; العجز والهوان... هل يستمران في الأمة | مجلة المجتمع

العنوان العجز والهوان... هل يستمران في الأمة

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 22-أغسطس-1995

مشاهدات 34

نشر في العدد 1163

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 22-أغسطس-1995

بعد كل هذه الحوادث، وكل هذه النكبات، وكل هذه الخيانات الدولية للأمة. وبعد كل هذه الاستغاثات، وكل هذه الفظائع لا تتحرك الأمة، ولا يتحرك القائمون على الأمر وأصحاب القرار فيها، وتكون نكبتنا على هذا أعظم، وداهيتنا أشد وأنكي، وبعد اتضاح خيوط المؤامرات، والالتفاف على حق المسلمين، والمساومات على ديارهم ودمائهم وأعراضهم في البوسنة، وبعد إجبار المسلمين على التنازلات تلو التنازلات، ثم لا يجدون من إخوانهم من يأخذ باليد، أو يحتج على قرار أو يتقدم بمعونة، أو يعطي سلاحًا، أو يفي بوعد، أو يقاطع ظالمًا، نكون قد بلغنا درجة من البلاهة والبلادة والسفة تدعو إلى الرثاء والفجيعة، وأصبحنا لا نستطيع التمييز أو التفريق بين الضار والنافع، أو الخير والشر، أو القبيح والحسن، وهي درجة انقلاب الطبيعة، وفساد الفطرة، وحلول الغباء، وذلك قد يعتري الأفراد والأمم على سواء، وهي من المضحكات المبكيات.

يروي «أبو نواس» الشاعر من طرائفه فيقول: دعاني يومًا بعض الحاكة، وألح عليَّ ليُضَيِّفني في منزله، ولم يزل بي حتى أجبته، فسار إلى منزله وسرت معه، فإذا منزلٍ لا بأس به، وقد احتفل الحائك بي، وأعد لي من الطعام ألوانًا عظيمة، وجمع جمعًا من زملائه الحُيَّاك، فأكلنا وشربنا ثم قال: يا سيدي، أشتهي أن تقول في جاريتي شيئًا من الشعر، وكان يحبها ومغرمًا بها، قال أبو نواس: أرينها حتى أنظم على شكلها وحسنها، فكشف عنها، فإذا هي أقبح وأسمج خلق الله وأوحشهم، سوداء شمطاء بلهاء، يسيل لعابها على صدرها، فقلت لسيدها: ما اسمها؟، فقال: تسنيم، فأنشأت أقول :

أسهر ليلي حبُّ تسنيم                 جارية في الحُسْن كالبُوم

كأنما نكهتُها كامخ                        أو حزمة من حزم الثوم

ضَرَطَتْ من حبي لها ضرطة          أفزعت منها ملك الروم

قال: فقام الحائك يرقص ويصفق فرحًا سائر يومه، ويقول: إنه شبهها والله بملك الروم!!!، والظاهر أن بعض سادتنا الكرام أصبح كهذا المحب الولهان الذي يهيم بالقبح والبله، ويجد فيها متعته ومناه، ويحب دائمًا أن يتغزل الناس في قبح طبيعته، وغباء عقله وطبعه، وقد يكون هذا فلسفة ذلك الزمان العربي المنحوس أو مذهب بعض السلطات المشئومة، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ولله در القائل:

تعشقتُها شمطاءَ شابَ وليدها                وللناس فيما يعشقون مذاهب

ولا عجب أن ترى السعادة الطافحة، والسرور البالغ، والفرح الغامر رغم هذا العوج وهذه المطالب، بل ترى هذا العشق العجيب للتدني والشؤم والضياع عند الدكتاتوريين العرب في كل جوانب حياتهم النزقة اللاهية، والقبح كما يكون قبح نظر ورؤية، يكون قبح فِعَال وأعمال، وكما تكون البشاعة في الرسوم والوجوه، تكون في القلوب والصدور، فقد ترى بعض السادة وأولي الأمر يهيم بمآسي الناس وجوعهم، ويعشق آلامهم وشقاءهم، ويتغزل في سجنهم وتعذيبهم، ويتيه ولهًا بقتلهم وسفك دمائهم، والناس من الهم سكارى، ومن البلاء حيارى، يعانون فقد الآدمية وضياع الإنسانية، وسيدهم المتيِّم يطلب المزيد، ويسعى للتي هي أدنى مفاخرًا ومكاثرًا، ويسارع إلى الضلالة صادحًا ومغردًا.

والناس في كرب عظيم ولا رحيم:

ولو أني استزدتك فوق ما بي                من البلوى لأعوزك المزيدُ

ولو عُرِضت على الموتى حياتي           بعيش مثل عيشك لم يريدوا

وقد يعتري الناس حيرة في تشخيص هذا الذهول، وتأخذهم دهشة في تعليل هذا الشرود والانحراف، ولكن هذا لا يخفى على الأريب الحكيم، ولا على الفاحص العليم، حيث إن هذا نتيجة طبيعية لفقدان التربية الصحيحة التي تُنَشئ على الكمال والريادة، ونتيجة طبيعية لممارسة التدني والتعود عليه وإلفه، حتى يصير فرحًا به، مستلذًا له ، فإن العادات الخبيثة تقتضي في النفس الغرائب والعجائب، فقد نرى مثلًا المخنث يتشبه بالنساء في نتف الشعر، ووشم الوجه، ووضع المكياج، ومخالطة النساء وحب الميوعة، وهو فرح بحاله، مفتخرًا بكماله في تخنثه، يتباهى به من المخنثين كما يجري بين السراق والمنحرفين التفاخر والمباهاة، كما يجري بين القادة والشرفاء، وكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على التدني مدة طويلة وحقبًا مديدة، ولهذا نرى الشعوب التي تعيش في ظل الأحكام العرفية وتحت قهر الدكتاتورية، يُنزِع منها النخوة والقدرة على التعبير السليم، وينحسر فيها الإبداع، وتخبو فيها العلوم والحضارات، وتتقبل الاستعمار وهضم الحقوق، وبالمقابل فإن النفوس إذا تعودت المعالي وصفات الكمال، وأُعطيت كرامتها، ونالت عزتها فإنها تنبغ، لأن النفس إذا كانت بالعادة والإلف تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح، فكيف لا تستلذ الحق والخير والكمال لو رُدَّت إليه مدة، والتزمت مواظبته والتربية عليه فترة.

 ولهذا تمتاز الأفراد والشعوب، وبهذا نعلم مقدار الجرم الذي تتعرض له الأمة، ونحس كمية التخلف والوهن والتخاذل الذي آل إليه حالها في وقتنا الحاضر، والأسباب معروفة والنتيجة متوقعة، وكل حر ومخلص يتفطر كمدًا، ويتميز غيظًا من هذه الحال، وذاك المال:

وما كلُّ برقٍ لاح لي يستفزني               ولا كلُّ من لاقيتُ أرضاه مُنعِمًا

إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى          ولكن نفس الحر تحتملُ الظّمأ

أنَهْنِهُها عن بعض ما لا يُشينُها               مخافة أقوال العدَا فيم أو لما

  • فهل نفهم تعويد الإسلام لنا على الكرامة والقوة ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ 

(البقرة: 63)، والصبر ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ (البقرة: 177)، والصدق ﴿لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب: 8)، وكل المعاني الجميلة، ولكننا نسأل من أضاعها وأورثنا الجبن والهوان؟! وهل يستمر؟

الرابط المختصر :