; مصر: رؤية تحليلية لتطور العلاقة بين الكنيسة والدولة.. ذلك القبطي المشاكس! | مجلة المجتمع

العنوان مصر: رؤية تحليلية لتطور العلاقة بين الكنيسة والدولة.. ذلك القبطي المشاكس!

الكاتب أحمد عز الدين

تاريخ النشر السبت 19-مارس-2005

مشاهدات 17

نشر في العدد 1643

نشر في الصفحة 40

السبت 19-مارس-2005

تتجدد الدهشة وينعقد اللسان استغرابًا مما يحدث من بعض أقباط مصر الذين ظنوا، بل استيقنوا، أنهم فوق القانون وفوق كل مساءلة، وأن لهم مطلق الحرية في أن يقولوا ما يشاؤون ويفعلوا ما يرغبون.

المشهد ما زال في الذاكرة رغم مرور ما يقرب من شهر على وقوعه.. وقد جرى هذه المرة في مدينة الفيوم التي تبعد حوالي مئة كيلو متر إلى الجنوب الغربي من العاصمة المصرية. فقد رغبت ماريان مكرم وتريزا إبراهيم المتخرجتان حديثًا في كلية الطب في شهر إسلامهما واتجهت الفتاتان - وفق رواية موقع إسلام أون لاين - إلى مكتب الشهر العقاري بالفيوم التوثيق اعتناقهما للإسلام، وهنا تدخلت أجهزة الأمن، وطلبت من رجال الدين المسيحي في الفيوم الحضور لأحد فنادق المدينة لعقد «جلسة نصح» للفتاتين، يكون منوطًا فيها ببعض الكهنة نصح الفتاتين بالبقاء على دينهما.

 وما أن نما إلى علم أقباط الفيوم ما جرى حتى خرجت جموع حاشدة بالآلاف، - أغلبهم من الشباب - للتظاهر داخل كنيسة مارجرجس يوم ۲۷ فبراير الماضي، احتجاجا على عقد جلسة النصح!! وطالبوا بإعادة الفتاتين لأسرتيهما. وانتهت القضية بتلك الجلسة التي جرى خلالها «إقناع!» الفتاتين بعدم المضي قدمًا في إجراءات الإشهار! 

غرام أم اقتناع؟

وكما قيل في الحادثة الشهيرة لإسلام وفاء قسطنطين زوجة أحد رهبان الكنيسة الأرثوذكسية في شهر ديسمبر من العام الماضي. وكما قيل في حوادث أخرى عدة مشابهة، عاد الحديث عن قصتي حب وغرام جمعتا بين ماريان وتريزا وزميلين مسلمين لهما في الدراسة، وأن العاطفة والطيش - لا الاقتناع والإيمان - كان وراء رغبة الفتاتين في الدخول في الإسلام، وكما تردد في وقائع أخرى مسابقة، تردد أيضًا أن المسلمين يكرهون القبطيات على الدخول في الإسلام وإن «مباحث أمن الدولة ضالعة في ذلك المخطط»!

تصعيد متعمد:

ومن يتتبع سير الأحداث وتصاعدها لا يستطيع بحال أن يعفي بعضًا من رجال الكنيسة من مسؤولية ذلك التصعيد، فسرعة الحشد، وفتح أبواب الكنائس لتضم المتظاهرين بمأمن من تدخل الشرطة «والتي لم تقتحم كنيسة واحدة».

وتوفير الإعاشة للمتظاهرين.. كل ذلك يتم بإشراف رجال من الكنيسة.. بل تشير الشواهد والحوادث إلى ما هو أكبر من ذلك.. ففي أحداث الكاتدرائية المرقسية «مقر بطريرك الأقباط الأرثوذكس» المصاحبة لإسلام وفاء قسطنطين، يروي د. محمد سليم العوا في مقالة بعنوان: «التساؤلات مشروعة حول قضية وفاء قسطنطين» عندما أراد ضابط برتبة اللواء أن يتقدم نحو القساوسة الذين كانوا في مقدمة المتجمهرين داخل الكاتدرائية ليتحدث إليهم هتف به أحدهم قائلًا: «مكانك من فضلك.. نحن سنتولى كل شيء» فرجع الضابط إلى مكانه!! وفي حادثة أخرى غير منشورة قال أحد القسس لفتاة أسلمت وفي حضور ضابط كبير: إن الأقباط سيطلقون عليها الرصاص عند خروجها من مبنى الأمن، ورغم هذا التهديد الصريح فقد مرت كلماته دون تعليق، اكتفى الضابط الكبير بأن أمن خروج الفتاة من باب خلفي!

 والأسوأ من ذلك، والذي يمكن أن يندرج تحت بند الخيانة العظمي، أن تتردد هتافات في داخل الكاتدرائية من قبيل: «يا أمريكا فينك فينك.. أمن الدولة بيني وبينك»! وهي استغاثة صريحة بأمريكا ودعوة للتدخل لحماية الأقباط من اضطهاد مزعوم، وبرغم ذلك لا نجد من يكبح جماح هذه الانفعالات ساعة فورانها، أو يعالجها بعد ذلك، بل يتنامي الاتجاه للعزف على وتيرة الاضطهاد الديني، وفي واقعة الفيوم رفعت لافتة بالإنجليزية تقول: Christians under attack أي «النصارى تحت وطأة الهجوم»، وهي عبارة مستقاة من الإعلام الغربي الذي كان يكتب أن العراق تحت وطأة الهجوم إبان حرب احتلال العراق.. بل إن بعض من لعب يومًا دور حمامة الوفاق الوطني والتعايش بين المسلمين والأقباط أسرع يستنجد بمجرم الحرب شارون لإنقاذ الأقباط، وهو توجه خطير للغاية يحتاج لسعيجاد من رأس الكنيسة لكبح جماحه.

ومع تعمد إثارة أولئك النفر من الأقباط للمشكلات مع كل حالة شهر إسلام، فإن الجهات الأمنية لا ترحب بمن يأتي مسلمًا، بل تسمع من يحكي أن أحد ضباط الشرطة عنف امرأة دخلت مكتبة لتبلغه برغبتها في الإسلام، مضيفًا بأن الإسلام ليس بحاجة إليها!.

 ورغم تكرار حوادث إسلام النساء والفتيات فإن أحدًا لا يريد أن يقر بأن وراء ذلك اعتقادًا قلبيًا وقناعة عقلية، وإنما تعاد دائمًا الأسطوانة المشروخة عن حدوث عمليات إغواء للقبطيات، أو إكراه لهن على اعتناق الإسلام، فأما الإكراه فهو منتف أساسًا، إذ يعلم المسلم أن الإكراه لا يصلح مدخلًا للإسلام، ومن أعلن الإسلام باللسان وهو كاره غير مقر فإن إسلامه غير صحيح، وأما الإغواء والحديث عن قصص الحب فالمقصود بها إظهار تلك الحالات على أنها نزوة وطيش أو عمل مناف للأخلاق، لا يقصد به وجه الله، علمًا بأن بإمكان الفتاة النصرانية أن تتزوج المسلم الذي تحبه دون حاجة لشهر الإسلام، وأن تؤخر تلك الخطوة إلى ما بعد الزواج بعد أن تكون قد تحررت من سطوة الأهل.

ميزة أن تكون من الأقلية:

ومن الواضح أن أولئك النفر يدركون «الميزة» النسبية لكونهم من أقلية تعيش وسط أغلبية مسلمة كبيرة، ويدركون ضعف رد الفعل الحكومي تجاههم، إما لتهيب الحكومة من ردة الفعل الدولية، ورغبتها تحاشي المواجهة مع المنظمات التنصيرية في العالم «وبعضها يقدم مساعدات لمصر»، أو لأن بعض الأقباط لهم علاقة قوية بوسائل الإعلام العالمية، أو لانشغالها بمواجهة تيارات إسلامية، أو للأسباب السابقة مجتمعة وربما معها أسباب أخرى، ويشجعهم لين الموقف الحكومي على التقدم خطوات للأمام، فهي فرصة يرونها تاريخية.

ففي قضية وفاء قسطنطين ومن قبلها في الفضيحة الجنسية لأحد الكهنة، خرجت المظاهرات من الكنيسة وحطم المتظاهرون السيارات واعتدوا على رجال الأمن الذين كانوا مسالمين للغاية، ويبدو أنه كانت لديهم تعليمات مشددة بعدم اللجوء للقوة، ومع ذلك فقد أفرجت النيابة عن المخربين قبل أن تجف دماء المصابين من رجال الشرطة، وقبل أن يغادر كثير منهم أسرة المستشفى! أفرجت عنهم النيابة لأنهم من الطلاب وصغار السن وأن إخلاء السبيل قد تم، «حرصًا على مستقبلهم الدراسي ولعدم إدراكهم للموقف»! وقال النائب العام «إن النيابة راعت في هذا القرار، الحفاظ على مستقبل الطلبة الدراسي، وإتاحة الفرصة لهم لإتمام دراستهم.. وبالنسبة للأحداث، فقد راعت النيابة صغر سنهم، وعدم إدراكهم للموقف وتبعاته، وذلك برغم وجود بعض المجندين الذين يتلقون العلاج بالمستشفى نتيجة إصابتهم في أحداث الشغب».

طلب المساواة بالمخربين:

إن المقارنة البسيطة بين حال هؤلاء المغربين وحال آخرين ينتمون للتيار الإسلامي تكشف حجم «التدليل» الذي يتلقاه أصحاب التوجه المتشدد من بين الأقباط، واتساع دائرة المزايا التي يحصلون عليها. فمنذ بداية العام الدراسي الجامعي الحالي تتحفظ النيابة على عدد من الطلاب من جامعة الزقازيق، بينهم أربعة في السنة الأخيرة في كلية الطب ينجحون بامتياز كل عام، وقد تعرض مستقبلهم للخطر مع استمرار تمديد حبسهم تباعًا لما بعد اختبارات منتصف العام الدراسي. وهناك طلاب آخرون من مختلف الجامعات المصرية وبخاصة جامعتا الفيوم وبني سويف، وبعد حادث التفجير في طابا ألقي القبض على المئات من الشباب المسلم: بينهم تلامذة وطلاب لم يهتم أحد بمستقبلهم الدراسي. وقد طلب بعض هؤلاء الطلبة المحبوسين من النيابة الإفراج عنهم أسوة بطلبة الكاتدرائية، مشيرين إلى أنهم لم يخرجوا للشارع متظاهرين ولم يحطموا السيارات ولم يعتدوا على رجال الشرطة، فلم يلقوا سوى الصمت ردًا على طلبهم. 

ومن أخطر ما تشير إليه المواقف القبطية الأخيرة، تغير النظرة إلى العلاقة بين الدولة والكنيسة لا باعتبار الأخيرة جزءًا من الدولة بل باعتبارها ندًا لها، ونستحضر هنا ما كتبه بتاريخ المستشار طارق البشري «جريدة الأسبوع بتاريخ 10 يناير الماضي»، إذ يقول إن: «الأمور في هذا الحدث اضطربت واختلطت على نحو بدا فيه للمعتدي أنه معتدى عليه، ومارس فيها صاحب السلطة سلطته إنفاذًا لمشيئة غيره، وانحسرت فيها سيادة الدولة عن بعض رعاياها وبعض أقاليمها».

وعن الدور السلطوي الجديد الذي تقوم به الكنيسة يقول: «نرجو أن تقوى هيئات المجتمع الأهلي جميعًا، وأن يرفع عنها من إصر الدولة المركزية... ولكن لا يدخل في إطار فاعليات المجتمع الأهلي قط يكون لواحدة من هيئاته سلطة الإمساك بالناس وتحديد إقامتهم وحفظهم في أماكن خاصة تسيطر عليها هذه القوى الهيئات من دون الدولة المركزية.. وخلاصة الأمر العجيب الذي دار أمام أعيننا أن دولة مستبدة، وذات سلطات طليقة فيما تمارسه على مواطنيها من هيمنة الدولة وهنت وضعف منها العزم الديمقراطي العام، أعطت جزءًا من استبدادها لهيئة خاصة هى إدارة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لتمارسه على من يتبعونها استبدادا بهم وطغيانًا... والقارئ يعرف القصة، وهي أن الإدارة الكنسية طلبت تسليم مواطنة إليها، فصدر القرار بتسليمها إليها.. والأكثر من ذلك أن الإدارة الكنسية وبعضًا من المطارنة اعتبروا أن هذا حق قانوني لهم.. لم يؤذن لأحد من الخارج رجال الإدارة الكنسية أن تلتقي «بالنيابة العام» في غير صحبة رجال الكنيسة، ومضى على ذلك حتى الآن من الوقت والأسابيع ما يجعله حبسًا بغير حكم ولا قرار ولا مسوغ من قانون، ومن هنا يظهر أن الإدارة الكنسية مارست سلطة ضبط واعتقال.

من جهة أخرى، فإن أحداث التظاهر في ساحة الكاتدرائية وما تلاها من اشتباك بين بعض شباب المتظاهرين والشرطة كان مما أسفرت عنه من إصابات متبادلة. أن ألقت الشرطة القبض على 24 من الشباب، ومن هنا بدأت الإدارة الكنسية تطالب بالإفراج عنهم، أن البطريرك لن ينهي اعتكافه إلا بعد هذا الإفراج، ولم ينه الاعتكاف فعلًا إلا بعد الإفراج الأولي عن ۱۳ شخصًا ثم  أفرج عن 10 أشخاص، وهكذا لم يحل قداس عيد الميلاد في 7 يناير إلا وكان الإفراج قد تم كله بالطريقة التي ترضي البطريرك، وأنا لا أتكلم هنا من إجراءات القبض والإفراج، ولا عن حق الجماعات في التظاهر، إنما أتكلم عن سلطة الإدارة الكنسية في أن يكون «من حقها» هي أن تطالب وأن تكون هي الممثل للمواطنين أمام دولتهم، فتكون وسيطًا قانونيًا، بين الدولة ومواطنين بها، ويقال دفاعًا عن ذلك: «نحن متأكدون أن هؤلاء الشباب أخذوا من الطريق العام ولم توجه إليهم أي دلائل إدانة، بمعنى أن الإدارة حققت الأمر وتأكدت من البراءة وهي تطلب الإفراج لأنها رأت ذلك، فالبحث كنسي والقرار كنسي وعلى الدولة أن تنفذه!. ومن هنا، فإن الإدارة الكنسية تمارس الحق في القبض والحق في التحفظ، كما تمارس «الحق» في إصدار قرار الإفراج وتضغط لتنفيذه على أجهزة الدولة المختصة بالتحقيق وإصدار القرارات في هذا الشأن».

سلطة سياسية إلى جانب الدولة:

 ويشير البشري إلى نقطة أخرى قائلًا: «الأخطر من ذلك أن نشاط الإدارة الكنسية في هذه الفترة الأخيرة يجاوز - في العمل السياسي - ما يمكن أن تصنعه الأحزاب السياسية. فالأحزاب تعمل لتستطيع بالعمل السياسي اعتلاء الدولة وقيادتها، ولكنها لا تمارس السلطة السياسية من الدولة ولا تشارك الدولة في ممارسة السلطة السياسية على المواطنين كلهم أو بعضهم. إن الدعاوى الأخيرة التي وردت في مطالبات رجال الكنيسة وممارساتهم قد جاوزت النشاط الحزبي المطالب «بالسلطة» إلى نوع من النشاط «يمارس السلطة» أو أنه يدعي لنفسه الحق في ممارستها على أهل دينه من مذهبه، وعلى من يخرج منهم إلى دين آخر أو مذهب آخر.

عودة للعصور الوسطى:

واعتبر البشري أن ما تقوم به الكنيسة بعيد للأذهان سلطات «العصور الوسطى» التي يسميها الأوروبيون بعصور الظلمات: «هذا الذي سماه الأوروبيون عصور الظلمات صار هو ما تنشده الإدارة الكنسية في مصر الآن، وهو ما تستخلصه بالضغط على الدولة وتصنعه بالواقع الفعلي و«بالسوابق» العملية ثم تسميه «حقًا» و«قانونًا».

 لكن القليل جدًا بل النادر من يملك الجرأة للحديث عن عودة عصور الظلمات إلى الكنيسة، ويكتفي معظمهم بمهاجمة «رجعية الإسلام» والقليل جدًا بل النادر من يناقش معنى المدلول الذي تحمله كلمة «قداسة» التي يلقب بها شخص من البشر من غير أهل الوحي ولا النبوة، فيما يتوجه آخرون للطعن في كلام الله U أو سنة المعصوم r.

الشيخ كشك.. والمنطق الزقزوقي:

كان ذلك منذ قرابة ربع قرن.. كنت في زيارة أحد الأصدقاء في حي العباسية مساء الخميس، وفي مهاتفة تليفونية مع صديق الله سمعته يقول:

-ما تنساش.. والله... خالي ابنك يحجزلي معاكم.....

واعتقدت أنه على سفر في الغد، وأن «الحجز» منصرف إلى تذاكر السفر، ولكنه كشف لي ما لم أكن أعلم؛ فالأب يكلف ابنه «بفرش» مصلية «فردية» - سجادة - أو أكثر بجوار المسجد الذي يخطب فيه «الشيخ عبد الحميد كشك» خطبة الجمعة في دير الملاك بحدائق القبة، قبل الأذان بساعتين، أما المسجد فلا مطمع في الحصول على مكان فيه لأنه يكون مكتظًا قبل ذلك بساعة أو ساعات.

سمعته وعشت كلماته: واستمعت للشيخ كشك، وعشت كلماته في عشرات من الأشرطة المسجلة، فرأيته في مجال الدعوة، والوعظ والخطابة والإرشاد له تفردياته. وملامحه الفارقة التي تميزه عن آلاف من الخطباء والوعاظ:

-فهو ينطلق في خطبه من آيات القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكان ذا قدرة فائقة على التمثيل والاستشهاد بهما دون تعسف أو افتعال.

وكان يربط بين الحاضر والماضي.. مستمدًا ثوابت الماضي في مواجهة المواضعات، والمشكلات الحاضرة.

وكان قديرًا على استدعاء الشواهد الشعرية التراثية والأمثال والحكم لتطعيم آرائه وطروحاته بلا تكلف، حتى ليخيل للسامع أنها ما صيغت في القديم إلا للشيخ كشك، وللمواقف التي يعرضها في الحاضر.

وكان قديرًا على تجنيد معارفه التاريخية والفقهية والعلمية والاجتماعية وغيرها، لنقض أباطيل الملاحدة وأعداء الإسلام، والظالمين البغاة من أبناء جلدتنا.

-أما أداؤه التعبيري فكان قمة في الفصاحة الناصعة، والبيان الآسر، والتصوير الأخاذ، مع سهولة تنزهت عن الابتذال، كما كان أسلوبه صحيحًا سليمًا لا مكان فيه لخطأ لغوي أو قاعدي.

-وكل أولئك يؤدي «بحنجرة» ذهبية، قادرة على التلوين، والتنويع، والمواصلة، دون افتعال أو توقف.

خطوط من حياته:

ومن حق هذا الداعية العظيم أن نلقي الضوء على بعض ملامح حياته ومسيرته:

1-كان- رحمه الله - حافظًا للقرآن حفظًا كاملًا، وعالمًا بأسراره، قادرًا على تعمق معانيه وتفسيره، وكذلك السنة النبوية الشريفة.

2-كان يملك رصيدًا ضخمًا من الشعر العربي، والأمثال والنصوص التراثية الرفيعة. يعينه على ذلك حافظة قوية جدًا تسعفه في كل مجال.

3-كان متمكنًا من علوم الدين، وخطيبًا متميز الأداء، يملك ناصية البيان والبلاغة. مما مكنه من السيطرة على قلوب الملايين في الشرق والغرب.

 4-له مؤلفات تعد بالعشرات، وأغلبها ملتقط من خطبه، وهذه الكتب توزع بمئات الألوف. 

5-له مئات من الخطب المسجلة على «شرائط کاسیت» عرفت طريقها إلى البلاد العربية والإسلامية، وأوروبا، والأمريكتين.

وكانت سببًا في إسلام كثيرين، - وتركت. وما زالت تترك آثارًا عميقة جدًا في نفوس الناس، وخصوصا الشباب.

6-امتحن بالسجن بضع سنين في عهد عبد الناصر فكان مثالًا للصبر والثبات. 

7-ومعروف أنه تخرج في كلية أصول الدين - إحدى كليات الأزهر - وكان ترتيبه الأول على دفعته.

إنها مجرد خطوط عريضة سريعة، أهديها لأحباب الشيخ كشك - وما أكثرهم - والذين لا يعرفونه. ولم يدركوه، ونجابه بها وزير الأوقاف الدكتور «الشيخ» محمود زقزوق الذي تولى تجريح هذا الداعية العظيم - منذ بضعة أسابيع - على رؤوس الأشهاد.

العرب تعرف من أنكرت والعجم.

 وأنا لا أبالغ ولا أسرف إذا قلت: إن الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله - دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وأصبح شخصية عالمية، وأشهد - خلال السنوات الخمس التي قضيتها في «إسلام أباد» عاملًا بالجامعة الإسلامية العالمية - أنني كنت أرى الباكستانيين في محلاتهم وأسواقهم - وخصوصًا «أیوب ماركت». يتحلقون حول أجهزة الكاسيت يستمعون لأشرطة الشيخ كشك، مع أن أغلبيتهم لا يفهمون اللغة العربية، ولا يتكلمون إلا «الأوردية» وأحيانا الإنجليزية.

سألت أحدهم: أراكم مشدودين لكلمات الشيخ كشك مع أنكم لا تفهمونها! وكان الجواب: «إننا تستمع لدفقات الروح، ونحس دفء الإيمان، ونعيش في عالم آخر مع هذه النبرات الربانية، حتى لو لم تفهم الكلمات.... أليس في هذا الكفاية»؟

وما رأيته في إسلام أباد، رأيته في إسطنبول، وبعض الولايات الأمريكية، وخصوصًا ولايتي «نيوجرسي» و«بنسلفانيا».

المنطق.. الزقزوقي:

ومع ذلك يقف الدكتور «الشيخ» زقزوق - وزير الأوقاف المصري - في مسجد النور بالعباسية يوجه الأئمة صارخًا: «..... لا تقلدوا الشيخ كشك، فإن أسلوبه لا يتفق مع منهج الدعوة الإسلامية.. لأنه كان يسب الناس ويجاهر بأسمائهم على المنابر....». وطالبهم بألا تزيد خطبة الجمعة على ربع ساعة. وهذا يحتاج منا إلى وقفة أخرى... مع هذا المنطق الزقزوقي العجيب.

 هذا... وبعدها تلقيت على بريدي «الإلكتروني» عددًا من الرسائل موجهة إلى من «أوقافيين» أئمة وخطباء ممن حضروا اجتماع الشيخ الدكتور محمود زقزوق، وكان توجيهه الأساسي لهم «..لا تقلدوا الشيخ كشك، فإن أسلوبه لا يتفق مع منهج الدعوة الإسلامية لأنه كان يسب الناس، ويجاهر بأسمائهم على المنابر....».

وكل هذه الرسائل - على وجه التقريب - تلتقي على استهجان كلمات الشيخ الوزير. وأحدهم يقول في رسالته «.. يا وزير الأوقاف... إن الشيخ كشك كان في خطبه يحمل في شدة على الظلم والظالمين الذين عاملوا شعبنا كأنه قطيع من العبيد.. فهل هذا يعد سبًا وقذفًا، ونقضًا لمنهج الدعوة الإسلامية؟.. لو صح هذا لكان علينا أن نسقط من تاريخنا ثلاثة أرباع خطب الدعوة الإسلامية...».

وفي رسالة أخرى تتدفق ظرفًا «..الوزير العجيب يطلب منا ألا نقلد الشيخ كشك... وهل فينا من وهبه الله القدرة على تقليد هذا العالم الداعية العظيم....»؟ تعلم من أدب النبوة

ألا إن للأموات حرمة أشد من حرمة الأحياء حتى بالنسبة إن خالفونا في الدين... ألا تعلم - يا وزير - أن رسول الله rبعد انتصاره في بدر لم يترك جثث الكفار لتكون طعامًا للوحوش، ولكنه أمر المسلمين بأن يحفروا لهم «القلب» جمع قليب وهو القبر الجماعي - ودفنوا فيها، وخاطب القتلى الكفار بأدب يا سيدي زقزوق – فنادى: «...يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا...» فلما تعجب المسلمون كيف يتحدث إلى أموات قال: إنهم الآن أسمع لكلامي منكم..».

شهادة غربي غير مسلم:

ولكن يشاء الله أن يأتي باحث عالم مسيحي اسمه «جیاز کیبل» مؤلف کتاب «النبي والفرعون». الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ أحمد خضر، ويعقد في كتابه فصلًا من عشرين صفحة عن الشيخ كشك، ومما جاء فيه «... إنهم يستمعون الكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي مارسيليا، فهو نجم الدعوة الإسلامية، وقد كان لكشك بالطبع مقلدون، ولكن لم يتوافر لأحدهم أحباله الصوتية التي لا تضاهي، أو ثقافته الإسلامية الواسعة وقدرته غير العادية على الارتجال، وروحه الجسور في نقده للأنظمة الدكتاتورية العسكرية، ولمعاهدة السلام مع «إسرائيل» ولتواطؤ الأزهر... أي أن الشيخ كشك - أعلى أصوات الإسلاميين - كان معارضًا..».

سبقك إليها حجازي:

وإنصافًا للشيخ الدكتور زقزوق أقول: إنه لم يكن رائدًا في التهجم على هذا الحصن الدعوي الإسلامي المتين، فقد سبقه إلى تجريح الشيخ كشك أحمد عبد المعطي حجازي «فيلسوف التعري». فوصف الشيخ كشك بأنه «أمي.. أو نصف أمي وأنه واعظ محدود الثقافة...» ثم يسأل بسخرية مفضوحة «... إذا لم يعين الشيخ كشك مرة أستاذًا في جامعة المنصورة، أو جامعة القاهرة...؟!» «الأهرام 2/6/1999م».

إنه أحمد عبد المعطي حجازي... أحد «كبار» قادة الفكر «التنويري» ومن «تنويريته» على أنه حمل لواء الدعوة إلى إعادة النماذج البشرية الحية لترسم عارية تمامًا في كليات الفنون، إن كنا - على حد قوله - نريد حقًا أن نحرر عقولنا من الخرافة، ونعالج نفوسنا من الخوف، ونعامل أجسادنا بما هي جديرة به من اعتزاز واحترام» الأهرام 16/6/1999م.

وبذلك يصبح «التنويري جدًا» أحمد عبد بان المعطي حجازي، ووزير الأوقاف الشيخ زقزوق هما أشهر من هاجم وجرح الشيخ كشك العالم الجليل، وإن احتفظ «التنويري» حجازي بمكان السبق والريادة.

وفي النهاية أدعو الله أن يرحم الداعية العظيم الشيخ عبد الحميد كشك، كما أدعو الشيخ الدكتور زقزوق أن ينير الله بصره وبصيرته، فيرى الحق حقًا، ويرزقه اتباعه، ويرى الباطل باطلًا ويرزقه اجتنابه.

الرابط المختصر :