العنوان نحو حركة إسلامية عالمية واحدة (1)
الكاتب د. فتحي يكن
تاريخ النشر الثلاثاء 28-يوليو-1970
مشاهدات 28
نشر في العدد 20
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 28-يوليو-1970
دراسة في ثلاث حلقات يقدمها الأستاذ فتحي يكن
نحو حركة إسلامية عالمية واحدة (1)
الحلقة الأولى
جاهلية اليوم تحارب الإسلام بكل الأسلحة الفتاكة!
هل تستطيع حركة التبليغ التصدي للأفكار والفلسفات المادية؟
- القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، وإن أول درجة من درجات القوة، قوة العقيدة والإيمان ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح.
- يواجه الإسلام في هذا العصر تحديات ضارية من أكثر من جهة واتجاه، وأحكام الإسلام وقوانينه المنبثقة عن الشريعة الإسلامية مُعطّلة في سائر أنحاء الوطن الإسلامي.
- لن تحل مشاكل العالم المادية لمجرد القول بأن الإسلام يملك حلها، إن قيمة الإسلام الذاتية لا بُد وأن تبرز إلى الوجود في هيئة نظام عملي مهيمن يلمس الناس آثاره ويجنون ثماره.
- إننا نعيش في عالم يقوم على الصراع والكفاح والخطابة والوعظ، لن تفلح في تغيير مجراه، ولكن الكفاح الثائر وحده هو الذي يستطيع ذلك.
تشعبت طرائق العمل للإسلام في العصر الحديث، مما يبعث على الخوف والقلق من أن يؤدي هذا التشعب إلى تشوه الصورة السليمة الأصيلة لطبيعة العمل الإسلامي وخصائصه، وبالتالي إلى استنزاف القوى والفعاليات الإسلامية في مماحكات كلامية ومنافسات حزبية رخيصة لا أقول إنها لا تخدم الإسلام أو القضية الإسلامية فحسب، وإنما أقول إنما قد تؤدي، إن لم تكن قد أدت إلى بلبلة عقول الناس وتنفيرهم، وفي النهاية حسراتهم وجعلهم في جانب العاملين لهدم الإسلام، وما أكثرهم في هذه الأيام!
ومنطق المواجهة في العصر الحديث فضلًا عن منطق الشرع والإسلام يقتضيان ويحتمان تلاحم القوى الإسلامية واحتشادها في مسيرة واحدة لضرب الجاهلية، وإقامة دولة تحتكم إلى شرعة الله، وتأخذ طريقها إلى هداية العالمين.
مبررات قيام حركة إسلامية عالمية واحدة:
إن المبررات التي تحتم قيام حركة إسلامية عالمية واحدة أكبر من أن تُناقش، وأكثر من أن تُعد والعاملون في الحقل الإسلامي مدعوون لتمحيصها ودراستها حتى يكون العمل والسعي لإيجاد الحركة الإسلامية المنشودة قائمًا على قناعة وإيمان، وليس على عاطفة مشبوبة وحماس عفوي مؤقت.
إن الإسلام يواجه في هذا العصر تحديات ضارية من أكثر من جهة واتجاه، وأحكام الإسلام وقوانينه المنبثقة عن الشريعة الإسلامية معطلة في سائر أنحاء الوطن الإسلامي.
بل إن حكم الطاغوت والأنظمة والأفكار المادية الوضيعة المضادة للإسلام والحاقدة عليه والمتناقضة مع فلسفته الكونية ومبادئه الأخلاقية هي السائدة.
والأفكار المادية والفلسفات الإلحادية عصفت بأدمغة الأجيال، ومستوى الانحلال الخلقي وصل إلى الدرك الأسفل، وجور الأنظمة الحاكمة وظلم القوانين القائمة وعدم توفيرها للعدالة والحرية والمساواة مكن للغزو الماركسي اليساري المُلحد من أن يجتاح الأمة باسم تحقيق العدالة ونصفة المظلومين ورفع مستوى الفقراء والكادحين، ثم إن المعركة الدائرة رحاها اليوم بين الإسلام وبين «الجاهلية» لم تعد في مستوى البحث العلمي المجرد أو في حدود المناقشة الفكرية الهادفة، بل أضحى هذا الصراع دمويًا ضاريًا بكل ما في هاتين الكلمتين من معنى.
إن جاهلية اليوم تستخدم في حربها للإسلام ودعاته كل الأسلحة الفتاكة، الأسلحة المبيدة، الأسلحة الخبيثة، إن القتل والسحل والسجن والتعذيب والتشريد، وإن حملات الإرجاف والتشكيك والتخوين والاتهام كل هذه وغيرها من الوسائل المعقدة لدى «الجاهلية الحديثة» لضرب الإسلام وتصفية العاملين له في كل مكان، ثم إن العالم كل العالم بات يعيش حالة ضياع، وأصبح يئِن تحت وطأة الانحراف والشذوذ والفراغ، العالم الذي أعمته مظاهر المدنية الحديثة، وأحرقته نار الثورة الجنسية، وهدته الصرعات البوهيمية «الهيبية والوجدية إلخ»، مما يتهدد الوجود الإنساني والأخلاق الإنسانية والأفكار الإنسانية -حتى المجرّدة منها- بالفناء والفناء الكامل.
وثمة مبرر آخر يحتم قيام حركة إسلامية عالمية واحدة وهو أن التحديات التي تواجه الإسلام إنما هي في حقيقتها تحديات «حركات عالمية» كالحركة الصهيونية والحركة الماسونية والحركة الشيوعية والحركة التبشيرية الصليبية.
ومثل هذه الحركات العالمية ذات القدرات والإمكانيات البشرية والمادية والفنية الهائلة لا يمكن -بل لا يجوز- مواجهتها إلا على نفس مستواھا وبنفس وسائلها، وسوى ذلك لا يعني غير التراجع والانحسار والاندثار.
هذه المبررات وغيرها تحتم بما لا يدع مجالًا للتباطؤ والشك والتلكؤ بقيام حركة إسلامية عالمية واحدة تكون في مستوى المواجهة تفكيرًا وتنظيمًا وتخطيطًا وإعدادًا وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60).
تجارب في نطاق العمل للإسلام
وقبل أن نناقش المواصفات العامة والملامح الأساسية التي ينبغي توفرها في الحركة الإسلامية العالمية الواحدة لا بد وأن نستعرض بعض التجارب التي قامت في نطاق العمل الإسلامي في العصر الحديث تلمسًا للعبرة واستزادة للخبرة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
1 - طريق الوعظ والإرشاد «أو تجربة جماعة التبليغ»
وهو الأسلوب الذي يمارسه الوعاظ والمرشدون بشكل إفرادي في غالب الأحيان والذي تمارسه جماعة التبليغ بشكل جماعي، وجماعة التبليغ تلزم أتباعها ببذل أوقات معينة للقيام بهذا الواجب، ساعة في الأسبوع أو يومًا في الشهر أو شهرًا في السنة، يقومون فيها بالدعوة إلى الإسلام في سائر أنحاء الوطن الإسلامي.
وجماعة التبليغ مع حرارة دعاتها في الدعوة إلى الله وحماسهم وصدقهم وإخلاصهم وصفائهم، إلا أنه لا يقدر لها أن تكسب الجولة مع الجاهلية العاتية إن بقي أسلوبها الحالي نفس الأسلوب في المستقبل أو أصبح سياسة مطردة في سائر مراحل العمل وفي مختلف الظروف.
أ- إن هذا الأسلوب لا يفضي بنتيجته إلى إقامة تجمع حركي منظم قادر على مواجهة الجاهلية وتحدياتها المتزايدة، وبالتالي إلى إيجاد المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية.
ب - ثم إن مثل هذا الأسلوب سيبقى نطاق عمله محصورًا في المساجد وروادها، بمعنى أن أثره لن يمتد إلى الآخرين الذين يمثلون اليوم السواد الأعظم من الناس، وإلى قطاعاتهم المختلفة.
ج - كما أن هذا الأسلوب لن يتمكن من مواجهة تحديات الأفكار والفلسفات المادية والرد عليها لأنه ينتهج في غالب الأحيان أسلوب الموعظة العاطفية المؤثرة وأسلوب الترغيب والترهيب، وهذا لا يُمكن أن يؤثر في غير المتدينين أصلًا.
د – ومن ظاهر هذا الأسلوب أنه ليس في تخطيطه أن يتابع البذور حتى تنمو وتُصبح غرسًا ليجنيها بعد ذلك ثمرًا، وقد يكون مُماثلًا للأسلوب الذي انتهجه «طاهر الجزائري» و«جمال الدين الأفغاني» والذي عبَّر الأخير عنه بقوله: "قل كلمتك وامشِ"، وهذه الطريقة غير مضمونة النتيجة فضلًا عن كونها بطيئة الأثر قليلة الثمر.
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي «أمير الجماعة الإسلامية في باكستان» مشيرًا إلى عقم أسلوب الوعظ والإرشاد: "يصبح من العبث الدعوة إلى الإسلام على طريقة التبشير المسيحي".
ولو طبعت ملايين النشرات تدعو إلى التمسك بالإسلام وتصيح بالناس أن "اتقوا الله" صباح مساء، لما كانت ذات فائدة تذكر إذ ما هي الفائدة العملية التي ستنجم عن تأكيد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن فوائده ومزاياه ليس لها مثيل عن طريق القلم والخطابة؟ إن حاجة العصر تتطلب إبراز هذه المزايا بصورة عملية في عالم الواقع.
إن مشاكل العالم المادية لن تُحل لمجرد القول بأن الإسلام يملك حلها، إن قيمة الإسلام الذاتية لا بد وأن تُبرز إلى الوجود في هيئة نظام عملي مهيمن يلمس الناس آثاره ويجنون ثماره، إننا نعيش في عالم يقوم على الصراع والكفاح والخطابة والوعظ لن تفلح في تغيير مجراه ولكن الكفاح الثائر وحده هو الذي يستطيع ذلك (رسالة داء المسلمين ودواؤهم ص 15).
٢ - طريق القوة أو الثورة المسلحة «أو تجربة عرفان، والقسام، وصفوي».
ولقد قامت في العصر الحديث محاولات عدة في نطاق العمل الإسلامي اتسمت بطابع الثورة وتوسلت القوة أساسًا لمواجهة التحديات واستئناف الحياة الإسلامية.
من هذه التجارب تجربة «الشهيد أحمد بن عرفان» في الهند الذي استجاب له عدد كبير من الناس فجندهم وحمل أمامهم راية الجهاد، واستطاعوا أن يؤسسوا دولة إسلامية في مدينة (بشاور) شمالي الهند، غير أن الإنجليز تآمروا عليها بدهاء، وألبوا المسلمين من رجال القبائل ضدها، مما أدى إلى قيام معركة عنيفة بين الطرفين قتل فيها الإمام وكبار أصحابه وذلك عام 1946هـ.
ومنها تجربة الشهيد (الشيخ عز الدين القسام) الذي استحيا من الله أن يُقرئ تلاميذه أحكام الجهاد ثم هو لا ينفر معهم إلى قتال الإنجليز الذين كانوا يحتلون فلسطين في ذلك الحين، فما كان منه إلا أن استنفر تلاميذه وأتباعه وتدرب على القتال ودربهم عليه، وأعلن الجهاد على أعداء الله حتى سقط شهيدًا عام 1936م.
ومنها تجربة (الشهيد نواب صفوي) زعيم حركة الفدائيين المسلمين في إيران التي تؤمن بأن القوة والإعداد هي السبيل الوحيد لتطهير أرض الإسلام من الصهيونية والمستعمرين وإقامة حكم الإسلام، ولقد قاومت الحركة أعداء الإسلام في إيران مقاومة الأبطال إلى أن سقط نواب صفوى وعصبة من إخوانه الأبرار برصاص الخونة المجرمين عام ١9٥٦م.
وليس من شأننا هنا أن نناقش بالتفصيل الأسلوب الذي اعتمدته هذه الحركات في مواجهة خصومها، غير أننا نود الإشارة إلى أن منطق العصر ومنطق المواجهة ومنطق الإسلام وإن كان يُحتّم امتلاك القوة وأسبابها ولكن بشرط أن يتحقق التوسل بها واستعمالها كجزء من استراتيجية وليس الاستراتيجية كلها.
ولنا أن نثبت هنا ما أشار إليه الشهيد حسن البنا في معرض مناقشته لموضوع استخدام القوة في نطاق العمل للإسلام. قال رحمه الله: (ويتساءل كثر من الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي؟ ولا أريد أن أدعو هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا التساؤل فأقول في وضوح وجلاء، وليسمع من
يشاء: أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
(الأنفال: 60).
ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يُراد بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح.
ولا يصح أن تُوصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك. هذه نظرة، ونظرة أخرى، هل أوصى الإسلام -والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال، أم حدد لذلك حدودًا واشترط شروطًا ووجه القوة توجيهًا محدودًا؟ ونظرة ثالثة، هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟ هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه، رسالة المؤتمر الخامس عام 1357هـ.
· الحلقة الثانية في العدد القادم.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
عبدالعالـي حسانـي: «مجتمع السلم» تتبنى مشروع الوحدة بين أبناء الحركة الإسلامية كافة بالجزائر
نشر في العدد 2182
32
الثلاثاء 01-أغسطس-2023