العنوان مواجهة لمخاوف الإنسان
الكاتب ا. د. عماد الدين خليل
تاريخ النشر السبت 18-فبراير-2006
مشاهدات 9
نشر في العدد 1689
نشر في الصفحة 66
السبت 18-فبراير-2006
(*) كاتب ومفكر إسلامي عراقي
قرر الإسلام فكرة البعث والجزاء كركن أساسي من عقيدته، ووضعها على أسس منطقية ونفسية عميقة الجذور في كيان الإنسان، بل إنه جعلها أساس السلوك الأخلاقي في الحياة الدنيا، وبهذا قضي على اليأس من الفناء وأبعد شبح العدمية عن مصير الإنسان ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی مَقَامٍ أَمِین فِی جَنَّـٰت وَعُیُون یَلۡبَسُونَ مِن سُندُس وَإِسۡتَبۡرَق مُّتَقَـٰبِلِینَ كَذَ ٰلِكَ وَزَوَّجۡنَـٰهُم بِحُورٍ عِین یَدۡعُونَ فِیهَا بِكُلِّ فَـٰكِهَةٍ ءَامِنِین لَا یَذُوقُونَ فِیهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ﴾ ( الدخان:54-57 ).
إن القرآن الكريم يعلن بهذه الآيات الفوز العظيم للإنسان المسلم الذي آمن بالعقيدة، وأسلم أمره لله، وسار على هدي المبادئ التي بعث بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأي فوز أعظم من الخلود ومن زوال الشبح المخيف الذي ملأ نفس الإنسان بالقلق وفكره بالهم منذ القديم؟ لا موت إلا الموتة الأولى وفي هذا الإعلان يضع القرآن الكريم حدًا لمخاوف الإنسان.
وتقترن فكرة الخلود في القرآن الكريم بمناظر النعيم الرائعة، مما يشد طموح الإنسان إلى هذا الأمل الخالد ويدفعه إلى استغلال كل ما في وجوده من طاقات في سبيل الخير في الأرض لكي يراها في السماء في ( كتاب معلوم ) يمهد أمامه الطريق إلى الخلود ِ﴿إنَّ ٱلَّذِینَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ لَا یَسۡمَعُونَ حَسِیسَهَاۖ وَهُمۡ فِی مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَـٰلِدُونَ لَا یَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ هَـٰذَا یَوۡمُكُمُ ٱلَّذِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ ( الأنبياء101-103 ).
وهكذا فليس ثمة (عبثية) في هذه الحياة وليس ثمة ضياع للجهد الإنساني يدفعان الإنسان إلى الاعتقاد بلا معقولية الوجود وبلا جدوى العطاء الإنساني. كلا إنما هي الحسنى التي تنتظر كل ما استغل طاقاته من أجل الخير والبناء، وفجر معطياته على الطريق المستقيم.
فأولئك جميعًا يبعدون عن العذاب ولا يسمعون له حسيسًا وكنتيجة لجهودهم الخيرة في الأرض يفوزون بالخلود فيما اشتهت أنفسهم ﴿لَا یَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ هَـٰذَا یَوۡمُكُمُ﴾
إن الإيمان بحقيقة البعث والجزاء لا يقضي على يأس الإنسان وتخوفه من المصير المظلم فحسب وإنما يمنحه قوة نفسية خارقة بها يستطيع أن يقتحم المصاعب ويحقق المعجزات ويتصل بقوة الأزل والأبد ويمتد إلى أعماق العالم والكون كما أنه يمنح القيم الخلقية حصانة وعمقًا لا نجد عشر معشارها في الأخلاقيات الوضعية التي تستند إلى المنافع الموقوتة، حينًا وإلى الرقابة الخارجية حينًا آخر وإلى النظرة النسبية المحدودة حينًا ثالثًا وهي في كل الأحوال لا تعدو أن تكون قيمًا قلقة سريعة التبدل قابلة للتحايل عليها، والالتفاف حولها، والتفلت من الزامها، لكن فكرة البعث والجزاء مقرونة بإحساس الضمير الديني بالرقابة الإلهية الدائمة هي التي تمنح هذه القيم ذلك الثبات والديمومة وتعطيها قدرة على ضرب جذورها في الحياة الاجتماعية وفي النفس البشرية على السواء.
وبهذه الموازنة الفكرية والنفسية والأخلاقية، يعالج الإسلام مشكلة الموت التي تبدو إزاءها جميع المعالجات الوضعية المعاصرة، والتي سارت باتجاه معاكس فأكدت على أفكار كالعدم والظلام والنوم الأبدي والتحلل النهائي إلى آخره تبدو إزاءها وكأنها مخاوف أطفال أو تفاهات مخرفين باسم الفكر تحت شعار «لكل إنسان أن يتخذ موقفه بحرية مطلقة».
وهم بهذا إنما يزيدون من مخاوف الإنسان ومن تعقيدات أزماته النفسية، ويقطعون صلاته بمعاني الكون الكبرى، فيضطرونه أخيرًا إلى الارتماء في حضيض الشهوات أو التحليق في عوالم الخيال والانفصال –بالتالي- عن مجرى الحياة. وليس هذا كله -في حقيقة الأمر- إلا تضييعًا لطاقات الإنسان وتوجيهها في غير الطريق الذي خلقت من أجله. ففكرة العدمية ترتبط بها بالضرورة أفكار كالعبث واللاجدوى وضياع الجهد البشري وغبن الإنسان في هذا العالم وهذه المواقف قد تدفع بالإنسان إما إلى اليأس التام فالانتحار، وإما إلى الإغراق الذي يمزق أعصاب الإنسان ويدمر وحدته النفسية،
«فأن يموت المرء- يقول الأديب الوجودي كامو- بملء إرادته يفرض أنه اعترف ولو غريزيًا بطابع هذه العادة الذي يوحي بالسخرية، وبانعدام أي سبب عميق للحياة، وبالطابع الذي لا معنى له لهذا السعي اليومي، وبعدم جدوى الألم والعذاب. وباختصار فإن الانتحار يعني بكل بساطة -الاعتراف بأن الحياة لا تستحق أن تعاش ويغدو الزمن لا كمساعد، بل أسوأ عدو، فهو يحملنا أبدًا في جميع أيام حياة لا أشواق فيها.
طبعًا فإن الحياة البشرية لو جردت من الإيمان لو انعدمت في ضمير الإنسان حقيقة البعث والجزاء لأصبح وجوده قفرًا وحياته مسيرة شاقة في صحراء مجدبة لا أشواق فيها، ويبقى الإيمان يبقى التشبث بالبعث والجزاء، هو الذي يمنح الحياة طعمها العذب، ويفجر في صحاريها المياه.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل