العنوان معالم على الطريق.. العدد 1533
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر السبت 04-يناير-2003
مشاهدات 23
نشر في العدد 1533
نشر في الصفحة 45
السبت 04-يناير-2003
الأمة الواعدة.. هل تستيقظ؟
سألني صاحبي عما وصلت إليه الأمة من كوارث تتلاحق ويأخذ بعضها بحجز بعض وقال: هل لذلك من حل؟ وهل ستظل هذه النكبات تلازم الأمة طويلًا ويظل هذا العقم في العقول والشلل في العزائم والوهن في النفوس؟ وما طريق الخلاص، وكيف يستعيد العقل المسلم المأزوم ثقته بنفسه فيحقق حضوره التاريخي بعد غياب طويل.
قلت لصاحبي أما ما وصلت إليه الأمة من ضياع فله أسبابه التي أدت إليه، وليست الأمور في الحياة تسير خبط عشواء، أو كرمية شرود بدون رام، ولكنها تأتي بمسبباتها، وحسب سنن لا تتخلف، وصدق الله﴿أَوَلَمَّا أَصَٰبَتكُم مُّصِيبَة قَد أَصَبتُم مِّثلَيهَا قُلتُم أَنَّىٰ هَٰذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم﴾(آل عمران: ١٦٥).نعم تأتي المصائب بمسبباتها وبأعمال من أصابتهم، وتكون حسب سنة جارية لا تتخلف تحكيها القرون، وترويها الأيام وتقصها الليالي ﴿فَهَل يَنظُرُونَ إِلَّاسُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحوِيلًا﴾(فاطر:43) ،﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَواْ مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبدِيلا﴾(الأحزاب:62)، فمن يغلق عقله ويغمض عينيه ويطمس بصيرته لابد أن يسير إلى الهاوية، وتحل به الدواهي.
ولقد طرح القرآن -يا صديقي- على العقل المؤمن ولأول مرة في التاريخ مسألة السنن والنواميس التي تسير حركة التاريخ، ووضح له طرقها ودروبها، وفك له طلاسمها، وخاطبه ووصل إلى عقله ومخيلته وقال له باختصار مفيد إن حركة أي أمة في التاريخ ليست اعتباطية، وأن تلك الأمة بما لها من عقل وهبه الله لها ومن إرادة منحها الله إياها مسؤولة مسؤولية كاملة خلال حركتها في الحياة عما يحدث لها، خاصة وقد وضح الله لها الطريق ودعاها إليه ويصرها بالجادة، وأضاء لها الدرب وصدق الله﴿وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِۦ عِلمٌ إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنهُ مَسـُٔولا﴾ (الإسراء:36)، فالحذر من أن يسير إنسان أو أن تتقدم أمة وهي معصوبة العينين ذاهلة عما يراد بها أو لاهية عابثة مضيعة فإن السنن لن ترحمها والتاريخ لن يبكي عليها﴿أَفَلَميَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَا أَو ءَاذَان يسمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعمَى ٱلأَبصَٰرُ وَلَٰكِن تَعمَى ٱلقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾(الحج:46).
عرف المسلمون ذلك وفقهوه يوم كانوا أصحاب رسالة وهدف، ووعوا الفرق بين الجاهلية الضائعة والرسالة الجامعة ﴿قُل هَل يَستَوِي ٱلَّذِينَ يَعَلمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ﴾(الزمر:9)، وكان البون شاسعًا والفرق كبيرًا جدًا﴿ وَمَا يَستَوِي ٱلأَعمَىٰ وَٱلبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَلَا ٱلمُسِيءُ قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾(غافر:58) وانطلق المسلمون الواعون للسنن الفاقهون للأسباب السائرون على طريق الله في الحياة فأناروها، وفي الناس فزرعوا فيهم الهداية، وفي الأمم فأحيوها من موات، وبعثوها من أجداثها. وزرعوها علمًا وحضارة، وإنسانية وهداية.
لقد كانت القومية الإسلامية أوسع واغنى واشمل من أن تحصرها حدود طبقية أو جغرافية أو عرقية، وإنما كانت كالمطر أينما حل بعث النماء واتي بأنضج الثمار، يقول جوستاف لوبون لقد كان تأثير العرب في الغرب. عظيمًا للغاية، فأوروبا مدينة للعرب بحضارتها، ونحن لا نستطيع أن ندرك تأثير العرب في الغرب إلا إذا تصورنا حالة أوروبا عندما أدخل العرب الحضارة إليها .....
ويقول سارتون محقق المسلمون عباقرة الشرق، أعظم المأثر في القرون الوسطى، فكتبوا أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت تلك اللغة من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي أحد كان إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها
ويقول سيديو: تكونت فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة واختراعات ثمينة تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر، وجميع ذلك تأثرت به أوروبا، بحيث يؤكد القول: إن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة، لقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب ولكن الحقيقة ناصعة يشع نورها من جميع الأرجاء، وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلًا أو إجلاء، ويقول نيكون إن أعمال العرب اتصفت بالدقة وسعة الأفق وقد استمد منها العلم الحديث بكل ما تحمله هذه العبارة من معان-مقوماته بصورة أكثر فاعلية مما نفترض.
نعم أسهم المسلمون في إغناء المعرفة الإنسانية وإيقاظ العالم وبعثه من رقاده وإيقاظه من غفوته حتى قال مسيو ليبري لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا عدة قرون.
هذا يا صديقي ما قاله الغرب وعلماؤه عن المسلمين يوم كانوا مسلمين، ويوم كانوا ملء الدنيا وسمعها وبصرها، فإذا أردنا أن نكون كما كانوا وأن نفعل ما فعلوا، فلابد لنا من أمرين:
الأول: أن نوقظ تلك الأمة الغافية حتى تعود إلى توهجها وإبداعها فالعقل المسلم معطاء، وواعد، وفي جعبته الكثير والكثير، وبيده مفتاح السعادة للعالمين، وكما بدأ تلك الحضارات الواعدة فهو قادر على إعادتها.
الأمر الثاني: أن ترجع إلى دستورها الذي انقذها من جاهليتها وبعثها من رقدتها، فليس ثمة ما يحول بينها وبينه، لاسيما أن التجربة الإسلامية مازالت حية معطاءة، ولكنها تحتاج إلى عقول تترجمها، وإلى بصائر تحملها، لا إلى ببغاوات ترددها، أو إلى عجزة يتسولون بها والأمة اليوم - والحمد لله. فيها من حملة الحق الكثيرون، وفيها من العقول والبصائر ما يزرع الأمل ويقوي العزم، وإن شاء الله ستاتي البشريات بجهد الرجال وستنفض الأمة هذا الخبال ويفرح المؤمنون بنصر الله..