العنوان مع الخالدات في مواكب الإيمــان
الكاتب أحمد عثمان مكي
تاريخ النشر الثلاثاء 22-يونيو-1971
مشاهدات 19
نشر في العدد 65
نشر في الصفحة 10
الثلاثاء 22-يونيو-1971
مع الخالدات في مواكب الإيمــان
بقلم: أحمد مكي عثمان
· الرجل والمرأة سواء في تكاليف العقيدة الإسلامية وفي المغفرة والأجر، هكذا فهمت مسلمات الأمس..
· عُتَاةُ الجاهلية وغِلاظُها يسلمون على يد أم شُرَيْك.
· وحيدةً.. صائمةً.. ماشيةً.. تھاجر أم أيمن في سبيل الله إلى المدينة.
· سبعة من الأبناء تقدمهم عَفْراءُ شهداءَ في سبیل اللہ.
ونحن ننظر في موكب الإيمان العريض يموج طهارة وصفاء وشرفًا وهو ينتسب إلى ربه مفتخرًا بالعبودية له والولاية والانقياد لأمره... ننظر إلى هذا التجمع العقدي الرباني الفريد الذي كانت العقيدة آصِرَتَه والإيمان المطلق زادَه، وهو يسير خلف لواء نبيه الكريم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- فنرى من بين جنده عنصرًا هامًّا ما كان يُرى إلى وقتٍ قريبٍ وما كان يُذكر حتى قُبيل أيام قلائل، حين كانت الجاهلية تسود وحين كانت شِرْعةُ السادة من قريش تملك زمام الأمر كله فترسم للمجتمع تقاليده وآدابه وتبث في الناس أخلاقًا بعينها وتركز في القوم مُثُلًا تُقِرُّها هي.. فكان من ذلك ما شرعته للمرأة فجعلتها لا قيمة لها إلا أن تكون مَقضَى شهوة الرجل.. وحاملة أولاد!
ولكن لما أن صدع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوة التوحيد وجهر بالحق الصريح مبلغًا عن ربه دعوته وشرعه وأقبلت المرأة على الدعوة الجديدة طائعة مؤمنة، مختارةً جنبَ الهدى علـى الضلال والعمى.. فأخلصت لله دينها وأسلمت للنبي قيادها.. فجزاها الله خير الجزاء وأكرمها بسمو المكانة ورفعة المنزلة في المجتمع الإسلامـي الجديد.. حتى أن الله من فوق سماوات سبع يُبيّن ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 35) ويحدد واجباتها هي والرجل ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 71)
- فقدرها والرجل سواء في تكاليف هذه العقيدة بل وحتى فيما هو أمل كل مؤمن مُتَبَتِّلٍ واجفٍ.. المغفرة والأجر العظيم والجِنان.. عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «دخلتُ الجنةَ فسمعت خَشَفَةً فقلت ما هذا؟ فقيل: الرُّمَيصاء بنت مِلحان».
وكانت النساء المؤمنات يَعِين هذا الدور جيدًا، فانطلقن يُحققن دعوتهن ويبذلن في سبيلها المال والولد ويؤثرنها على حياة الراحة والدعة.
وقد ذَخَرَ موكب الإيمان وهو في غُدُوِّه ورَوَاحه يتحرّك بدينه ويضع اللَّبِنَات الراسخات الأولى لمجتمعه.. ذخر هذا الموكب بنساء لا نقول كنَّ فَلَتَاتِ قَدَرٍ ومصادفاتِ زمانٍ حدثت وانقضى أمرها.. ولكن نقول إنما هو الإيمان الذي إذا تفجّرت مشاعر الإنسان منه أوقف حياته ذودًا عنه وحرصًا على تثبيت أركانه واحتمل في سبيله الأذى والعداوة وصبر على ما يناله من كيد الطغاة وتنكيل المترفين.. وهو يتلطّف بالدعوة ويرد بالجميل.
والرجل والمرأة في ذلك سواء متى كان الإيمان صادقًا وابتغاءُ وجه الله هو الأملَ الذي به تحيا النفوس.. وأمرُ المرأة في ذلك من الرجل أعجب.. ودورها في الموكب الرباني يدعو للتأمل الذكي الطويل.
وأشد من ذلك ما أجراه الله على يديها من بطولات خوارق لا يصدقها إلا القلب المؤمن الواثق.. ولنتفرس اليوم في رَتَلٍ كريمٍ من طلائع المؤمنات الخالدات.. وقد يعجز القلم عن التعليق أحيانًا..
أم شريك.. الداعية إلى الله
روی ابن سعد في طبقاته عن منير بن عبد الله الدوسي قال: أسلم زوج أم شريك وهي غَزِيَّةُ بنتُ جابر الدوسية من الأزد، وهو أبو العَكَر فهاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي هريرة من دوس حين هاجروا، قالت أم شريك: فجاءني أهل أبي العكر فقالوا: لعلك على دينه؟ قلت: إي والله إني لعلى دينه. فقالوا: لا جرم والله لنعذبنك عذابًا شديدًا. قالت: فارتحلوا بنا من دارنا ونحن كنا بذي الخَلَصَة وهو موضعنا فساروا يريدون موضعًا وحملوني على جمل ثَفَال شرُّ ركابهم وأغلظُه، يطعموني الخبز بالعسل ولا يسقوني قطرة من ماء، إذا انتصف النهار وسخنت الشمس ونحن قائظون، فنزلوا فضربوا أَخبِيَتَهم وتركوني في الشمس حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري ففعلوا ذلك لي ثلاثة أيام، فقالوا لي في اليوم الثالث: اتركي ما أنتِ عليه! قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة فأُشير بأصبعي إلى السماء بالتوحيد، قالت: فوالله إني لعلى ذلك وقد بلغني الجهد إذ وجدتُّ بردَ دَلْوٍ على صدري فأخذته فشربت منه نفسًا واحدًا ثم انتُزِعَ مني فذهبت أنظر فإذا هو معلق بين السماء والارض فلم أقدر عليه، ثم دُلِّيَ إليَّ ثانية فشربتُ منه نفسًا ثم رُفع فذهبت أنظر فإذا هو بين السماء والأرض ثم دُلِّيَ إليَّ الثالثة فشربت منه نفسًا حتى رَوِيتُ وأَهْرقت على رأسي ووجهي وثيابي، قالت: فخرجوا فنظروا فقالوا: من أين لكِ هذا يا عدوة الله؟ قالت فقلتُ لهم إن عدوة الله غيري، من خالف دينه، وأما قولكم من أين لك هذا فمن عند الله رزقًا رزقنيه الله، قالت: فانطلقوا سراعًا إلى قِرَبِهم وأَدَاوَاهُم فوجدوها مُوَكَّأةً لم تُحل! فقالوا: نشهد أن ربك هو ربنا وأن الذي رزقك ما رزقك في هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا هو الذي شــــرع الإسلام. قالت: فأسلموا وهاجروا جميعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يعرفون فضلي عليهم وما صنع الله إليّ».
هذه المرأة التي أكرمها الله هذا الإكرام حين سقاها بدلو من السماء.. وحين جعلها سببًا لإسلام أقوام من عتاة الجاهلية وغلاظها.. ما شأنها وما دورها حتى تنال هذا التكريم؟ كانت أم شريك واحدة من دعاة الإســلام المخلصين أيام المحنة العصيبة بمكة.. كانت منذ يوم أسلمت تجوب ديار مكة دارًا دارًا.. وتتسلّل بيوتها واحدًا تلو الآخر خلسةً في غَيبة الرجال تدعو نساءهم لرسالة التوحيد ودين الإسلام.. وقد حدّث عن ذلك عبد الله بن عباس فقال: «وقع في قلب أم شريك الإســلام فأسلمت وهي بمكة، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًّا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا». هذه أم شريك الداعية المرأة.. ولكن الجاهلية وهي في محاولاتها اليائسة لإطفاء نور الحق لا تفرق بين المرأة والرجل فتبطش حانقة على هذه القلوب أنها آمنت حين تكبّرت هي فأجفلت عن الحق.. لكن المرأة المستسلمة لربها لا تَأبَهُ بذلك وتظل متمسكة بعقيدتها صلبة صامدة وتنسى وهي في نشوة الجهاد تَلعَقُ شَهدَه تنسى أنها امرأة ليست في قوة الرجال.. ثم تكون لها الغلبة مع ذلك.
أم أیمن.. المهاجرة الصائمة
التقوى محلها القلب.. والمتقون لهم الفوز والفلاح في الحياة الدنيا والآخرة.. يستوي في ذلك الجنسان، وقد تتمكن التقوى وخشية الله من قلب امرأة دون الرجال.. فتُطَوِّع نفسها وتُذِلُّها لطاعة الله وعبادته.. فإذا التسبيح والتهليل والصيام والقيام والاشتغال بأمور الدعـوة يشغلها عن نفسها.. كما كانت عليه المهاجرة الماشية.. الصائمة الطاوية.. الناحبة الباكية الصحابية الجليلة أم أيمن التي يروي عثمان بن القاسم أنها «خرجت مهاجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد! وهي صائمة في يوم شديد الحر فأصابها عطش شديد حتى كادت تموت من شـدة العطش» يا لله لهذا الإيمان وهذا الإخلاص وهذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. امرأة تخرج وحيدة.. وصائمة.. وفي يوم شدید الحر.. ولمسيرة أكثر من اثنتي عشرة ليلة بالرواحل.. كل ذلك فرارًا بدينها وإسراعًا إلى الله ورسوله مُخَلِّفةً ديارَ الأهل والإخوان والعصبية والعشيرة، حقًّا لقد فعل الإيمان بأولئك القوم فعلةً لو أن قُوَى الأرض كلها بعتادها وخُيَلائها تجمعت على صعيد واحد لتنال منها مقدار قطمير لما لقيت إلا الخيبة والخزي، ذلك لأن الله مع الذين آمنوا.. يسمع ويرى.. وبيده الأمر كله ويدل على هذا ما تحكيه هذه المؤمنة بنفسها عن موقفها ذلك وقد بلغ منها العطش مبلغه وهي بالروحاء -اسم موضع- أو قريبًا منها تقول: «إذ أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مُدَلَّى برِشَاء أبيض.. قالت: فدنا مني حتى إذا كان حيث أستمكن منه تناولته فشربت منه حتى رويت.. فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش وما عطشت بعدها. وقالت: وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما أعطش» لقد أكرمها الله إذن جزاء إيمانها ذاك وهي تهاجر إلى رسوله بدينها وعقيدتها.. أكرمها برِواء سماوي شافٍ..
إن الله تعالى قد نصر دينه وأعزه بهذه الفئة المؤمنة المتجردة المكرمة.. التـي حققت الخوارق بهذا القرآن بعد أن فهمته وتدبرته.. ولقد كان حبها الصادق لقرآنها هو السبب في انتصارها وتجمع القلوب من حولها.. وحتى المرأة كانت تعي أن الوحـي الذي يتنزل من السماء بهذا القرآن إنما يأتيها بحياتها وصلاح معاشها وأنه فوق ذلك رفعة للإنسان القليل واتصال بالملأ الأعلى.. لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر لعمر: من بنا إلى أم أیمن نزورها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها؟ فذهب معه عمر، ولما أن وصلا لبيتها ووقعت عيناها عليهما بكت بكاءً مرًّا فقالا لها: ما يبكيك؟ فقالت: إني لأعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد صار إلى خير مما كان فيه ولكن أبكي لخبر السماء انقطع عنا» فهَيَّجَتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.. فلتسمع النساء في كل مكان بهذه المرأة.. بهذا السمو الروحي وبهذه الاهتمامات الرفيعة.. والشعور الإيماني العميق وكانت المرأة جديرة به وهي تَتَبَّعُ هذا القرآن وتدور معه حيث دار.. ولنمضِ مع الموكب الكريم الرفيع.
.. تحتسب ابنها
البنون زينة الحياة الدنيا وأغلى ما يملكه المرء ما يخرج من صلبه، ولكن إن هو زَهِدَ الدنيا فما له وزينتِها؟ وإن باع نفسه لله فكم يَسوَى البنون إزاء ذلك؟ كانت النساء من الرعيل الأول يبذلن بَنِيهن لدعوة السماء ويحتسبن فلذات أكبادهن عند الله بل ويفرحن حين تقع الشهادة لهم.. حدث هذا وليست أسطورة تُنَمَّق، ولامرأة كان ابنها هو السيد المطاع والزعيم لأعرق قبائل يثرب.. وكانت مكانة هذا الابن عند الله ورسوله يتطلع إليها كل فرد في ذلك الموكب.. وهو مع ذلك لا يزال شابًّا حدثًا لم يبلغ السابعة والثلاثين.. مات سعد بن معاذ سيد الأوس على إثر جرح أصابه في غزوة بني قريظة.. وقد أتى جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة موته فقال: «يا محمد.. من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟» فقام النبي يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات.. فعندما وضع المسلمون سعدًا هذا في قبره جاءت أمه تنظر إليه في اللحد قبل أن يبنى عليه باللَّبِن والتراب فردوها فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعوها. فأقبلت ونظرت إلى ابنها الشاب السيد وهو في لحده فرفعت بصرها إلى السماء وقالت: «احتسبتك عند الله». وهذا التعبير له دلالة سامية لا يدركها إلا من تذوق الإيمان وتربى في كنفه.. وقد عاشته نساء ذلك الموكب كلهن وليست أم سعد وحدها.. فهذه حمنة بنت جحش يلقاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريق عودته مع جيش الإيمان وجنده إلى المدينة عقب غزوة أحد فيقول لها معزيًا: احتسبي! فقالت: من يا رسول الله؟
فقال: خالك حمزة. فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئًا له الشهادة.
فقال لها: احتسبي! قالت: من يا رسول الله؟
فقال: أخاك عبد الله بن جحش قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئًا له الشهادة.
ثم قال: احتسبي! قالت: من یا رسول الله؟
فقال لها: زوجك مصعب بن عمير. فقالت: واحزناه! وصاحت وولولت، ولكنها ما لبثت أن استرجعت واستغفرت حتى قال الرسول: «إن زوج المرأة بمكانٍ ما هو لأحد» وقد اعتذرت بأنها تذكرت يُتْمَ بنيه ولكنها عادت فاسترجعت...
وهذه أيضًا هند بنت عمرو بن حرام عمة جابر بن عبد الله راوي الحديث المشهور قُتِل أخوها عبد الله بن عمرو بن حرام وزوجها عمرو بن الجَموح وابنها خالد بن عمرو كلهـم استشهدوا في أحد وهي سعيدة بهذا الشرف الذي منحه الله إياها دون غيرها من نساء يثرب..
هؤلاء من نساء الإسلام وقد تربين عليه فصَدَّقَ قولَهن عملُهن وثَبَتْنَ في أحلك الظروف وأقسى المشاهد.. لا يُقِلُّ إيمانَهن فقدُ أخ وولد أو زوج وأب..
عفراء.. أم الشهداء
ولنقف لحظات أمام صفحة مفتوحة للبعيد والقريب من كل أمة ولكل جيل.. مع الأم التي تلد الشهداء وتُربي لساحات الجنة وميادينها عفراء بنت عبيد بن ثعلبة التي أرضعت أبناءها السبعة حب الشهادة ودفعتهم للموت دفاعًا عن عقيدتهم وانتصارًا لها يوم بدر فشهد السبعة بدرًا معاذ ومُعَوِّذ وعَوذٌ أبناء الحارث بن رفاعة وعاقل وخالد وعامر وإياس أبناء البكير بن عبد يَالِيلَ وقد أبلوا بلاءً يعجز عنه الوصف ينم عن قوة إیمان وكرامة أصل، فقد بايع أبناؤها -من الحارث بن رفاعة- معاذ ومعوذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود وهما اللذان خرجا لعتبة بن ربيعة لیبارزاه حين دعا للمبارزة يوم بدر.. وهي أم عوذ بن الحارث الذي قتل أبا جهل بن هشام -كما يذكـر بعض أصحاب التراجم- وابنها عوذ هذا الذي يروي عنه ابن إسحاق أنه قال يوم بدر: «یا رسول الله ما يُضحِك الربَّ من عبده؟ قال: غمسُه يدَه في العدو حاسرًا» فنزع درعًا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتِل.
وقد استشهد معه يوم ذاك أخوه معوذ بن الحارث وأخوه لأمه عاقل بن البكير.. وقد شهد ابنها معاذ بدرًا وأحدًا والخندق مع رسول الله، كما استشهد ابنها خالد بن البكير بن عبد ياليل يوم الرجيع وهو ابن أربع وثلاثين.. واستشهد ابنها عامر بن البكير يوم بئر معونة.. واستشهد ابنها إياس بن البكير يوم اليمامة.
أم الحارث.. لا تبكي ابنها!
أورد ابن إسحاق في سيرته أن أم الحارث بن سراقة إحدى بني عدي بن النجار وأخته -أي أخت الحارث- أنهما قالتا لما أتى الناسَ بالمدينة أسماءُ من قتل من المسلمين يوم بدر وبكت النساء علـى قتلاهن قالتا: والله لا نبكي عليه -أي على الحارث بن سراقة- حتى يَقدَمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنسأله، فإن كان من أهل الجنة لم نبكِ عليه وإن كان من أهل النار بكينا عليه، فلما قدم الرسول أتتاه فسألتاه فقال: «إنها جنان وإنه لفي الفردوس الأعلى»
هذه الأم الكريمة تريد أن تبكي على ابنها إن كان من أهل النار.. لأنه لا يرى ربه يوم القيامة ولا يكلمه ولأنه أخزى نفسه وأهانها.. أما وهو في الجنان وفي الفردوس الأعلى وفي جوار ربه فعلام البكاء وهو في قرب من خالقه.. تلك كانت عقيدة هذا الموكب الإيماني بأسره.. ومثل هذا الموقف لا يقفه إلا من ارتفع إلى قمة الإيمان السامقة وتقرَّرت في قلبه «لا إله إلا الله» وتركّزت روحه بها..
وكانت النساء صدرًا في هذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلا فما قولك في صفية بنت عبد المطلب وقد أقبلت إلى أخيها وأمها حمزة بن عبد المطلب وهو مُسَجًّى ببردة بعد استشهاده يوم أحد وقد فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة عليه.. أقبلت صفية لتلقي نظرة على أخيها الشهيد فقال الرسول لابنها الزبير بن العوام: القَها فأرجعها لا ترى ما بأخيها. فقال لها: يا أُمَّهْ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن ترجعي.
قالت: «وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي.. وذلك في الله.. فما أرضانا بما كان من ذلك... لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله». فلما جاء الزبير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بذلك قال: خلِّ سبيلها. فأتته، فنظرت إليه ثم صلّت عليه واسترجعت، واستغفرت له.
أسماء.. وافدة النساء
ونحن نصل إلى خاتمة المطاف نسمع ونرى مشهدًا رائعًا.. يزيد من روعته ويجللها، أن الذي تتحدث فيه امرأة من النساء، فلنستمع إليها وقد جاءت لرسول الله موفودة من قبل نساء المدينة تتحدث باسمهن وتفصح عن رغباتهن.
تقول أسماء بنت يزيد الأنصارية وهي تحدث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في مجلسه بين أصحابه «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم ومَقضَى شهواتكم وحاملات أولادكم.. وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمَع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله -عز وجل- وإن الرجل إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا أو مجاهدًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنُشَارِكُكُم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا».
ويمنعنى الحياء أن أزيد على تعجب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعليقه ولو كلمةً واحدةً.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلوثيقة «الدليل المنير».. وعلاقتها بانتشار الإسلام في الأندلس
نشر في العدد 2122
37
الأربعاء 01-أغسطس-2018
عندما يتم استخدام الدراما لتزييف التاريخ.. مسلسل «رسالة الإمام» نموذجاً!
نشر في العدد 2179
31
الاثنين 01-مايو-2023