العنوان الشيخ يوسف القرضاوي في محاضراته- الهجرة إِلى أين؟ (الحلقة الأخيرة)
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 25-يناير-1977
مشاهدات 19
نشر في العدد 334
نشر في الصفحة 32
الثلاثاء 25-يناير-1977
لا بد من أخذ الإسلام كل.. الإسلام وصفه متكاملة.. الإسلام كل لا يتجزأ.. أراد بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام ويستمسكوا ببعض شرائعهم القديمة.. مثل تحريم السبت أو نحو ذلك فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (البقرة: ٢٠٨).
أي في شرائع الإسلام جملة لا تدعو شيئًا منها وخاطب الله رسوله وكل من يقوم بأمر الأمة أيضًا من بعده فقال:
﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: ٤٩).
كان لا بد من الأخذ بكل ما أنزل الله أما أن نتخير أما أن نستدرك على الله أما أن نقول نحن أعلم من الله نعطل النواحي الجنائية ونأخذ النواحي المدنية أو نأخذ ما يسمى بالأحوال الشخصية ونترك الأمور الدستورية أو نأخذ ناحية وندع ناحية لا... لا يقبل الله منا هذا لا بد أن نؤمن بالكتاب كله وأن نأخذ بالكتاب كله وأن نأخذ بالإسلام وحدة لا تتجزأ... الهجرة التي نريدها هي هجرة من هذه الجاهلية إلى الإسلام الحقيقي.. هجرة فكرية من مفاهيم دخلت علينا ووفدت إلى ديارنا فغزتنا في عقر دارنا وضللت كثيرًا من شبابنا فوجدنا في ديار الإسلام من يتسمى محمد وأحمد ومحمود وحسن وحسين ومع هذا يحملون رؤوسًا غير مسلمة، رؤوس صنعت هناك في أوروبا أو في أمريكا أو روسيا أو بلغراد.. أو في غيرها، أسماء إسلامية وعقول غير إسلامية وقلوب غير إسلامية.. لا بد أن نتحرر من هذا الغزو الفكري الدخيل.. هذا هو التحرر الحقيقي... التحرر من هذه التبعية الثقافية والفكرية... من هذا الاستعمار، الاستعمار ليس هو احتلال الأرض، فاحتلال الأرض ليس شيئًا بجوار احتلال الرأس والقلب، احتلال الفكر والشعور لا بد من هجرة فكرية وهجرة شعورية فنحب ما أحب الله ورسوله ونبغض ما أبغض الله ورسوله وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
تصبح أهواؤه وميوله ومشاعره محمدية قرآنية إسلامية...
هكذا ينبغي أن يكون المسلم هجرة بالفكر والشعور والسلوك هجرة بالسلوك فندع سلوك الجاهلية التي غذتنا وخالطتنا إلى سلوك إسلامي نلتزم فيه بالإسلام في أنفسنا وفي أسرنا وفيمن حولنا ثم ندعو إلى الإسلام، كل مسلم لا بد أن يكون داعية إلى الإسلام وإذا كان لازمًا في كل حين وإذا كان كل مسلم مخاطبًا بقوله تعالى:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: ١٢٥).
فإن ألزم ما يكون اليوم حينما غابت دولة الإسلام وأمة الإسلام ووحدة الإسلام، ألزم ما تكون الدعوة إلى الإسلام.
الدعوة الآن هي الهجرة الحقيقية هي البديل للهجرة الجماعية المسلمة فإذا لم تقم في شكل دولة يجب أن تقوم في شكل أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر كما قال تعالى:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٤).
والأمة ليس مجرد أفراد لا تسمى الأمة أمة إلا إذا كانوا أفرادًا بينهم رابطة ولهم قوة وقدرة حتى يطلق عليهم أمة لا بد من هذا يا أيها الإخوة أن الإسلام لا ينتصر وحده، هذه سنة الله.. الإسلام إنما ينتصر بالرجال، بل كل المبادئ سواء كانت حقًا أو باطلًا إنما تنتصر برجال وقديمًا قال الشاعر:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا
إذا لم يكن فوق الكرام كرام
ماذا تصنع فرس بدون فارس لا بد إذا للسيف من بطل يضرب به.. كذلك الدين العظيم يحتاج إلى رجال عظماء يكافئون عظمته، يؤمنون به ويعملون له ومن هنا قال الله تعالى لرسوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: ٦٢).
ومن هنا كانت حاجتنا أولًا إلى المؤمنين، الله أيد رسوله بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار إن المصنع الذي صنع هؤلاء لا زال قائمًا إن المدرسة التي خرجتهم لا زالت موجودة مدرسة الإسلام، القرآن، الكتاب والسنة، السيرة النبوية، وسيرة سلف هذه الأمة هي المصادر التي نستقي منها لنربي جيلًا نموذجيًا جديدًا. المهاجرين والأنصار يمكن أن يتبعهم غيرهم ولهذا نجد القرآن يتحدث عن المهاجرين والأنصار فيقول:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾ (التوبة: ١٠٠).
يفتح الباب، باب الأمل كي يكون هناك اتباع بإحسان ومتبعهم بإحسان هذه تشمل كل من يتبع منهجهم إلى يوم القيامة والذين اتبعوهم بإحسان في سورة أخرى.
يقول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الحشر: 8، ٩).
ثم يقول: ﴿الَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ (الحشر: ١٠).
وما يفتح الباب لمن يجيء بعد الذين جاءوا من بعدهم لا ينفصلون عمن سبقهم وإن فصلتهم المسافات الزمنية، فالرابطة الإيمانية باقية لا تجعل هناك فجوة ولا هوة بين اللاحق والسابق مهما طال الزمن وامتدت القرون. ولهذا روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل أمتي كمثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره»، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «مر بجماعة من أصحابه فسألهم: أي الخلق أعجب إليكم إيمانًا؟ قالوا: الملائكة: قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم لا غرائز ولا شهوات ولا مغريات ما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم. قالوا: فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم. قالوا: فنحن قال: وما لكم لا تؤمنون ورسول الله بين أظهركم قالوا: فمن؟ قال: أعجب الخلق إيمانًا قوم يأتون من بعد يجدون كتابًا بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم أجرًا».
إنه يفتح باب الأمل للعاملين في زمن الفتن حيث يصير القابض على دينه كالقابض على الجمر، الزمن الذي يواجه فيه فتنًا كقطع الليل المظلم كما وصفها الحديث، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
إن الذي صنع المهاجرين والأنصار من قبل يستطيع أن يصنع مهاجرين وأنصارًا من بعد. إن القافلة تسير وإن الإسلام لا يتوقف، هذا ما نعرفه على مدار التاريخ، إن أصلب ما كان الإسلام عودًا وأصفى ما كان جوهرًا حينما تصيبه الشدائد والأزمان، رأينا ذلك في أيام الردة، ورأينا ذلك في أيام الصليبيين، ورأينا ذلك في أيام التتار ورأينا ذلك في مقاومة البلاد الإسلامية للاستعمار الحديث والصليبية الحديثة واليهودية الحديثة.
المهم أن نعود إلى الإسلام، أن نستمسك بالإسلام، لأنه سر قوه هذه الأمة.
إن الشيء الوحيد الذي يحيي هذه الأمة من موات ويجمعها من شتات ويحركها من هموم ويشعل فيها الجذوة من جديد هو الإسلام، ولا أدري لماذا لا تعود أمتنا إلى الإسلام هذه هي الهجرة التي ينبغي أن تكون أن نهاجر إلى إسلام حقيقي، الإسلام الذي نزل به الكتاب والذي بلغه الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه والذي فهمه أصحابه عنه وطبقه الراشدون المهديون لا إسلام البدع ولا إسلام التحريف ولكن الإسلام النقي المصفى من كل شائبة هذا هو ما ندعو إليه وهذا وحده هو مناط سعادتنا مهما حاول المحاولون أن يذهبوا إلى الشرق أو الغرب يستوردون حلولًا لمشكلاتنا فلن يجدوا حلولًا إنما سيعالجون مشكلة بمشكلة وداء بداء وقد قال الشاعر:
إذا استشفيت من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
وقال الآخر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن
قضاء، ولكن كان غرمًا على غرم.
لا حل لمشكلاتنا إلا بالعودة إلى الإسلام، أن نعود إلى الإسلام نفقهه حق الفقه ونلتزم به حق الالتزام ونتخذه دستور حياتنا وسفينة الخلاص وحبل النجاة لا نجاة بغيره ولا خلاص بسواه لا تتحد هذه الأمة إلا بالإسلام، إذا اتخذوا منهجًا من الشرق أو من الغرب سيتفرقون إلى يمين وإلى يسار واليمين درجات واليسار درجات هناك يمين اليمين ووسط اليمين ويسار اليمين واليسار ويسار اليسار وسط اليسار ويمين اليسار، هؤلاء يتجهون إلى موسكو هؤلاء إلى بكين وهؤلاء إلى بلغراد وهؤلاء إلى واشنطن وهؤلاء إلى لندن وهؤلاء إلى باريس.
تتعدد القبلات والاتجاهات والولاءات ولا خلاص لهذه الأمة إلا بالمنهج الواحد، على العقيدة الواحدة وصدق الله العظيم: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٣).
أيها الإخوة:
هذه هي الهجرة التي نريدها والتي نعمل لها وندعو إليها ونسأل الله تعالى أن يجعل لنا حظًا من المهاجرين والأنصار ومن أخلاق المهاجرين والأنصار ومن تضحيات المهاجرين والأنصار ومن أخوة المهاجرين والأنصار التي أمتن الله بها في كتابه فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: ٦٢، ٦٣).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل