازن الكوني»
ولكن هذه النظرية الجديدة التي تدعو إلى وقف عجلة النماء والإنتاج الاقتصادي والصناعي أثارت انتقادات كثيرة مثلما أثار مالتس في القرن الثامن عشر ثورة مضادة بادعائه أن تزايد السكان المستمر سوف يقود إلى البؤس والمجاعات والحروب فوقف التنمية الصناعية لا يعني مجرد أن يتخلى الأغنياء عن الكماليات التي تقدمها لهم الصناعة ولكن يعني كذلك تضحيات جسيمة من جانب الجماهير الفقيرة من الفقراء الذين لم يتسن لهم بعد قطف ثمار الثورة الصناعية منذ قرنين أو يزيد وعلى الرغم من أن مواصلة الإنتاج الصناعي المتزايد لا تضمن بالضرورة توفير الرفاهية والعمل المناسب أو الغذاء للعامل الفقير في جنوب أمريكا أو على ضفاف النيل فإن وقف عجلة الإنتاج وبناء الصناعات سوف يقفل أمامه الاحتمال أو الأمل في مستوى أفضل كما أن إعادة توزيع الثروات الموجودة حاليًا لا يعتبر حــــلًا ناجحًا لأن الأغنياء أو الطبقة المتوسطة البورجوازية لن تقبل التنازل عما تملك إلا إذا أجبرت على ذلك وبهذا يتولى «توزيع الثروة» ثورات دموية تؤدي إلى الحروب للسيطرة على ملكية الثروات الطبيعية من آبار البترول أو المناجم أو الأراضي الخصبة وحتى لو تم ذلك فإنه سيكون مساواة في البؤس والفقر وأكثر من ذلك فإن عالمًا بدون نماء اقتصادي سوف يواجه مصاعب جمة في توفير العدالة الاجتماعية أو الحرية سواء.
فمن المستحيل أن نتصور كيف يمكن إيقاف النمو أو التخفيض من سرعته بدون وجود ديكتاتورية على مستوى العالم كله ومنذ الآن فإن الدول المتخلفة تعتقد أن هذه النظرية إذا تمكنت من إيقاف عجلة الإنتاج في أمريكا سيكون – في نفس الوقت - الإنتاج الصناعي مستمرًا في التزايد والنماء في الجزائر أو نيجيريا أو الهند مثلًا والحد الأدنى من هذه الديكتاتورية هــــو محاولة إقناع الشعوب بأنها لن تتمكن مثلًا من اقتناء الترانزستور لأن العقل الإلكتروني قد قضى بأنه لا يوجد ما يكفي من المواد الطبيعية لاستثمارها في صناعة الراديوهات.
فهل يكتـــــب لحرية الكلام والانتقاد البقاء في مثل هذا الجو.
● والسؤال الهام الآن هــو هل صحيح أن الجنس البشري سوف يواجه هذا المستقبل المظلم كما قدر التقرير سواء في أواسط الحادي والعشرين أم في القرن الثلاثين هذه في الواقع نقطة الضعف الكبرى في هذا التقرير فقد بنى الكتاب تنبؤه على تغذية العقل الإلكتروني بإحصائيات عن النمو المركب للإنتاج الصناعي الذي يؤدي إلى استغلال الموارد الطبيعية بنسبة مضاعفة وسريعة وفي النهاية يؤدي إلى نسبة نمو تشبه الربح المركب بينما يمكن إنقاذ العالم لو سمح بالنماء بنسبة معتدلة مثل عمليات الربح البسيطة، وهناك فرق شاسع بين النمو المبنى على الربح المركب والمبنى على الربح البسيط فمثلًا أي شيء ينمو بالربح المركب ٧ ٪ في السنة سوف يتضاعف حجمه في عشر سنوات ويتزايد بنسبة ٨٦,٦٧٢ ٪ في مدة ١٠٠ سنة بينما النمو ٧ ٪ سنويًا على طريقة الربح البسيط سوف يؤدي إلى تضاعفها في مدة ١٤ عامًا بدلًا من عشر سنوات وإلى تزايد ٧٠٠ ٪ في مدة ١٠٠ سنة.
ويركز نقاد التقدير على نقطة أخرى وهي أن الندرة التي ستحدث في الموارد الطبيعية سوف ترفع أسعار السلع قبل حلول هذه الكارثة بزمن طويل.
الأمر الذي سيؤدي برجال الصناعة والمستهلكين إلى استبدال المواد النادرة بأخرى متوفرة ورخيصة كما أن الصناعات ستجد الطرق الفنية التي تمكنها من استخدام هذه المواد النادرة بأعلى درجة من الكفاءة بمعنى إنتاج نفس وحدات السلع بأقل ما يمكن من هذه الموارد.
كما يحدث الآن في محاولة استبدال الذرة في توليد الطاقة الكهربائية بدلًا من البترول أو الفحم، وبذلك يصبح جوهر الانتقاد لهذه النبوءة ومثيلاتها أنها تحاول أن تستخلص من الاتجاهات ونسب النمو والإحصائيات الحالية كيف سيكون المستقبل عن طريق الحسابات الإلكترونية دون أن تشمل في تحليلها كيف سيستطيع الإنسان أن يغيرها فالإنسان يعتبر - خطأ - في هذه النظريات عنصرًا سلبيا - وقد أثبت التاريخ عكس ذلك تمامًا.
وعلى الرغم من هذه الحجج الوجيهة فإنه لا يجب بأي حال أن نغض الطرف عن هذا التقرير فإن الكارثة التي تنبأ بها يمكن أن تحدث بل في الواقع أن بعض البلدان بدأت تتجرع حرارتها مثل اليابان فإن النمو الصناعي المجنون في هذه الجزيرة الصغيرة قد لوث الهواء والماء لدرجة سببت انتشار كثير من الأمراض الخطيرة وأحيانًا الموت كما أنه لا يستطيع الإصرار على أن النمو الصناعي لا حدود له إلا المتفائل لدرجة البله، لأن ذلك يعني أن الموارد الطبيعية لا حدود لها وهــــــو افتراض غير صحيح ومرفوض. حتى إذا أمكن زيادة مقدرة الأرض على احتواء التلوث الناتج من الصناعة وإحباط مفعوله في الحياة أو حتى إذا استطاع الإنسان احتلال كواكب وعوالم أخرى فإن أحدًا لا يستطيع أن يؤكد بأن ذلك يمكن أن يحدث بالسرعة الكافية التي تسمح لنا بمواصلة هذا النماء المجنون بنفس السرعة وبنفس الكيفية الحالية ولذلك فإن قيمة هذا الكتاب تتمثل في ضرورة البدء الآن في وضع حدود حول درجة النمو الصناعي والاقتصادي في العالم.
● ومن هذا المنطلق فإننا سنتوقع من الاقتصاديين ورجال الأعمال والصناعات السعي وراء نمو اقتصادي وصناعي نظيف لا يلوث البيئة وأن يحجموا عن أنواع الاستثمارات الصناعية التي تسرف في استغلال الموارد الطبيعية المعدودة ولكن المشكلة في هذا الصدد هي أنه لا يوجد إلى الآن مؤشر أو مقياس يعيننا على الاختيار أو التمييز بين الأنواع المختلفة من النماء فالإنجاز الاقتصادي يقدر مدى نجاحه أو فشله بالزيادة أو النقص التي تصيب الناتج القومي الإجمالي أو باللغة العامية الدخل القومي والناتج القومي الإجمالي إنها هو مفهوم كمي وليس نوعيًا.
وبذلك يمكن أن تكون هناك نشاطات اقتصادية ضارة تنفق عليها أموال وموارد كثيرة لأنها تؤدي في النهاية إلى زيادة حجم الناتج القومي أو الدخل القومي واتخاذ الناتج القومي الإجمالي كمقياس للنجاح الاقتصادي يميل إلى التركيز المبالغ على أنواع الإنتاج الصناعي التي تستهلك كميات كبيرة من الصلب والمواد الخام في صناعة السيارات والطائرات وهي أنواع الإنتاج التي تستنفد الموارد الطبيعية والطاقة وتلوث البيئة التي يتنفس فيها الإنسان ومن الناحية النظرية يعتبر الجنيه أو الدينار الذي يدفع كأجر لمدرس اللغة العربية مساويًا في قوته الشرائية تمامًا للجنيه الذي يدفع كأجر لعامل في مصنع للسيارات، ومن الناحية العلمية فإن تشغيل عشرة عمال في مصنع للسيارات يزيد الناتج القومي الإجمالي أكثر مما يزيده تشغيل عشرة مدرسين للغة العربية، لأن العامل الواحد في مصنع السيارات ينتج سلعة يمكن أن تباع بأضعاف أضعاف أجره مما يزيد الناتج القومي أكثر مما يزيده إنتاج المدرس، وهذه بالطبع نتيجة خاطئة - لأن مقياسنا للتقدم والنماء الاقتصادي خاطئ من أساسه، وهذا هو الأمر الواقع.
ومحاولة تغيير هذا الأساس الموروث لابد أن تؤثر على طبيعة السياسة الاقتصادية وتحديد أوجه إنفاق الميزانية بالنسبة لأي حكومة. أي هل نريد مزيدًا من المدرسين أم مزيدًا من السيارات والغسالات الكهربائية.
وبالنسبة للدول المتخلفة فإن تغيير هذا المفهوم ليس بتلك الأهمية لان شعوبها مازالت في حاجة ماسة إلى الضرورات ولم تصل بعد في استهلاكها للموارد الطبيعية إلى درجة الجنون التي وصلت إليها الدول المتقدمة صناعيًا فمن الإحصاءات الهامة في هذا المجال وجد أن استهلاك المواطن الأمريكي يزيد خمسين مرة عن استهلاك المواطن في الدول المتخلفة للمواد الطبيعية من حديد وفحم ومنجنيز وبترول وكافة المواد الخام الأخرى، ولذلك فإن صيحة المحافظة على الموارد الطبيعية في هذا الكوكب لابد أن تواجه في هذا المقام الأول للاقتصاد في استغلال ثروات للدول المتقدمة ليس فقط الأرض ولكن للحيلولة دون وقوع الجنس البشري في كارثة الدمار والمجاعات التي تترصد مستقبله إذا استمر الفكر الاقتصادي العربي في اعتبار مقياس النمو والنجاح هو الزيادة المستمرة في الناتج القومي الإجمالي.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل