الثلاثاء 09-أغسطس-1977
قرأت في العددين 345 و346 الموضوع القيم- ثقافة الداعية- للأستاذ يوسف القرضاوي لما احتوى من وصايا وتوجيهات مهمة، إلا أنني عجبت له حينما يتجاهل الأستاذ القرضاوي تفسير الشهيد سيد قطب دون أن يخصه بتفصيل وهو كتاب مهم للداعية وكل الذي قاله القرضاوي: «أما تفاسير المحدثين، فهي كثيرة منها تفسير القاسمي، وتفسير المنار وتفسير ابن عاشور وتفسير ابن باديس وفي ظلال القرآن لسيد قطب والتفسير الحديث لدروزه وتفسير الأجزاء العشرة الأولى لشلتوت- وغيرها، ولا يستغني الداعية عن الاستفادة منها، مع الحذر مما قد يكون فيها من غلو أو تقصير».
ويوحي هذا الكلام بأن هذه التفاسير- بما فيها الظلال- تأتي بالدرجة الثانية بعد تفسير ابن كثير وابن جرير وأنها- بما فيها الظلال- قد يكون فيها غلو أو تقصير يوجب اليقظة والحذر.
ومع أن القرضاوي ذكر أن ابن كثير رحمه الله أطال وأطنب في الروايات العجيبة الغريبة في تفسير سورة (ص) ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص: 34) وهي روايات مأخوذة من أهل الكتاب إلا أنه لم يشر إلى ميزة الظلال الذي خلا بها من الروايات الإسرائيلية خلوًا تامًا إلى غير ذلك من الميزات التي تجعل الظلال في الصف الأول من كتب التفسير، إن لم يكن في مقدمتها على الإطلاق.
لم يعط هذا الكتاب- في ظلال القرآن- حقه ولم يدرس الدراسة الكافية وربما ظنه كتَّابنا اليوم أنه لم يأت بجديد وأن علم السيد- رحمه الله- كعلمهم فلم يقرأوه. إن أصدقاء السيد الذين عرفوه شخصيًا قد لا يعلمون إلا القليل عن ظلاله ولكن تلامذة السيد- رحمه الله- هم أعلم الناس بالظلال. قبل تسع سنوات تقريبًا أردت أن أقرأ تفسير القرآن فعرض علي تفسير ابن كثير فقرأت منه كما أتذكر 163 صفحة في الجزء الأول ولم أستطع أن أتابع، وكنت حينها شابًا مغترًا لم يدخل الإيمان بعد في قلبي. وعدت أحمل هذا التفسير لصديقي لأخبره بالأمر فطلب مني قراءة مقدمة الظلال، ولم أكن قد سمعت عن سيد رحمه الله سوى الإشاعات والاتهامات من خيانة الوطن وتعامل مع أعدائه. وقرأت المقدمة فاهتز كياني كله وارتعشت أوصالي كلها، وقد تغيرت حياتي كلها بعد ذلك؛ وذهبت لأشتري هذا الكتاب، وأذكر أنني اقترضت المبلغ من قريب لي شجعني وبارك لي هذه الخطوة، وعكفت على قراءة هذه المجلدات حتى شعرت بأنني ولدت من جديد وأنني أقرأ قرآنًا غير الذي عهدته.
لا بد وأن يدرس- في ظلال القرآن- في المدارس والجامعات، ولا بد أن يعتبر جزءًا من مادة الدين المقررة على الطلبة.
إن الذي يقرأ مقدمة الظلال يشعر بعزة نفسه كمسلم وبكرامته كإنسان، والذي يقرأ الظلال يعرف دوره كمؤمن وداعية في دنيا الناس.
إن سيد الذي رفض مناصب أهل الأرض ولذائذ الدنيا واختار إلا أن يكون شهيدًا في سبيل الله، لا يمكن أن يفسر بهواه، وإن سيد الذي وهب نفسه لخدمة الإسلام وعاش عزيزًا في ظل الإسلام لا يمكن أن يتعصب لشيء سوى الإسلام، وقد وصفته مجلة الدعوة فقالت: «وافر الأدب عن خلق رضي وطبع أبي... متواضع جم التواضع عن نفس راضية وفطرة سامية، كان ساكنًا سكون النسمة المنعشة ثائرًا ثورة الإعصار الهائج إذا جلست إليه أدهشك وقاره وعذب حديثه... ساكن وديع يطوي بين جنباته نفسًا تأبى الذل والخضوع وترفض المداورة والرياء...
لم يحرق البخور في ركب الطغاة ولم يصدر الفتوى قربى في ميدان النفاق ولم يزيف الكلمة سعيًا للجاه أو رضا السلطان».
وتفسير السيد- رحمه الله- تفسير رواية ورأي إضافة إلى التفسير الإشاري البديع الذي يتخلله هنا وهناك. وميزة هذا التفسير:
1- كتفسير بالمأثور، فإن سيد- رحمه الله- حرص كل الحرص أن يعتمد على الروايات القويمة خاصة الأحاديث الصحيحة وغالبًا ما ينقل تحقيق ابن كثير وابن جرير. وهو- رحمه الله- يرفض كل الرفض الانشغال في الإسرائيليات والأقوال الباطلة أو الروايات التي لا تفيد شيئًا سوى ذكر الأسماء والتواريخ والتي غالبًا ما تكون منقولة عن أهل الكتاب.
ففي تفسير قوله ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ ...﴾ (المائدة: 27) كتب ابن كثير ما يقارب الصفحتين يذكر فيهما أقوال بعض الصحابة في تفسير هذه الآية، وهذه الروايات التي ذكرها ابن كثير، وقال عن بعضها إسنادها جيد، قد سمّت الابنين بقابيل وهابيل، وفسرت سبب نزاعهما وطريقة تقبل القربان ونوع القربان؛ إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنفع شيئًا، بل قد تشوش القارئ ويعتقد أو يجزم بصحتها.
أما سيد رحمه الله فقد قال:
«ولا يحدد السياق القرآني لا زمان ولا مكان ولا أسماء القصة، وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن- قابيل وهابيل- وأنهما أبناء آدم في هذه القصة، وورود تفصيلات عن القضية بينهما والنزاع على أختين لهما، فإننا نؤثر أن نستبقي القصة-كما وردت مجملة بدون تحديد؛ لأن هذه الروايات كلها موضع شك في أنها مأخوذة عن أهل الكتاب- والقصة واردة في العهد القديم محددة فيها الأسماء والزمان والمكان على النحو الذي تذكره هذه الروايات- والحديث الوحيد الصحيح الوارد عن هذا النبأ لم يرد به تفصيل. وهو من رواية ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل» (رواه الإمام أحمد في مسنده)، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله ابن مسعود، وأخرجه الجماعة- سوى أبي داود- من طرق عن الأعمش... وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الحادث وقع في فترة طفولة الإنسان وأنه كان أول حادث قتل عدواني متعمد، وأن الفاعل لم يكن يعرف طريقة دفن الجثث... وبقاء القصة مجملة- كما وردت في سياقها القرآني- يؤدي الغرض من عرضها ويؤدي الإيحاءات كاملة، ولا تضيف التفصيلات شيئًا إلى هذه الأهداف الأساسية... لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله».
ثم يفسر سيد هذه الآيات تفسيرًا جميلًا مبينًا ما توحيه هذه القصة دون ذكر أسماء وزمان ومكان هذه القصة.
وقد سلك سيد رحمه الله نفس هذا المسلك في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص: 34) وآيات كثيرة أخرى.
2- وأما في رده على الآراء الفاسدة والغريبة في تفسير بعض الآيات، فإن سيد رحمه الله يشير إليها دون ذكرها مفصلة كما يفعل ابن كثير. وليس هناك أجمل من رده على بعض المفسرين في اختلاق قصة الغرانيق في تفسير سورة النجم وفي رده على الأستاذ محمد عبده في تفسيره لسورة الفيل وتأويل الطير الأبابيل بالبعوض أو الذباب.
3- أما بما يتعلق بأسباب النزول فإن سيد رحمه الله غالبًا ما يشير إليها معتمدًا على تحقيق ابن كثير وابن جرير أحيانًا، إلا أنه دائمًا يؤكد أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب، وأن هذا القرآن أنزل ليكون دستور المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليس لفترة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقط.
4- أما فيما يتعلق بآيات الأحكام فإنه- رحمه الله- يفسرها بشيء من التفصيل وبطريقة سهلة دون الخوض في الفروع أو ذكر الخلافات حتى لا يبتعد القارئ عن المعنى وتنسيه الخلافات جمال القرآن على أن تطلب هذه التفصيلات من كتب الفقه عند الحاجة... انظر إلى تفسيره قوله سبحانه وتعالى ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ (المائدة: 4) وقوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ...﴾ (النساء: 23) وقوله ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ (النساء: 43).
5- وكتفسير بالرأي فليس كمثله تفسير على الإطلاق، لا يداخله هوى ولا تطرف. والظلال موسوعة، جمعت الشواهد التاريخية والأقوال الجميلة. انظر إلى تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ (التوبة: 7) وهو يعرض الشواهد التاريخية عن المغول والهند في حربها المسلمين والدول الشيوعية، مما يشدك إلى معنى الآية ويقويه في النفس. وانظر إلى جمال تفسيره لآيات تحريم الخمر وذكره للمجتمعات المبتلية بهذا الوباء وكيف حاولوا تحريمه ففشلوا كالسويد وأمريكا. انظر إليه وهو يفسر الآيات العلمية دون أن يشطح أو أن يعتبر العلوم البشرية غير الثابتة مادة لتفسير كلام الله. انظر إليه عندما يتكلم عن الحكمة وراء كل تشريع وحادث. قال سيد رحمه الله صفحة 385 المجلد الثاني الطبعة الخامسة:
«وهكذا ... إذا رحنا «نحدد» حكمة كل عبادة وحكمة كل حكم ونعلله تعليلًا وفق- العقل البشري- أو وفق- العلم الحديث- ثم نجزم بأن هذا هو المقصود ... فإننا نبعد كثيرًا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه كما نبعد كذلك عن الحد المأمون، ونفتح الباب دائمًا للمماحكات فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل.
وهنا في موضوعنا الحاضر- موضوع التيمم- يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي مجرد النظافة وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه الحكمة فلا بد إذن من حكمة- أخرى- للوضوء أو الغسل، تكون متحققة كذلك في «التيمم» ... ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم ولكننا نقول فقط إنها- ربما- كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم، ومن ثم يقوم التيمم- في هذا الجانب- مكان الغسل أو مكان الوضوء.
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف، بدخائل النفوس ومنحنياتها ودروبها التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير، ويبقى أن نتعلم نحن شيئًا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير ...».
وسيد رحمه الله يعتذر أحيانًا إذا لم ير تفسيرًا للآية فلا يطنب ويفسر كيفما شاء ففي قوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 93) يقول سيد رحمه الله:
«ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على هذا النحو وتكرار التقوى مع الإيمان والعمل الصالح، ومرة مع الإيمان ومرة مع الإحسان... كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الآن وأحسن ما قرأت- وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح- هو ما قاله ابن جرير الطبري «الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل»... وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو: «إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال؛ فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية، ومرة مع الإحسان- وهو العمل الصالح- في الثالثة... ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى، ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني؛ فالتقوى... تلك الحساسية المرهفة برقابة الله والاتصال به في كل لحظة، والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة، والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها... هذه هي مناط الحكم، لا الظواهر والأشكال... وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان» وأنا اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضًا... ولكنه لم يفتح عليَّ بشيء آخر والله المستعان ...».
6- وللسيد رحمه الله لفتات جميلة في كثير من المواضع تعد تفسيرًا إشاريًا، وهذا النوع من التفسير يفتح الله به صدور بعض الأولياء الصالحين فيخرجوه لنا، ولا شك أن سيد رحمه الله ممن استحقوا رحمة الله ففتح عليهم ما لم يفتح لغيرهم. ومن بين هذه الإشارات اعتباره لآية سورة النحل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ (النحل: 67) الآية الأولى في سلسلة آيات تحريم الخمر تأتي بعدها ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ (البقرة: 219) فهذه الآية دلت على أن السكر شيء آخر غير الرزق الحسن، وفي سورة النجم في تفسير سجود المشركين مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- يفسر سيد هذه الواقعة بواقعة مشابهة حدثت له عندما سجد متأثرًا بسماع هذه السورة دون أن يشعر بما فعل فيأول سجودهم بتأثرهم بسياج هذه السورة، خاصة وأن القارئ كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإنهم يتذوقون العربية أكثر منا مستشهدًا بحوادث من السيرة تؤكد سر القرآن وتأثرهم ببلاغته وجمال صياغته.
وفي القصة المشهورة قصة الرجل القبطي مع ابن عمرو بن العاص حين تسابقا فضربه ابن عمرو لأنه سبقه والتي يستشهد بها الرواة على عدل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فإن لسيد قطب إشارة أخرى عميقة وجميلة؛ فعند سيد رحمه الله أن هذه القصة توحي إلى شيء آخر غير عدل عمر رضي الله عنه.
إن هذا القبطي وقومه كانوا لعهد قريب تحت حكم الروم وقد استعبدهم الروم وربما لا زالت آثار سياط الروم باقية في ظهور قومه، فلم يحتج منهم أحد على الروم ولم يحاولوا أن يثأروا لأنفسهم لأنهم ما كانوا يعرفون للكرامة طعمًا، وما إن دخل الإسلام في أرض مصر حتى تعلموا هذه الكرامة من الإسلام، فجعلت هذا القبطي يقطع هذه المسافة من مصر إلى المدينة يثأر لكرامته التي داسها ابن عمرو أو بكلمة ... وأنا ابن الأكرمين.
7- وما يتميز به أسلوب سيد رحمه الله الروحانية العالية في كتاباته مثله مثل الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه- الجواب الكافي- وهذا الأسلوب يشد القارئ ويزيده تعلقًا بمعنى الآية، بل يزيد القارئ تقوى، فإذا وصف الرسول- صلى الله عليه وسلم والصحابة- رضوان الله عليهم- أحسست وكأنك تعيش بينهم فتزداد حبًا لهم وحرصًا على السير في طريقهم، وإذا وصف الجنة قربها إليك حتى تشتاق لأن تكون من أهلها، وإذا وصف النار استعذت بالله منها، وهو ينقل لك ما كتبه في كتابه القيم- مشاهد القيامة في القرآن-، وروحانية سيد تظهر بشكل واضح عندما يتكلم عن صفات الله عز وجل وعن أخلاق المصطفى- عليه الصلاة والسلام- وعن الوحي، حتى إن قلمه قد يسرح فينقل ما في قلبه من شعور كما في تفسيره لقول الله عز وجل في سورة الشورى ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، (الشورى:51) إن سيد في تفسيره لهذه الآية ينقلك إلى فترة الوحي، ليصور لك الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يستقبل كلام الله، والآثار التي شهدها بعض الصحابة عن الوحي، بأسلوب رائع وإنك لتحس من خلال كلمات سيد المتقطعة عظمة هذا اللقاء، لقاء يبشر بوحي الله، عظمة هذه الصلة، صلة البشر الضعيف بالله الذي ليس كمثله شيء. لقد قرأت تفسير هذه الآية لنفسي ولغيري أكثر من خمس مرات، ولا زلت أتوق لقراءتها كلما وقع في يدي المجلد السابع من الظلال.
8- احتواء الظلال على السيرة مفصلة من خلال تفسيره الآيات، ويعرض سيد رحمه الله هذه السيرة سيرة المصطفى- عليه الصلاة والسلام- والصحابة- رضوان الله عليهم- بأسلوب رائع لم أشهده من قبل في كتب السيرة جميعًا. انظر إلى تفسير سورة آل عمران وهو يكتب مائة صفحة تقريبًا عن معركة أحد. انظر إليه وهو ينقلك إلى جو الصحابة من خلال واقعة الثلاثة الذين خلفوا، وواقعة حاطب بن أبي بلتعة وحادثة الإفك. وسيد رحمه الله على كثرة ما كتب عن ذلك الجيل يشير إلى أن ذلك الجيل لم يعط حقه من الدراسة، ويسميه «جيل متفرد».
«لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن، ومن نوره ومن فرقانه ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل، ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان، لقد عاشوا بهذا القرآن، وعاشوا له كذلك... ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى في التاريخ كله... اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب».
9- ولئن كان عنوان محاضرة الأستاذ يوسف القرضاوي هو ثقافة الداعية، فكان الأولى أن يكون التفسير الأول المرشح للداعية هو تفسير سيد قطب رحمه الله؛ لأنه كتاب تفسير ودعوة، بل هو الكتاب الأول الذي جمع بين التفسير والدعوة.
انظر إليه وهو يربط بين دعوة الرسل ودعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- والصحابة لتكون منهجًا للدعاة... انظر إلى تفسير سورة يوسف- عليه السلام- وهو يعرضها كفيلم سينمائي فيصور سيدنا يوسف كمثال للداعية الحقيقي في السجن كان أو على كرسي العرش.
وهل هناك أجدر من سيد- هذا اليوم- ليكتب عن الدعوة والدعاة فهو مثال الداعية، وتحمل في سبيل الدعوة صنوفًا من العذاب ما لا يطيقه إلا مثل سيد، ثم استحق الشهادة ولا تعطى الشهادة إلا لمن استحقها.
ووقع اختيار الله عليه ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 140).
10- وسيد- رحمه الله- عرّف الشرك وبين معانيه الدقيقة التي قد تخفى على الكثير ... وعرّف الجاهلية وصورها.
«وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر لا تبصر، فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر الوطن، والقوم والإنتاج، والآلة وحتمية التاريخ إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة، والذي يبصر منها ويسمع- وهي الآلهة المدعاة من البشر، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم- هي كذلك لا تسمع ولا تبصر ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179). إن صاحب الدعوة إلى الله، إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة... وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يقول ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف:195-197) فإنما هم هم في كل أرض وفي كل حين».
وإنك لترى تعريف الشرك والجاهلية في كل سورة يفسرها سيد من فاتحة الكتاب إلى خاتمته.
11- ومن ميزات الظلال إظهار إعجاز القرآن خاصة ذلك الإعجاز البلاغي في الأسلوب الذي خالف به كل أساليب العرب القديمة وسحر به قلوبهم، ذلك النوع من الإعجاز الذي تفرد به سيد- رحمه الله- في توضيحه كما ذكر- رحمه الله- في كتابه القيم- التصوير الفني في القرآن- وهو كتاب لا بد وأن يدرس في المدارس ليستشعر أبناء المسلمين جمال القرآن وسحره وإعجازه.
12- ومن ميزات تفسير سيد- رحمه الله- أنه يقدم لكل سورة مقدمة تعطي للسورة شخصيتها وعموم موضوعها لترتسم للقارئ صورة كاملة للسورة منذ البداية حتى لا يتيه في معاني الآيات فينسى الغرض الرئيسي من السورة وموضوعها. ولسيد- رحمه الله- نظرة عجيبة بالنسبة لسور القرآن؛ فهو يرى أن لكل سورة شخصيتها الخاصة بها وطابعها الخاص وأسلوبها الخاص وموسيقاها الخاصة التي تميزها عن غيرها من السور. وهذه النظرة إن دلت على شيء فإنما تدل على فهمه المتكامل للقرآن وإحاطته بكل جوانبه البلاغية، وكأنما سور القرآن قد سجلت بشريط مسجل محفوظ في ذاكرته.
وأخيرًا أقول بأن سيد بشر، مهما يكن فهو بشر، قد يخطئ إلا أن ذلك لا يقلل من شأن ظلاله فهي موسوعة أضيفت إلى المكتبة القرآنية لا يستغنى مسلم عنها ولا يحق لمسلم أن يتجاهلها أو يقصر فيها.
لقد كان سيد- رحمه الله- بحرًا في العلوم وقمة في الإيمان عاش كما يعيش الصحابة عزيزًا كريمًا شريفًا بعيدًا عن الرياء والغلو أو التقصير.
رحم الله سيد وأسكنه فسيح جناته وهدانا الله لاتباع الحق وهو أرحم الراحمين.
أخوكم- أبو أسامة
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالفكر المقاصدي عند القرضاوي (2 - 2) تجليات المقاصد في المجالات المختلفة
نشر في العدد 2173
27
الثلاثاء 01-نوفمبر-2022
الشيخ يوسف القرضاوي في محاضراته- الهجرة إِلى أين؟ (الحلقة الأخيرة)
نشر في العدد 334
18
الثلاثاء 25-يناير-1977
الشيخ يوسف القرضَاوي في محَاضرته: "الهجَرة إلَى أين" يقول:
نشر في العدد 332
21
الثلاثاء 11-يناير-1977