; نظرات اقتصادية في سورة “الفاتحة” (3) | مجلة المجتمع

العنوان نظرات اقتصادية في سورة “الفاتحة” (3)

الكاتب د. أشرف دوابه

تاريخ النشر الجمعة 01-أبريل-2022

مشاهدات 11

نشر في العدد 2166

نشر في الصفحة 54

الجمعة 01-أبريل-2022

الاستعانة بالله تعالى دعوة للأخذ بالأسباب في كل سلوك اقتصادي لتلبية الحاجات الإنسانية

علم الاقتصاد الإسلامي يوفق بين الحاجات المادية والروحية وما استخلف الله من موارد

المسلم في سلوكه الاقتصادي لا يعرف صراط المغضوب عليهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه

لا منهج للمسلم يقتدي به سوى الاقتصاد الإسلامي مذهباً ونظاماً

توقفنا في المقالة السابقة من «نظرات اقتصادية في سورة الفاتحة» عند قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وقلنا: إن المسلم لا يعبد غير الله تعالى، وهو بذلك يتحرر من عبودية ما سواه سواء أكانت عبودية المال أم البشر، والمسلم كذلك لا يستعين إلا بالله عز وجل ولا يتوكل إلا عليه. 

حسن العبادة من نتاجه حسن الاستعانة، كما أن الاستعانة بالله تعالى تؤدي إلى حسن العبادة، وهذا لا يمنع من الاستعانة بالخلق فيما هو في استطاعتهم؛ فهذا ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، فالله تعالى سخر البشر لwبعضهم بعضاً؛ {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} (الزخرف: 32).

إن الاستعانة بالله تعالى هي دعوة صريحة للأخذ بالأسباب في كل سلوك اقتصادي لتلبية الحاجات الإنسانية التي هي أساس المشكلة الاقتصادية، وهي كذلك نقطة الانطلاق للنشاط الاقتصادي، وآلياته الثلاث من إنتاج وتوزيع واستهلاك، لتلبية تلك الحاجات.

وبهذا، فإن كل عمل اقتصادي يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على الأسباب المؤدية إليه استعانة وتوكلاً على الله تعالى الذي هو مسبب الأسباب دون سواه، فالمسلم عليه بذل الجهد وفق استطاعته وحوله وقوته، وترك النتيجة على القادر على كل شيء، طالباً منه المعونة والتأييد والتوفيق لإتمام وكمال العمل والوصول لثمرته، فطلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل منه المرء طاقته.

كما أن هذه الآية الكريمة هي إنذار للمتواكلين الذين تركوا الكسب باسم عدم الاستعانة بغير الله تعالى زوراً وبهتاناً، فسلوكهم الاقتصادي هذا ليس من سنن الفطرة ولا هدي الشريعة، وصاحبه لا يمكن أن يقال عنه سوى كسول مذموم لا متوكل محمود، وقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم من القراء فرآهم جلوساً قد نكسوا رؤوسهم فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هم المتوكلون، فقال: كلا، ولكنهم المتأكلون يأكلون أموال الناس، ألا أنبئكم من المتوكل؟ فقيل: نعم، قال: هو الذي يلقي الحَبَّ ثم يتوكل على ربه عز وجل، وفي رواية أخرى قال: يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم واكتسبوا لأنفسكم. 

كما أن هذه الآية الكريمة هي إنذار للمغرورين من أهل البغي والبطر، والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق، الذين كوَّنوا الثروات ونسبوا ذلك إلى قدرتهم ناسين أو متناسين قدرة وعناية الخالق الوهاب وفضله، فهؤلاء حالهم كحال قارون وثروته، ومصيرهم هو مصير الهالكين في عاقبة أمرهم. 

الصراط المستقيم

وقد انتقلت الآيات بعد ذلك لسؤال العبد لربه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة: 6)، والخط المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين، ولذلك لا يتعدد، فهو طريق مستقيم واحد يشمل العبادات والمعاملات، أو بمعنى آخر جملة ما يوصلنا إلى السعادة والرفاه في الدنيا والآخرة، وعلم الاقتصاد الإسلامي هو علم يصب في هذا الاتجاه، فهو العلم الذي يوفق بين حاجات الأفراد المادية والروحية وما استخلفهم الله تعالى فيه من موارد وفقاً لأحكام وقيم ومقاصد الشريعة لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة.

إن المسلم في سلوكه الاقتصادي يسأل الله تعالى دائماً أن يلهمه ويوفقه ويرزقه الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، الطريق الذي يسير فيه بمعرفة واستقامة في ممارسة سلوكه الاقتصادي إنتاجاً وتوزيعاً وتداولاً واستهلاكاً، فيحرص على الحلال ويبتعد عن الحرام، بل والشبهات، فيتحقق له ما أراد من الجمع بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة؛ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201).

وهذا الطريق المستقيم هو ذلك الطريق الذي يسير فيه المسلمون لإقامة الصناعة الحسنة والزراعة الحسنة والتجارة الحسنة والاقتصاد الحسن، فترتفع فيه مآذن المساجد مع مداخن المصانع لبناء إنسان مسلم قادر على المساهمة الفعالة في تلبية حاجات المسلمين والخروج من نفق التبعية لغيرهم، فهذا الصراط كما وصفه القرآن الكريم: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} (الفاتحة: 7)، والمنعم عليهم من الله تعالى يدهم عليا لا سفلى، يدهم منتجة لا كسولة مشلولة، وسلوكهم الاقتصادي سلوك الرفعة للأمة لا سلوك التبعية والانغماس في الشهوات، ومعيشتهم معيشة التوازن بين الجسد والروح باعتبار أن الإنسان مركب منهما، وبهما يتحقق الأمن المادي جنباً إلى جنب مع الأمن النفسي.

وإذا كانت الآية الكريمة بينت طائفة المنعم عليهم، فقد حذرت من طائفتي غير المنعم عليهم، وهم: المغضوب عليهم، والضالون، فالمسلم في سلوكه الاقتصادي لا يعرف صراط المغضوب عليهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه وعادوه وتنكبوا طريقه، وعلى رأس هذا النموذج السلوك الاقتصادي لليهود الذين أخذوا الربا وقد نهوا عنه، وأكلوا أموال الناس بالباطل واستحلوا محارم الله بالحيل؛ {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 161).

كما أن المسلم في سلوكه الاقتصادي لا يعرف صراط الضالين الذين أضلوا الطريق وجثموا في ضلالتهم فلم يهتدوا إلى الحق، وعلى رأس هذا النموذج السلوك الاقتصادي للنصارى الذين أكل الكثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل؛ {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (التوبة: 34).

وفي هذا دعوة للمسلم بأن يحرص من خلال سلوكه الاقتصادي على أن يكون في طائفة المنعم عليهم، مبرئاً نفسه من طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، فلا يركن للمذاهب والنظم الاقتصادية الوضعية الرأسمالية والاشتراكية، تلك النظم التي قدست المادية وقتلت القيم الأخلاقية وعجزت عن تحقيق الطمأنينة النفسية للبشرية، فلا منهج للمسلم يسير خلفه ويقتدي به سوى منهج الاقتصاد الإسلامي مذهباً ونظاماً.

كما يجب على المسلم أن يكون حريصاً في كل خطواته على التزام الحلال وتجنب الحرام، بل والشبهات، وعدم اتخاذ الحيل المذمومة له طريقاً فيقع في الربا، كما نرى في واقعنا المعاصر من حيلة التورق المصرفي المنظم الذي ليس له هدف إلا التمويل النقدي للعميل بزيادة نقدية مع توسيط السلعة عينة، وكذلك العينة الإيجارية ببيع عقار أو نحوه بثمن معين ثم إعادة تأجيره لنفس البائع في نفس الوقت تأجيراً منتهياً بالتمليك بثمن أكبر، فضلاً عن حيلة التهرب من إخراج الزكاة بتحويل الشخص ماله المستحق للزكاة لغيره قبل حلول حوله ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني، وغير ذلك من الحيل التي يظن أصحابها أنهم بها يخادعون رب العباد وما يخدعون إلا أنفسهم، أو يظنون أنهم يحسنون صنعاً وقد ضل سعيهم بما اقترفته أيديهم. 

كما أن هذه الآية الكريمة تبحر بنا إلى عمق التاريخ لتبرز أهمية المنهج التاريخي في البحث العلمي وما فيه من فوائد وثمرات اقتصادية من خلال دراسة وتحليل أخبار من قبلنا من الأمم وأسباب سعادتهم وتمكينهم في الأرض أو شقاوتهم وهلاكهم فيها.>

الرابط المختصر :