العنوان نظرة إلى مشهد ما بعد المحرقة
الكاتب د. عبد الله الأشعل
تاريخ النشر السبت 24-يناير-2009
مشاهدات 12
نشر في العدد 1836
نشر في الصفحة 10
السبت 24-يناير-2009
نقطة البداية في تصور عالم ما بعد محرقة غزة تستند على وحدة الموقف الفلسطيني الذي لا بد أن يقوم على الاتفاق على خط واحد تلتف حوله جميع القوى
إن دماء الشهداء واتساع الدمار الذي اتخذه الصهاينة أداة للضغط على المقاومة يجب أن يكون دافعا لمراجعة الموقف العربي من عملية السلام برمتها.
لا بد أن تكون الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني أساساً لتعقب الحكومات والمنظمات المجرمين الصهاينة أمام المحاكم الدولية والوطنية.
نقطة البداية في تصور عالم ما بعد محرقة غزة يستند إلى وحدة الموقف الفلسطيني الذي يجب الا يبنى من خلال القفز على المتناقضات وإنما لابد من الاتفاق على خط واحد تلتف حوله جميع القوى الفلسطينية في الداخل والخارج.
إن هذا الموقف سوف تمليه نتائج المجزرة في «غزة» وانتقال المشروع الصهيوني إلى مرحلة الدولة اليهودية، ولذلك لابد أن يكون الفلسطينييون على قلب رجل واحد، ثم يكون الحضن العربى حاميا للحمة الفلسطينية، مدافعا عن هذا الجزء من الجسد العربي وعند هذا الحد ينطلق الموقف الفلسطيني والعربي تجاه الكيان الصهيوني والعالم، لأن المرحلة الجديدة يمكن أن تؤدي إلى اجهاض نتائج المقاومة إذا وقعت الدول العربية في فخ الحرب الباردة العربية فتنصرف عن الكيان الصهيوني إلى صراعاتها الداخلية. وقد كشف المشهد في «غزة» عن ملاحظات أساسية، لا يمكن استشراف موقف ما بعد «غزة» دون التوقف عندها .
الملاحظة الأولى: هي أن الكيان الصهيوني استخدم كل ترسانته في عمل بدا عسكريا، ولكنه اتخذ منذ اللحظة الأولى عملية إبادة كاملة وحرق لـ «غزة»، بحيث يقدر الخبراء أن الضرر الذي أصاب غزة لن يقف عند أرقام الشهداء والجرحى الذين يلحق معظمهم بالشهداء بسبب فداحة الجراح أو عدد المباني التي هدمت. ولكن الضرر لحق البيئة اللازمة لحياة الإنسان، فضلا عن أحوال الفزع التي أصابت حتى الذين شاهدوا مشاهد الإجرام الصهيوني»، وأن هذا الضرر قد لحق بكل سكان غزة بلا استثناء، وربما لعشرات السنين، فضلا عن سكان المدن المصرية المحاذية لشريط الحدود مع «غزة».
الملاحظة الثانية: هي حالة الصمود الأسطورية التي كانت عليها المقاومة رغم ضعف إمكانياتها، خاصة بعد ثلاث سنوات من الحصار والمقاطعة وتجفيف منابع الحياة.
وكان واضحاً أن هدف تنفيذ الخطة بإحكام هو دفع سكان غزة إلى الخروج على «حماس» أو الهجرة منها إلى غيرها، وأن إحراق غزة بمن فيها كان البديل الصهيوني بعد فشل الحل الأول، وتزداد قيمة المقاومة إذا لاحظنا عنفوان الجيش الصهيوني ومواقف السلطة الفلسطينية ورئيسها وبعض الدول العربية.
الملاحظة الثالثة: هي أن الكيان الصهيوني استخدم في غزة كل أنواع الأسلحة، وحارب بكل الحقد والغل ضد الفلسطينيين حرب إبادة لكل مظاهر الحياة مدعوما بالغرب عموما وعلى رأسه الولايات المتحدة دعما سياسيا وعسكريا، بل أدت بعض المواقف العربية - ربما بقصد أو بغير قصد - إلى دعم الموقف الصهيوني.
الملاحظة الرابعة: إن الكيان الصهيوني قدم عدة أهداف لهذه العملية، وكلها تدور حول «حماس»، سواء بالتخلص منها أو من أثرها على الساحة الفلسطينيية، فيما عبر عنه المسؤولون الصهيونيون بضرورة تغيير القواعد الأمنية أو قواعد اللعبة السياسية.
أما على الصعيد السياسي فقد أصر الكيان الصهيوني على أن القضاء على «حماس» هو أكبر عمل في سياق مكافحة الإرهاب، وأن تصرف الكيان الصهيوني هو رد فعل على الفعل «الإرهابي» الأكبر وهو العدوان على سكان الكيان الصهيوني بصواريخ المقاومة وأن هدف العملية مشروع وهو إسكات مصادر العدوان.
بل إن بعض المسؤولين الصهاينة توسع في هدف المهمة وهو إعادة صياغة المنطقة، بحيث يسودها السلام وإزالة منغصات الاستقرار فيها .
والمعلوم أن دولة الكيان الصهيوني التي قامت أصلا بشكل غير مشروع، تحاول أن تضفي المشروعية على تصرفاتها أحيانا بتفسير معين لأحكام القانون الدولي وأحيانا أخرى بابتداع أحكام لا علاقة لها بالقانون الدولي أصلا وهي تظن أنها تطور هذا القانون وفق مقتضيات الواقع.
فدرجة الدمار الذي ألحقه الكيان الصهيوني بغزة لا علاقة له مطلقا بما تتذرع به، فالمعلوم أن للدفاع الشرعي ضوابط، أهمها التناسب بين الفعل الأصلي وهو استمرار الاحتلال ثم العدوان، وبين المقاومة التي ترد على هذا الفعل. ولذلك فإن الكيان الصهيوني يحاول أن يعتبر كل هذا الدمار لغزة ردا على صواريخ المقاومة ومع ذلك لن يوقف الكيان الصهيوني الدمار إذا أوقفت المقاومة صواريخها. صحيح أن الكيان الصهيوني يريد القضاء على «حماس» حتى ينفرد هذا الكيان بالتسوية مع السلطة التي لا تملك أي أوراق للضغط على الكيان الصهيوني، وهذا هو معنى أن الكيان الصهيوني يريد تغيير قواعد اللعبة وهو يدرك أن «حماس» مجرد عنوان لتمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه المشروعة، وقد يأتي عنوان آخر، ولكن يظل هناك خطان أحدهما : ينشد التسوية بلا أوراق، والآخر ينشد التسوية من خلال أوراق الضغط والمقاومة.
الملاحظة الخامسة: إن العالم كله بدأ يراجع موقفه بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من الصمود الأسطوري، يوازيه كل هذا الدمار البربري الذي ألحقه الكيان الصهيوني بسكان غزة، مما أسقط جميع الذرائع الصهيونية وأظهر الكيان الصهيوني وقد سقطت أغطية الشرعية الأخلاقية والقانونية عنه، ونشطت منظمات أجنبية لمحاكمة المجرمين الصهاينة أمام القضاء في مختلف الدول.
المشهد الفلسطيني والعربي والدولي بعد «غزة»
من الواضح أن صمود المقاومة يقابله جهود عربية ودولية لوقف العدوان، كما بدأت تظهر مؤشرات على الحالة العربية والفلسطينية والدولية بعد غزة، ولكن هذه المسارح الثلاثة سوف تتأثر نسبيا بهزيمة أهداف العدوان أو بانكسار المقاومة بعد أن أدت واجبها بامتياز بمساندة الشوارع العربية والأجنبية، التي ولاشك يجب أن يتم ترجمة نبضها إلى قرارات سياسية، على افتراض أن العالم العربي يريد وقف العدوان والتأسيس المرحلة جديدة تؤدي إلى زوال الاحتلال ووقف المشروع الصهيوني الذي أفرز المقاومة، ثم تتم تسوية شاملة مع الكيان الصهيوني على أساس قبول المقاومة لوجود الكيان الصهيوني في حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧م، وهو ما أكده خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» في قمة الدوحة يوم ١٦/١/٢٠٠٩م ولا عبرة لاحتلال الكيان الصهيوني لعدد من محاور غزة مادامت المقاومة موجودة؛ لأن إنهاء المقاومة تماماً - أي الجناح العسكري في غزة - ستكون عند الكيان الصهيوني حسابات أخرى.
على المستوى الفلسطيني تمسكت السلطة بأنها الطرف الآخر في المعادلة مع الكيان الصهيوني، رغم أن الطرف الآخر هو المقاومة، ولذلك فإن من أهم مزايا قمة الدوحة أنها أسمعت العالم صوت المقاومة وهذا هو السبب الحقيقي في اعتذار أبو مازن عن حضورها ، وليس تلك الذرائع التي نقلها عنه رئيس وزراء قطر في المؤتمر الصحفي عقب القمة، بل ومهاجمة مستشار أبو مازن لقمة الدوحة، واتهامها بأنها تفتيت للصف العربي المهترئ أصلاً. وكان مفيداً أن يعلن رئيس وزراء قطر أن قرارات الدوحة أفكار أمام قمة الكويت وليست التزاما عليها .
ومن الواضح أن صمود المقاومة طيلة هذه الفترة قد أظهرت التناقض بين منهج التسوية السياسية بغير أوراق كما تريد السلطة، والتسوية من خلال المقاومة كما تصر المقاومة، ولذلك نعتقد أنه لابد من بذل الجهد لتطوير أدوات ووسائل جديدة التوحيد الموقف الفلسطيني، فإذا كان أبو مازن عاجزاً عن مغادرة رام الله بغير تصريح صهيوني، فكيف يملك القدرة على انتزاع حقوق للفلسطينيين. ولكن ظاهر الأحوال وبصرف النظر عن التصريحات المطالبة بالحوار الوطني، يشير إلى المزيد من الشقاق الفلسطيني.
أما على المستوى العربي، فلاشك أن الشقاق الفلسطيني قد انعكس على مجمل الموقف العربي الذي شهد حرب قمم ونحن نرى أنه يتعين النظر إلى قمة الدوحة والكويت وقمة الرياض لدول مجلس التعاون على أنها متكاملة، هدفها السعي نحو وقف العدوان والاتفاق على موقف عربي مناسب إزاء الكيان الصهيوني.
تبقى بعد ذلك قضايا أساسية لابد من حسمها بالحوار العربي البناء:
القضية الأولى: تتعلق بجدوى المبادرة العربية واستمرارها بعد إحراق غزة.
والقضية الثانية : تتصل بمصير المقاومة بعد دراسة حصيلة وتجربة عملية السلام مع الكيان الصهيوني.
والقضية الثالثة: إنه إذا استقرت المنطقة على الحزم مع الكيان الصهيوني فإن ذلك سوف يجعل الخيار الأساسي عند القيادة الفلسطينية هو المقاومة، وهو خط لا يؤمن به أبو مازن ربما لاعتبارات عملية.
على العرب أن يحددوا خيارات ما بعد غزة في ضوء صمود المقاومة، وأعمال الإبادة الصهيونية، ولكن عليهم أن يرفعوا قدراتهم ويعظموا أوراقهم حتى تكون على مستوى هذه الخيارات، ولا يجوز أن يظل الشقاق قائما بين مواقف الشعوب العربية ومواقف الحكام تحت أية ذريعة، فقد أسقط الكيان الصهيوني بنفسه كل الذرائع.
وأخيراً : إذا كان الكيان الصهيوني ذنباً دعا بعض الحكام العرب الله ألا يغفره تقربا إلى «واشنطن»، فإن واشنطن والكيان الصهيوني بتضامنهما ضد أبرياء غزة قد أسقطا الحرج في الدعاء لغفران هذا الذنب.
من ناحية أخرى: فإن دماء الشهداء في فلسطين، واتساع الدمار الذي اتخذه الكيان الصهيوني أداة للضغط على المقاومة لابد أن يكون من أهم عوامل مراجعة الموقف العربي من عملية السلام مع الكيان الصهيوني برمتها، خاصة وأنه استغل العالم العربي كما استغل الساحة الفلسطينية للتلاعب بمصير السلام في المنطقة.
من ناحية ثالثة: فإن الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني لابد أن تكون أساسا التعاون عربي ودولي دفاعا عن هيبة القانون والقيم التي يحرص عليها المجتمع الدولي.
ولهذا السبب لابد أن تنشط الحكومات والمنظمات الحكومية لتعقب المجرمين الصهاينة أمام المحاكم الدولية والوطنية مثلما طارد الكيان الصهيوني مجرمي الحرب الألمان الذين انتهكوا حق اليهود في الحياة اللهم إلا إذا كانت دماء اليهود أزكى من الدماء الفلسطينية والعربية !!
من ناحية رابعة : فإن الحكومات العربية يجب أن يواجه الكيان الصهيوني في المنظمات الدولية خاصة الأمم المتحدة، وسندها في ذلك هو إجبار الكيان الصهيوني على احترام القانون الدولي، وعلى تنظيف الأسرة الدولية من الأطراف المارقة، ويجب أن يعرض العالم العربي في متحف خاص مشاهد الإبادة الصهيونية، وأن تكون الدعاوى ضد الصهاينة جنائية ومدنية، وأن يلتزم الكيان الصهيوني بإعادة إعمار غزة. وبطبيعة الحال فإن هذا الموقف المطلوب من العالم العربي سوف يدفع إلى الاحتكاك بين الدول العربية والولايات المتحدة، ولذلك يجب أن تستعد لاحتمالات هذه المواجهة في المحافل الدولية، إذ إنه لا يجوز أن تظل الولايات المتحدة مساندا أعمى لكل الجرائم الصهيونية، ذلك أن الشعب الأمريكي ربما يحرص على أمن الكيان الصهيوني، ولكنه لا يجوز أن يدعم جرائم الكيان الصهيوني، كما أن الأمن في المنطقة يجب أن يكون متبادلا بين العرب والكيان الصهيوني. كذلك يجب أن يقوم العالم العربي بحملة لتأكيد الحق في المقاومة المشروعة ضد المشروع الصهيوني وضد الجرائم الصهيونية، فقد أحزننا أن يصدر الكونجرس قرارا بمساندة احراق غزة ولا يهب لإنقاذ أرواح الأبرياء من الأسلحة الأمريكية.
بقي أن نشير إلى أن الإطار العربي يجب أن يتصل بالإطار الإسلامي للدفاع عن القدس لأن مخطط الكيان الصهيوني في المرحلة القادمة هو التوصل إلى تسوية مع من يقبل يتم فيها تسليم القدس للكيان الصهيوني، وهو ما أكده مشروع «جون بولتون» المندوب الأمريكي السابق في الأمم المتحدة وأحد أهم أركان الإدارة الأمريكية.
على أن الإطار الإسلامي المساند للقدس لا يعني أن الصراع مع الكيان الصهيوني صراع ديني إلا بقدر ما يريد الكيان الصهيوني، وقد رأينا أنه من الصعب الابتعاد عن الطابع الديني للصراع، خاصة وأن الجنود الصهاينة كانوا يصطحبون التوراة ويتلونها قبيل عمليات العدوان في «غزة»، و«لبنان».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلمخطط أمريكي صهيوني لضم عمال المناطق المحتلة لمنظمة الهستدروت الصهيونية
نشر في العدد 10
18
الثلاثاء 19-مايو-1970