العنوان أزمة السكان.. سوء في التوزيع... وليس نقصًا في الموارد والثروات!!
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 19-أكتوبر-1971
مشاهدات 17
نشر في العدد 82
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 19-أكتوبر-1971
الحلقة الأخيرة
أزمة السكان
سوء في التوزيع...
وليس نقصًا في الموارد والثروات!!
في العدد الماضي ناقشنا أفكار –مالتس- «داعية التشاؤم» كما سماه معاصروه من الاقتصاديين، واستحالة تحقق نبوءته سواء إبان الثورة الصناعية أو ما بعدها؛ وذلك بسبب التقدم التكنولوجي الذي ساعد الإنسان على زيادة مقدرته في إنتاج الغذاء، والسلع الاستهلاكية بصورة فاقت قدرة الإنسان نفسه على التوالد، وزيادة عدد الأفواه، وما زال حتى عصرنا هذا هناك مؤيدون كثيرون لأفكار -مالتس- وهؤلاء يستمدون وجود مدرستهم وبقاءها، من الظروف الاقتصادية القاسية التي تمر بها الدول المتخلفة، حيث لم تدر عجلة الإنتاج بعد بالسرعة الكافية التي تسمح بتخطي الهوة الفاصلة بين عدد الأفواه والموارد الاقتصادية لهذه الأمم.
وتعتبر قضية الحجم الأمثل من السكان في كل بلد، من القضايا الهامة التي تُطرَح في هذا المجال، وهذه يُقصَد بها الإجابة على سؤال: ما هو العدد المناسب من السكان في بلد ما؟ بحيث يكون هناك تناسب بين عدد الأفواه، وكمية الغذاء والسلع الاستهلاكية بوجهٍ عام.
وهناك خلاف كبير بين الخبراء حول هذه القضية، ليس فقط في تحديد العدد الأمثل، ولكن بالنسبة للقضية من أساسها وهل يوجد فعلًا ما يُسمَّى بالحجم الأمثل لعدد السكان، وبعض الخبراء يميلون إلى مناقشة الجوانب العملية من هذا المفهوم وتطبيقه على بعض دول العالم، وهم يعتقدون أن أمريكا -مثلًا- لم تصل بعد إلى الحجم الأمثل لعدد السكان، ويتنبأ البروفسور -دونالد بوج- «مدیر مركز دراسات الأسرة في جامعة شيكاغو» بأن عدد سكان الولايات المتحدة يمكن أن يتضاعف حاليًا بدون أية صعوبات، وستقل الصعوبات والعقبات أكثر في حالة تزايد السكان عن الضعف لو تحققت اللامركزية بالنسبة لمدن أمریكا.
ولكن -بن واتر- «خبير الشئون السكانية في البيت الأبيض» له رأي معارض لذلك، فهو يقول في إحدى التقارير الرسمية: «إنه لا يوجد هناك ما درج العلماء على تسميته بالحجم الأمثل للسكان.. وسواء لدينا ٢٥٠ مليونًا من البشر أو ٣٥٠ مليونًا فهذا ليس في حد ذاته المشكلة، ولكن الأمر الأهم هو ماذا سيقرر هؤلاء -مهما كان عددهم قليلًا أو كثيرًا- أن يفعلوا إزاء المشاكل التي ستواجههم».
وأولى هذه المشاكل هو كيفية إطعام الأعداد المتزايدة من السكان والأفواه كل عام، ففي بلد مثل أمريكا لا يعتبر الغذاء مشكلة، ولكن الولايات المتحدة بكل ثقلها الاقتصادي وحجم إنتاجها الزراعي الهائل، عجزت عن إيجاد نظام ووسيلة ناجحة لتوصيل الفائض من الإنتاج الزراعي للفقراء من الأمريكيين.
وعلى مستوى العالم كله يمكن القول بأن ما يسميه العلماء «بالثورة الخضراء»
-بما تعنيه من اكتشاف أنواع أفضل من الحبوب، واكتشاف أصناف جديدة من المخصبات والأسمدة- قد زادت من كمية الحاصلات الزراعية في العالم. وطبقًا للتقارير التي أرسلها المراسلون الأمريكيون مؤخرًا من داخل الصين؛ فإن تلك الأمة التي كانت المجاعات جزءًا لا يتجزأ من أخبارها اليومية عرفت الآن طريقها إلى المحاصيل الغنية الوافرة، وإلى معرفة وسائل زيادة هذه المحاصيل؛ وذلك بفضل المجهودات التي بذلها العلماء من أجل تحسين سلالات المحاصيل حتى تزيد من كمية الإنتاج، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن الثورة الخضراء قد انتصرت على طول الخط، وما زال هناك كثير من المشاكل والعقبات السياسية بين خبير الاقتصاد الزراعي وبين الطفل الجائع، وعلى الرغم من ذلك فإن التقديرات التي وضعها العلماء، تفيد بأن فلاحي العالم كله يستطيعون -نظریًا- إطعام عدد من السكان يزيد أربعين مرة من سكان العالم الآن.
ولكن، حتى لو استطاعت التكنولوجيا توفير الطعام والمواد الأولية لإعاشة عدد من السكان أكبر من العدد الحالي، فإن بعض الشعوب الفنية في حالة انزعاج وقلق من احتمال التدهور في مستوى الاستهلاك، والرفاهية التي تتمتع بها الشعوب في مجتمعات الرخاء والوفرة مثل الولايات المتحدة؛ نتيجة لإتاحة الفرصة لعدد أكبر من السكان وتوفير سبل المعيشة لهم.
ونجد هذه المخاوف تعبيرًا لها على لسان قمة السلطة السياسية في أكبر مجتمعات الرفاهية والرخاء في عصرنا، فالرئيس –نيكسون- يقول في إحدى خُطَبِه: «كيف سنوفر الإسكان لمئة مليون أمريكي آخرین؟ كيف سنستطيع توفير التعليم والعمل لعدد أكبر من السكان؟ كيف سيتسنى لنا توفير العناية الصحية الكافية للمواطن حينما يصل عددنا إلى ۳۰۰ ملیون؟»
وبعض المتحمسين والمبشرين بمنع الحمل، يشيرون على الرئيس –نيكسون- كإجابة على تساؤلاته، بأنه من الضروري وضع ضريبة على أي أسرة يزيد عدد أطفالها عن اثنين. كما يدعون إلى وضع أدوية العقم في مياه الشرب، ولكن إجابة –نيكسون- على الأسئلة التي قام بطرحها في خطابه كانت أكثر اعتدالًا، فقد أمر باعتماد مبلغ ٣٨٢ مليونًأ من الدولارات لمشروع توسيع الدعوة إلى تحديد النسل، وعلى الرغم من أن أمريكا تستطيع -من الناحية النظرية- توفير الغذاء لملايين من السكان أكثر من العدد الحالي -ربما ٥٠٠ مليون-، فإنه لا بد أن تكون هناك نقطة يجب أن تقف عندها الزيادة، وبسبب صياح المتشائمين والخائفين على تدهور وانحدار مستوى المعيشة، فإنه يبدو أن المجتمع الأمريكي قد وصل إلى هذه النقطة. وفي الواقع فإن معدل المواليد السنوي في أمريكا قد أخذ في الانخفاض في العشر سنوات الأخيرة، ويمكن القول بأن متوسط عدد الأطفال في كل أسرة قد انخفض حتى وصل إلى 2,5طفل لكل أسرة، وإذا قورنت هذه النسبة بمعدل الوفيات السنوي وهو حوالي2,1 فإن نسبة نمو السكان تصل إلى الصفر.
ويقول البروفسور –هوسر- من جامعة شيكاغو «إن القول بإنك تؤمن بنمو سكاني يصل إلى الصفر، مثل قولك إنك تؤمن بقانون الجاذبية، فإنه سوف يحدث سواء آمنت واعتقدت به أم لا.. والسؤال الوحيد الذي أمامنا الآن هو كيف ننجز هذا المعدل من النمو وفي كم من السنين؟»..
وأولى الخطوات في هذا السبيل هي التوقف عن استقبال عدد أكبر من الأطفال غير المرغوب فيهم، وطبقًأ لدراسة ميدانية حديثة فقد ثبت أن هناك طفلًا واحدًا غير مرغوب فيه بين كل خمسة أطفال أمريكيين يولدون، والحل الواضح لهذه المشكلة كما يراها الأمريكيون هو ترخيص وسائل منع الحمل والإجهاض وجعلها في متناول الجميع، فذلك وحده كفيل بتخفيض نسبة المواليد السنوية إلى أقل من هذا الرقم السحري2,1.
ولكن السؤال الأساسي والمشكلة العميقة الجذور هي، هل يمكن إقناع الأمريكيين بفضائل الأسرة الصغيرة وتخفيض نسبة الإنجاب؟!..
وفي استفتاء لمؤسسة جالون للرأي العام اتضح أن هناك ميلًا في هذا الاتجاه، وأن هناك بعض التحول في نظرة الأمريكي الذي يفضِّل -تقليديًا- عددًا أكبر من الأطفال، فنسبة الذين يفضّلون أسرة كبيرة «أربعة أطفال أو أكثر» قد انخفضت من ٤٠٪ عام ١٩٦٧ إلى ۲۳ ٪ عام ۱۹۷۱...
وهناك عوامل اجتماعية أخرى تعمل على تأكيد هذا الاتجاه وتعميقه، فزيادة نسبة النساء المتحررات والساعيات وراء الأعمال خارج نطاق المنزل أصبحت وسائل منع الحمل التزامًا وضرورة من ضرورات حياتهن؛ ولذلك فإن من المحتمل أن حجم الأسرة المثالي، ومعدل المواليد السنوي سوف ينخفضان سويًا بدرجة ملحوظة.
وبناءً على ذلك، فإن مكتب الإحصاء السكاني الفيدرالي في واشنطن قد خفض من تنبؤه بالنسبة لعدد السكان في عام ۲۰۰۰ بحوالي ۱۷ مليون نسمة.
والحقيقة أن التنبؤ بكارثة سكانية على المستوى الذي ورد في كتابات –مالتس- ومدرسته بعيدة الوقوع، بل يمكن القول بأنها مبالغ فيها إلى حد كبير.
وفي الدول المتخلفة حيث لم تتعد إحصائيات السكان مجرد التخمينات، فإنه ما زال هناك فجوة وهوة مؤسفة بين الحاجة إلى تخطيط الأسرة، وبين الرغبة في مثل هذا البرنامج.
وحقيقة أن كثيرًا من الحكومات في العالم الثالث قد اتخذت سياسات وخطط من أجل تحديد النسل، ولكن ما زالت الغلبة للأفكار والتقاليد التي تُفضل الأسرة الكبيرة.
وفي استفتاء أُجري أخيرًا في المكسيك بين الزعماء السياسيين والدينيين والمهنيين، فإن ۸۰٪ منهم يعتقدون أن حجم الأسرة المثالي هو بين خمسة أطفال أو أكثر.
وتحت هذه الظروف، فإن أمام الدول المتخلفة سنوات طويلة حتى تحقق نوعًا من التوازن بالنسبة لعدد السكان، ولكن هذه الشعوب سوف تضطر قريبًا إلى العمل على تحقيق هذا الاتزان، وكما يقول البروفسور -دادلي كيرك-: «حينما يحقق الناس مستوى أعلى من الحضارة، فإنهم يدركون أن عليهم إنجاب عدد أقل من الأطفال، ويحلمون بمستقبل أفضل لهم، وهذا التفكير هو الشائع بين الناس الآن سواء في أمريكا أم في الهند أم في نيجيريا»..
وبعد ذلك العرض يجب أن نقف قليلًا لتتذكر بأن الأطفال ليسوا مجرد «مسافري ترانزيت» في فندق العالم ومائدته، يمكن أن يرحب بهم نزلاء الفندق القدامى أو يلقوا بهم إلى الخارج، وإذا كان من الصحيح أن كل طفل وليد له الحق في نصيب من الغذا، فإن من الصحيح أيضًا أن على هؤلاء الذين يسيطرون ويتصرفون في موارد الغذاء الكبرى في العالم، يجب أن يفكروا مرات ومرات قبل أن يعلنوا بأنه لم يعد لديهم الكفاية من الغذاء وسبل العيش للغرباء والمهاجرين الجدد.
وبمعنى آخر، نستطيع القول والتأكيد بأن جوهر المشكلة السكانية في العالم -على الأقل حتى الآن- ليس في أن الإنسان ما زال يفضل الأسرة الكبيرة، وإنجاب عدد أكثر من الأطفال، ولكن جوهر المشكلة يكمن في أن العالم والإنسانية قد فشلت في تنظيم عالم أحسن، يستطيع فيه هؤلاء الأطفال أن ينمو في سلام ورخاء.
فالأمم الغنية والفقيرة على السواء قد أساءت استعمال ثروات العالم وموارده، سواء المادية منها أو الفكرية، وبالإضافة إلى إهمال هذه الثروات وتضييعها، فإن هذه الدول قد حاربت بعضها البعض من أجل تقسيمها.
وبناءً على ذلك، فإن السؤال الرئيسي ليس في الكم العددي للأفراد الذين يسكنون هذه المعمورة ويتقاسمون أرضها، ولكن هل سيستطيعون صياغة الوسيلة الكفيلة بتقسيم خيرات هذه الأرض فيما بينهم؟!..
والنتيجة إذن هي أن المشكلة ليست في عدد الأطفال الذين يولدون يوميًا فيزيدون سكان العالم، ولكنها في سوء التنظيم، والعلاج إذن ليس في إقناع الناس بابتلاع حبوب منع الحمل، ولكن العلاج الجذري هو إیجاد نوع العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية الصحيحة والتي تضمن التوزيع العادل لموارد وثروات العالم.. فنحن لا نواجه بكارثة من جراء تزايد السكان، ولكن الكارثة إن جاءت فإن سببها هو سوء توزيع الموارد والثروات.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلمكتبة المجتمع.. الإسْلام يتحَدّى تأليف: الأستاذ وحيد الدين خان
نشر في العدد 75
13
الثلاثاء 31-أغسطس-1971