الثلاثاء 31-أغسطس-1971
مناقشات حرة في إستراتيجية العَمل الإسّلامي
بقلم: أبو أيمن
تضخم في الإمكانات الفكرية والبشرية وضمور في العمل الحركي.. لماذا؟
قرأت في المجتمع مقالًا قيمًا عن إستراتيجية العمل الإسلامي، وكنت من فترة طويلة أرغب أن تطرق المجتمع مثل هذه المواضيع الحية، ولقد تمنيت على السيد مدير التحرير مثل هذا الأمر، والكلام في إستراتيجية العمل الإسلامي يطول ويتشعب ويختلف حسب الزاوية التي تسلط عليها الأضواء، وهو في مجمله مفيد، واختلافه إحاطة وتشعبه شمول، ولا بأس ممن يجد في نفسه القدرة على الكتابة في هذا الموضوع أن يقول ما عنده حتى تكتمل الصورة وتوضح معالم الطريق.
وأرى أن أنطلق في هذه الكلمة من مجموعة مسلمات لا يختلف عليها العاملون للإسلام:
لسنا قلة في العدد، فالإسلاميون يملأون الحياة العامة، وهم في كل قطر نسبة عالية من حيث العدد.
ولسنا نعاني نقصًا مقعدًا في الإمكانات.. في المال والجاه وخاصة الإمكانات الفكرية، فقد انتشرت الحركة الإسلامية أكثر ما تكون في صفوف المثقفين والعلماء، ونظرة فاحصة لأعدادها تظهر النتيجة.
ليس الضغط الخارجي والتآمر الداخلي وحده السبب الكافي لجمود الحركة الإسلامية، فلقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، وجابهت من يومها الأول حربًا شعواء على الدعوة الجديدة وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة وقد حشرت الجاهلية لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة، ومع ذلك فقد قامت الدعوة وصمدت وتحدت الجاهلية وأقامت دولة الإسلام.
في العلة.. والعلاج
فلماذا إذًا هذا الجمود في الحركة الإسلامية؟ ما هي أسبابه؟ وما هي طرق علاجه؟ والأسباب كثيرة نذكر بعضًا منها..
سلوك الداعية: فالداعية إلى الله ينبغي أن يكون قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيش فيه، حتى يتحول هذا السلوك بحد ذاته دعوة حية متحركة. فالصدق والأمانة والوفاء والإخلاص والتواضع والصبر على المكاره معان يعيشها الداعية ويتمثلها في سلوكه وواقعه.
هذا من الناحية النظرية، أما في الواقع فنجد بونًا شاسعًا بين الأقوال والأعمال، بين الكلام الذي يهدر به اللسان في محاضرة طويلة، وبين المعاملة في حيز التطبيق، فهذا داعية مسلم لا يتورع عن الكذب حين يرى مصلحته في جانبه، وهو يعلم أن المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب، ولا يتورع عن أخلاق الموعد وهو يعلم أن ذلك من صفات المنافقين، ولا يجود بالفلس وهو يعلم أن السخي قريب من الله قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، وهو في كل ذلك يدعي أنه مسلم فاهم داعية إلى الله والرسول.
· ترى المسلم الداعية فتتمنى أن تعامله وتأمل عنده الصدق في الموعد
والإحسان، في العمل وتكون النتيجة عكس ما كنت تنتظر، فتعدل في أغلب الأحيان إلى معاملة الآخرين وكأن الكلام شيء والمعاملة شيء آخر. كل ذلك والدعاة يقرأون قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2 - 3).
· ترى الدعاة يختلفون فتأمل أن ترى كتاب الله وسنة رسوله الحكم بينهما يتذللون لبعضهم.. ويغفرون قصور إخوانهم، لكن الواقع مع الأسف عكس هذا الحال.. فالتشاتم والقذف والتكذيب والتخوين.. كل ذلك من أبسط ما يقال تمامًا نفس الصورة التي تلمسها عند الآخرين.
ومن هنا فلا بد قبل التفكير في وضع المخططات لانطلاق الحركة الإسلامية، من التفكـير الجاد والصحيح في بناء شخصية الداعية بناءً إسلاميًا صادقًا حيًا متحركًا، يخشى الله في الغيب، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب إخوانه.
الكيف.. لا الكم
من الطبيعي جدًا أن تحاول الحركة الإسلامية تنمية صفها، وتكثير عدد أفرادها بمختلف الأساليب والطرق المشروعة، ولكن هذا الأمر يجب ألا يجعلنا نجمع الأفراد كيفما اتفق، فالنوعية أهم من الكمية، وقد تبذل الدعوة جهدًا في كسب الفرد فتنفق في ذلك وقتًا وجهدًا، ولكنها تأمل بالمقابل أن يأخذ هذا الفرد مكانه في الجماعة، فيحمل عنها جزءًا من المسؤولية ويقوم بقسطه من التكاليف، أما أن تبقى الدعوة تحمل أفرادها طيلة العمر، فهذا مضيعة للجهد وسفه في العمل.
وقد يكون الفرد أمة، وقد يكون كلًا وحملًا يضر ولا ينفع.. وعدم وضعه في الحساب أجدى وأكرم، وعندنا دروس كثيرة للعظة ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾.
إن الكثرة العددية ليس لها المقام الأول، إنما هي القلة العارفة المتصلة بالله الثابتة المتجردة للعقيدة، وإن الكثرة لتكون أحيانًا سببًا في الهزيمة، لأن بعض الداخلين فيها، التائهين في غمارها ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة، فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله انشغالًا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة، لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة، لا بالزبد الذي يذهب جفاء ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح.
ومن هنا فلا بد قبل التفكير في وضع المخططات لانطلاق الحركة الإسلامية، من العمل الجاد والصحيح في تقييم الأفراد وجمع الطاقات المتحركة العاملة مع بعضها. وهذا أمر في غاية البداهة أن تعرف رصيدك الحي قبل البدء في أي عمل.. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن تتخلى الحركة عن بقية أفرادها، بل تنظمهم في حلقات للدرس والتربية، حتى يكون منهم الرفد الدائم.
وضوح الرؤية
إن وضوح الرؤية ومعرفة الطريق سهَّل انطلاق الحركة الإسلامية، ومما لا شك فيه أن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع وتغيير الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا سياسة النفس الطويل، فندعو وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد المنهج الإلهي أن نعيش، ولكن يجب أن نعرف أن هذه المهمة لن تتم في سنة أو سنتين أو عشر سنوات، فالطريق طويل والكفاح مرير وسنلقى في كل ذلك عنتًا ومشقة، وستفرض علينا تضحيات جسام.
ومن هنا يجب أن نعتمد سياسة النفَس الطويل، فندعو إلى الله على بصيره بقصد مرضاته، لا نعتسف الطريق ولا نستعجل الثمرة قبل نضوجها، وهذا لن يتم إلا إذا فهم العاملون للإسلام أن الحكم الإسلامي وسيلة لغاية أسمى، فإن تحقق على أيدينا حمدنا الله، وإن لم يتحقق فلا بأس ولا قنوط ولا تراجع ولا خوف.. ونكون بذلك أدينا الأمانة وقمنا بواجب الدعوة، وما النصر إلا من عند الله، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، ولقد يقول قائل ما بال الأحزاب التافهة العميلة تصل إلى مقاعد السلطة هنا وهناك في مدة أقصر وبطريقة أيسر؟! والجواب على ذلك أن الطريقين مختلفان، والحركة الإسلامية لن تصل إلا بطريق متميز نظيف، ولو رضيت أن تكون مطية لهذه القوة أو تلك لوصلت كما وصل الكثير.
ومن هنا فلا بد قبل التفكير في وضع المخططات لانطلاق الحركة الإسلامية- من توضيح الرؤية عند جميع العاملين للإسلام، حتى نكون على بينة من أمرنا من أول الطريق، وسنصل حتمًا إذا كانت البداية صحيحة، ولن نصل أبدًا إذا كانت البداية خاطئة.
أسلوب الدعوة
أسلوب الدعوة.. وفي هذه النقطة سأتحدث عن:
· الدعوة بين السرية والعلنية.
· معنى العزلة الشعورية.
· كيف ندعو الناس؟
· ضعف الواجهات الإسلامية.
بين السرية والعلنية
لا يمكن أن تكون دعوة الإسلام سرًا من الأسرار يتكلم بها الدعاة وراء الحجب والأستار، يخشون أن يتخطفهم الناس، ويفلسفون ذلك ويعتبرون فيه مصلحة وحكمة.
فصوت الإسلام يجب أن يعلو، وكلمة الحق يجب أن تقال، «والساكت عن الحق شيطان أخرس»، «ومن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فالداعية يجب أن يقول كلمة الحق في مكانه حيث يعمل، وفي حيه حيث يقطن، في الكلمة التي يستطيع إلقاءها، وفي المقالة التي يستطيع أن ينشرها، كل ذلك بالكلمة والموعظة الحسنة، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن تكشف للناس جميع ما عندك من مخططات وتنظيمات، فليس في ذلك مصلحة على الإطلاق، وفي الوقت الذي كانت تدار اجتماعات المسلمين الأوائل سرًا في دار الأرقم، كان المسلمون كأفراد ينزلون إلى الكعبة يصدعون بدعوة الله، ويتعرضون في ذلك لأقسى أنواع التنكيل والتعذيب.
معنى العزلة الشعورية
ولقد كثر الكلام أخيرًا عن العزلة الشعورية، التي دعا إليها الأستاذ سيد قطب في «كتابه معالم في الطريق» حيث قال: «فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟ إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق.. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا، تمضـي وهي تزاول نوعًا من العزلة من جانب، ونوعًا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة» وواضح جدًا كلام سيد.. لمن أراد أن يقتنع أو يفهم.
عزلة في المفاهيم والشعور يدعو إليها الدعاة العاملون بمعنى البناء النفسي والتصوري، الذي يجب أن يرافق الداعية في شتى مجالات التفكير والتقويم ترافقه وهو طالب، وترافقه وهو عامل، وترافقه وهو خطيب، وترافقه وهو في أعلى مناصب المجتمع الذي يعيش.
أما في مجالات الحركة والدعوة إلى الله، فلا مجال للعزلة ولا مجال للانفراد، بل يدعو إلى الاتصال بهذه الجاهلية المحيطة، ويقول في مكان آخر من كتابه المعالم: «وحين تدرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة».
ثم يقول: «ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل.. كلا، إنما هي المخالطة مع التمييز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة».
كيف ندعو الناس إلى الإسلام؟؟
كما أن دعوة الناس إلى دين الله فرض على كل مسلم ومسلمة، فإن دعوتهم بالحكمة وحسن الخلق فرض كذلك ﴿دۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ﴾، وطريقة الدعوة تختلف من مسلم إلى آخر، ومن وسط إلى آخر، والمسلم كيس فطن يعرف المدخل اللين الطيب إلى نفس صاحبه.
ووسائل الدعوة يجب أن تتنوع وتتحسن، فالطرق التي كانت تصلح قبلًا قد لا تصلح اليوم، والطرق التي تصلح اليوم قد لا تصلح في المستقبل.
ولا بد أن يكون الدعاة الإسلاميون فاشلين هذه الأيام، فلقد اقتصروا على دعوة العناصر المثقفة، بينما استأثر اليسار والشيوعيون بالطبقات الكادحة والعمال، لأن العنصر المثقف يكفي لدعوته أن تعطيه كتابًا يقرأه ويتدبره، أما العامل فيلزم أن تنزل إلى مستواه وتزوده بما يحتاج وتحل مشاكله، وتتعهده بالرعاية حتى يلمس منك حبًا وعطفًا، وعندها سيكون عنصرًا ممتازًا في دعوة الإسلام، ولم يقصروا فقط في مجال العمال، فقد قصروا في جمهور المصلين وجماعة المسجد، فكم هي نسبة المتعاطين مع الحركة الإسلامية في المسجد؟! إنها نسبة قليلة ولا شك.
إن كثيرًا من الدعاة الإسلاميين يغلب على مسالكهم الطابع الارستقراطي، يترفعون عن الناس لا ينزلون إلى مستوى الجماهير، ولا يعرفون شيئًا عن مشاكلهم ولا يتبنون قضاياهم.
فالداعية الأصيل الفاهـم يسيل عذوبة ورقة، يبـدأ الناس جميعًا بالسلام، يرحم الناس ويشفق عليهم، والداعي المحروم من الرحمة الغليظ القلب لا ينجح في عمله، ولا يُقبل الناس عليه وإن كان ما يقوله حقًا وصدقًا، هذه هي طبيعة الناس ينفرون من الغليظ الخشن القاسي: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ﴾.
فليتق ربهم الدعاة إلى الله، وليتكلفوا الرحمة والرفق حتى يكتسبوها ويألفوها، فإن عجزوا عن اكتساب الرحمة وحمل نفوسهم على أخلاق الإسلام، فمن الخير لهم وللدعوة ترك الدعوة والانصراف إلى علاج نفوسهم.
الواجهات الإسلامية
والواجهات هي إحدى وسائل الدعوة التي عن طريقها تتصل بالناس وتدعوهم إلى الله، ومع الأسف فالواجهـات الإسلامية من أسوا الواجهات الموجودة أمام الناس، سواء في معاملة القائمين عليها أو في الصورة المزرية التي تكون فيها، والواجب يحتم أن نكون نموذجًا خاصًا يقدم للناس الإسلام بصورته العملية والحقيقية.
وهناك أمور أخرى كثيرة تتعلق بأسلوب الدعوة، ولكننا نكتفي بهذه الإشارات الموجزة المجملة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
عبدالعالـي حسانـي: «مجتمع السلم» تتبنى مشروع الوحدة بين أبناء الحركة الإسلامية كافة بالجزائر
نشر في العدد 2182
32
الثلاثاء 01-أغسطس-2023