; معركة الوجود بين القرآن والتلمود (العدد 451) | مجلة المجتمع

العنوان معركة الوجود بين القرآن والتلمود (العدد 451)

الكاتب الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد

تاريخ النشر الثلاثاء 26-يونيو-1979

مشاهدات 17

نشر في العدد 451

نشر في الصفحة 40

الثلاثاء 26-يونيو-1979

الحلقة السابعة

● سادسًا: الاستعلاء العنصري:

ولقد كان هذا الاستعلاء الجاهلي من أفدح الجنايات التي أوقعها اليهود بوحي السماء، فعطلوا بذلك مسيرته وخافوا أمانته، ودمغوه بالعنصرية والشعوبية، مع أنه رحمة الله للعالمين.

ومن المفارقات أن يلعن اليهود ‏«النازية» ‎‏مع أنهم هم أساتذة التفريق العنصري‏ من قديم، بل دعاته وغلاته الأولون!

ولم يكن هذا الغرور بدعًا تفردوا به بين الأمم.‏ بل ادعاه من قبل الرومان‏ والفرس وأضرابهم، ولكن آفة بني إسرائيل الدائمة جعلهم ذلك عقيدة ودينًا،‏ ونسبته إلى الوحي وتسجيله في صلب الكتب الدينية على أنه: حقائق إلهية، ومقررات نبوية!

سقوط الشعب المختار:

والقرآن العظيم يقرر صراحة أن الله تعالى «اختار» بني إسرائيل ليقوموا بحمل رسالته في العالم القديم، وفضلهم بذلك على العالمين في زمانهم.

ولم يكن هذا «الاختيار» بسبب العنصر،‏ أو العرق،‏ أو النوع، أو اللون‎، أو السلالة الخاصة، أو غير‏ ذلك من دعاوى الجاهلية الإنسانية في كل العصور!

وإنما كان ‎«تكليفًا» لبني إسرائيل و«اختبارًا» لابتلائهم، أيشكرون أم يكفرون؟ ولهذا قرن «الاختيار والاختبار» في آيتين متتاليتين من سورة الدخان: ﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مِّنَ ٱلۡأٓيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٞاْ مُّبِينٌ (الدخان: 32، 33).

ويشهد الله وكتابه وأولو العلم قديمًا وحديثًا أن اليهود قد سقطوا في هذا الابتلاء سقوطًا شنيعًا ذريعًا تفردوا به بين العالمين أجمعين؛ بما حرفوا في دين الله،‏ وزيفوا في معالم الوحي، وبما عصوا وكانوا يعتدون!

وبهذا سلبوا عن أنفسهم شرف «الاختيار» لحمل أمانة الوحي، وغضب الله عليهم ولعنهم، باعتراف‏ كتبهم الدينية ذاتها، وعلى لسان كبار أنبيائهم: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ (المائدة: 78، 79). ولكن بني إسرائيل قلبوا الحقائق، وطمسوا معايير الوحي، فزعموا أن الله تعالى «اختارهم» اختيارًا ذاتيًّا أبديًّا؛ لنوعيتهم الخاصة، ولمزاياهم الشخصية، ولعبقريتهم المتفردة، ولنسبهم وبنوتهم للأنبياء عليهم السلام!

ومن ثم توسع القرآن العظيم في بيان هذه «العقدة الجاهلية»، وأبطلها إبطالًا صارمًا، وعرى ‎«اليهودية» من كل دعاوى الغرور والتطاول والزيف، حتى لا ينخدع المؤمنون بأضاليلهم،‏ وحتى لا يستشعروا النقص أمام دعوى ‎«شعب الله المختار»! وفي ذلك يقول تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوۡنَهُۥٓ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ (الجمعة: 6، 7).

فالقرآن يصف دعواهم ‎«بالزعم» وهو الكذب، ويطالبهم بتمني الموت ليصلوا إلى غاية ما يتمناه ولي الله إن كانوا صادقين.

ولما كانت دعواهم كاذبة، وخالصة للدنيا لم يرفع أحدهم رأسه في وجه القرآن ليتمنى الموت، وإلا لعوجل على مكانته وحرم من دنياه التي يعبدها من دون الله!

ويقول تعالى حكاية لقولهم ولقول تلامذتهم الألداء: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ (المائدة: ‎18).

أما دعوى النسب النبوي فهو حجة عليهم لا لهم؛ لأنهم خانوا نهج آبائهم الأكرمين من رسل الله، «ومن‏ بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ (الصافات: 113).

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ فَمِنۡهُم مُّهۡتَدٖۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ (الحديد: 26).

إذن لا يصح في دين الله تعالى دعوى التفاضل بالعنصر والنسب، وإنما هو قيم ومعايير من قام بها كانت له الحسنى،‏ ومن فرط فيها سقط عن درجة الاعتبار، ولحق بالأنعام؛ بل كان أضل سبيلًا.

ولم يكن القرآن العظيم سبابًا حين قرر جملة من أوصاف اليهود بعد الشرود عن أمر الله، وما كان مصيبًا كبد الحقيقة الواقعية عن كل من يغير دين الله، ويفتري الكذب: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (الجمعة: 5).

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (الأعراف: 176).

﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (الأنفال: 55).

وهذا بعينه ينطبق على كل أمة حملت أمانة الوحي ثم نكثت فيه، والقرآن يصف المسلمين بقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ (آل عمران: 110).

‎فلما ضيعوا هذه القيم العظيمة ضاعت خيريتهم، وأصبحوا عالة الدنيا وعار الدهر، واستطال عليهم حتى إخوان القردة والخنازير.

ولكن الفارق جد خطير:

فاليهود زيفوا الوحي، وحرفوا الدين!

والقرآن هو قلعة الوحي الشامخة في الأرض، لم يستطع أحد أن يناله بسوء التحريف والتغيير، حتى لو أراد ذلك وحرص عليه.

ولا تزال كلمات القرآن بينات نيرات تهدي الحائرين إلى سواء الطريق، وتصك القطيع الشارد حتى يضيء من جديد إلى أمر مولاه، وإنه لعائد بإذن الله.

العبقرية‏ اليهودية أكذوبة مفتراة

وينبغي أن نلاحظ ما يشاع الآن -بكثرة مقصودة- عن العبقرية اليهودية وأمثالها من الدعاوى التي يروجها اليهود عن أنفسهم.

واليهود كغيرهم من البشر فيهم الذكي الألمعي،‏ وفيهم الأبله الغبي، ولا يتميزون عن الناس في هذا الباب إلا بضرب واحد من «العبقرية» الشيطانية الشريرة.

وهذه ‎«العبقرية» هي التي جعلت لهم مكانًا مرموقًا في دنيا «المال والاقتصاد»‏ خاصة في عالمنا المعاصر، لا بسبب التفوق الذهني، أو‏ السبق العلمي؛ وإنما بسبب الأساليب والوسائل الخسيسة، التي تنبعث من صفاتهم السابقة، والتي تبلغ غاية الغايات في السقوط والانحدار والانحلال!

إنها بلا مبالغة ولا إسفاف عبقرية «الكلاب، وشر الدواب»، كما وصفهم القرآن الكريم.

والدراسات العالمية تجمع على أن روافد المال اليهودي الهائلة تنبع من مستنقعات الإثم والخطيئة ‎في العالم كله، فهم وراء تجارة الخمور في العالم، وهم منظمو دور البغاء والدعارة، وهم أصحاب السيطرة على أشرطة الجنس ومجلاته وكتبه وصوره الفاضحة، وهم الذين حولوا الرياضة البدنية الشريفة إلى مقامرات ومضاربات ومراهنات ملبسة بكل وسائل الغش والخداع وانعدام الضمير. «راجع كتاب ‎‏«اليهودي العالمي» على سبيل المثال...». هذا فضلًا عن الربا، والاحتكار والتلاعب بالأسعار، وغير ذلك من خلقهم القديم الذي عوقبوا به من قبل، كما قرر القرآن العظيم: ﴿فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ (النساء: 160، 161).

‏● سابعًا: تأصل الجبن والخضوع للقوة:

وهذا مفتاح خطير لفهم النفسية اليهودية، وإتقان التعامل معها من خلاله، ولذلك عرض له القرآن العظيم بالبيان والتفصيل والتمثيل، فأوضح تأصل الجبن في بنائهم النفسي، وتمكن الخور في كيانهم الأخلاقي، إلا ما كان من قبيل الدس والتآمر، فهم في‏ ذلك أساتذة إبليس، شأن كل خسيس ساقط النفس والكرامة!

ولو كان المسلمون يأخذون «تصميم وحركية» المعركة من القرآن العظيم لتهاوت أمامهم -من أول الطريق- أسطورة: الجندي الذي لا يقهر، والمقاتل الصبور، و«جيل الصابرا»، وأمثال ذلك من الدعاوى اليهودية، والتي لم تطفح على سطح الأحداث إلا بخور المسلمين، واتخاذهم القرآن مهجورًا!

لقد زعم اليهود تفردهم بولاية الله تعالى، واحتكروا لذلك الجنة لهم من دون الناس، فتحداهم القرآن أن يتمنوا الموت ليصلوا إلى هذا النعيم المقيم إن كانوا صادقين في زعمهم..

ولكن النفسية المؤسسة على الجبن خارت وتقاعست عن مجرد التمني بسبب كذب الدعوى، وجبن الطبع المستمر التعاقب في أجيال اليهود. ولذلك حكم عليهم القرآن العظيم حكمًا صارمًا عامًّا فقال: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (البقرة: 95). ثم أبرز تركيبة أخلاقية فيهم ندوا بها المشركين أنفسهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ (البقرة: 96).

فاليهودي أحرص الناس جميعًا على حياته. وهو أحرص عليها من المشرك الذي لا يؤمن بحياة وراء دنياه!

وأمنية اليهودي الكبرى أن يعمر في الأرض أطول مدة، لا أن يموت في شيخوخة الإنسان العادي، فضلًا عن أن يقتل في شرخ الشباب! وهذه حقيقة اليهود بيقين رغم المظاهر والدعاوى.

مفتاح إلى منظمة «فتح»

‏ولو كانت المنظمات الفلسطينية تأخذ خطتها ونمطها الحركي من القرآن العظيم لدمرت إسرائيل بهذا المفتاح وحده على المدى القريب أو البعيد. أجل والله: لو نقلوا المعركة إلى داخل تجمعات العدو، وهددوا اليهودي دائمًا في أثمن ما يحرص عليه «حياته» لاختلت هندسة المجتمع اليهودي، ولعادت حركة الهجرة تطرد عكسًا، ولتفجر الجبن اليهودي على حقيقته حين يختل الأمن النفسي، والطبع غلاب، والجبان لا يمسكه شيء بعد!

ومع الأسف تعجز المنظمات القائمة عن تحقيق هذا، ليس بسبب الظروف السياسية وحدها، وإنما بسبب تركيبها الفكري والاعتقادي، ولأنها لا تملك فيضًا من الرجال الذين ينطلقون من قواعد الإيمان، ويحرصون على الموت حرص اليهودي على الحياة!

إن هذه النماذج لا تربى إلا تحت راية القرآن، ولا يحفزها إلا الإسلام، ولا يؤجج شوقها إلا رياح الجنة.

فهل آن للمنظمات أن تعرف الطريق؟ وأن تنبذ أصنام الجاهلية من علمانية وشيوعية، وما بينهما من دعاوى اليسارية، والقومية، فإنها لا تعني شيئًا في معارك الوجود والمصير!

جبن في كل الأجيال

وقد حرص القرآن العظيم أن يدعم هذه الحقيقة المقررة عن الجبن اليهودي بالأدلة التاريخية المتكررة في كل العصور، حتى يثبت تأصله فيهم، وعمومه في كل أجيالهم؛ ومن ذلك:

أولًا: في عهد موسى عليه السلام: فقد صاروا أمثولة الدهر في الجبن والخور،‏ حين رفضوا دخول الأرض المقدسة؛ رغم قيادة موسى لهم، وإخباره أن الله كتبها لهم فضلًا عما رواه قبل من الآيات والمعجزات: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (المائدة: 21).

‎وحينئذ يندلع الجبن اليهودي على هيئته البشعة، فيطلب الجنود من نبيهم وقائدهم أغرب شيء في تاريخ الحروب: ﴿قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (المائدة: 22).

ولما انبرت القلة المؤمنة منهم تذكرهم بالعقيدة والإيمان ازدادوا عنادًا وإلحادًا ونكوصًا عن الجهاد: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ (المائدة: 23، 24).

ثم جرف الجبن كل شيء أمامه إلى الدرجة التي جعلت موسى عليه السلام لا يثق في استجابة أحد حتى القلة المؤمنة ذاتها: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (المائدة: 25).

ثانيًا: بعد موسى عليه السلام بعدة قرون:

حيث شردهم الله بذنوبهم، وسلط عليهم كفار بابل، وذاقوا الشتات والضياع،‏ وحينئذ هرعوا إلى نبي لهم يطلبون منه أن يعين لهم قائدًا ليحاربوا عدوهم، فارتاب نبيهم في صدقهم،‏ وصارحهم بجبنهم، فأكدوا له رغبتهم في القتال خروجًا من الذل المضروب عليهم،‏ ولكن جبنهم المتأصل غلب على جمهورهم في ساعة الجد: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (البقرة: 246).

وهذه القلة التي خرجت مع القائد الجديد ‎«طالوت»‏ خارت عزائمها في الطريق، فشربت من النهر إلا قليلًا منهم!

‏ولما عبروا النهر وهم صفوة الصفوة من قومهم ورأوا العدو ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (البقرة: 249)، ‏لولا ثبات حفنة من أولي اليقين والإعتقاد أنزل الله تعالى عليهم نصره،‏ وأجرى بهم قدره. «راجع القصة كاملة في سورة البقرة (246- 251)».

ثالثًا: في صدر الإسلام:

حيث كان لهم مركز ممتاز في الجزيرة، وكانت لهم أقوى القلاع والحصون في يثرب وما حولها وما وراءها إلى خيبر، وقد أظهروا مع الإسلام ضروبًا من الجبن والخسة، والخيانة والغدر انتهت بهزيمتهم واستئصالهم.

والقرآن الكريم يقرر جملة من الحقائق عنهم في هذا العهد تتفق مع طبيعتهم في كل العصور:

أ- فهم جبناء لا يثبتون في لقاء مكشوف، أو صدام صريح: ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ (آل عمران: 111).

ب- وهم يعتمدون على الوسائل المادية إلى درجة الكفر: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ (الحشر: 2).

‎جـ- وهم يخافون القوة المؤمنة خوفًا رهيبًا أكثر من خوفهم الله تعالى: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ... (الحشر: 13).

د- وهم يسترون الجبن بالحصون والقلاع، وتنخلع قلوبهم خارجها: ﴿لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ (الحشر: 14).

‎هـ- تناكرهم وشتاتهم داخليًّا رغم الصورة الظاهرة ‎التي ترسمها الدعايات: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (الحشر: 14).

‎وهذه الحقائق الدقيقة جاء معظمها في سورة الحشر التي عالجت معركة المسلمين مع ‎«بني النضير».

وهي لا تزال صفات وسمات يهود العصر، وكل واحد منها يمثل مقتلًا من مقاتلهم لو أحسن المسلمون التلقي عن ربهم، والتعلم من كتابه العظيم.

منطق القوة

على أن هناك حقيقة خطيرة يسجلها القرآن الكريم وهي: أن اليهود لا يقيمون وزنًا لكلمة الشرف، ولا لمنطق الأخلاق، ولا لمعايير الضمير والحياء، وإنما اللغة الوحيدة التي يفهمونها ويرتدعون بها، ويحسبون ‎حسابها هي «لغة القوة».

إن هذا النوع الذي تأصل الجبن في أعماقه، وسرت الصفاقة في أخلاقه، لا سبيل إلى ردعه إلا بالتخويف، والإرهاب، والضرب العنيف!

ليقل اليهود عنا اليوم: إننا أعداء «السامية»!

أو ليقولوا:‏ إننا من أنصار «النازية»!‏ فستبقى الحقيقة أبلغ من بهتانهم، وهي أنا مسلمون قرآنيون.. نقرر حقائق الوحي الأعلى عن هذا الشعب العصي الكنود!

والقرآن العظيم يقرر أن هذا الداء قديم جدًّا في اليهود؛ إذ كانوا تحت قهر فرعون أذلة طائعين.

فلما من الله عليهم وأخرجهم من بغي فرعون وجنوده تمردوا واستطالوا، حتى استخفوا بالنبي الكريم الحليم هارون، وما ردعهم إلا موسى عليهم السلام بشدة بالغة، ولما استخفوا بالشريعة الإلهية رفع فوقهم الطور وأنذرهم بالإبادة فانقادوا راهبين!

الداء والدواء

وقد قرر القرآن العظيم هذا المعنى، وشخص داء اليهود في كلمات فقال: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (الأنفال: 56). ‎بمعنى لا يتقون الله، ولا لوم الناس، ولا يتقون سوء السيرة، ولا مغبة العواقب؛ إذ لاحت لهم فرصة الكسب الرخيص.

ولذلك يحدد القرآن علاج هذا النوع الانتهازي بالدواء الوحيد الناجح: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ (الأنفال: 57، 58). فحين يتطاولون إلى الحرب فعلًا فلا يجدي معهم إلا ضربة قاصمة تسحق المحاربين، وتبدد شمل من وراءهم من قومهم خوفًا وهلعًا وحرصًا على الحياة.

وحين تظهر منهم أمارات الغدر فلا بد من سبقهم بقطع الطريق عليهم، ونبذ عهودهم -بلا خيانة- حتى لا ينسجوا من خيوطها وسائل الغدر.

وهناك وسيلة ناجعة النتائج يقررها القرآن أيضًا؛ وهي وسيلة الإعداد واتخاذ أسباب القوة، وحين يرى اليهود من غيرهم قوة فإنهم يبتلعون أحقادهم وتسري الرهبة عارمة في قلوبهم، وتلك طبيعتهم الغالبة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ (الأنفال: 60). «الآيات جميعًا في سورة الأنفال: 55- 60».

فإذا حدث هذا الذي حدده ‎الله تعالى من:

1- ‏الضربة الموجعة لهم في الحرب‎.

‏2- نبذ عهودهم عند ترجح‎ خيانتهم ‏واقعًا‎.

‏3- إعداد القوة التي ترهبهم وتردعهم‎.

فحينئذ تأتي الآية الكريمة في موضعها من السباق: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (الأنفال: 61) لأنه حينئذ يكون سلامًا عزيزًا ترد به حقوق المسلمين المغصوبة، وديارهم المسلوبة، فضلًا عن حماية دينهم وعقيدتهم.

أما اتخاذ الآية الجليلة مبررًا لصلح هزيل، أو سلام‏ ذليل، فذلك تطاول على الله عز شأنه، وانتقاص لكتابه العظيم، وإستهزاء بالإسلام وتاريخه المجيد!

يا علماء الإسلام:

أصلحوا السياسة الخرقاء بكتاب ربكم العظيم، ولا تتركوها تفسدكم بأهوائها الطامسة، ولا تستنزلوا القرآن من أفقه الأعلى إلى حضيضها البغيض، بل طالبوها أن تسعى إلى رحابه خاشعة النفس والرأس، واذكروا وذكروا الناس بقول رب العالمين: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ (محمد: 35).

واذكروا -وذكرو ا الناس- بختام آيات سورة ‎«القتال»: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (محمد: 38).

 

الرابط المختصر :