; نموذج كويتي للانبعاث الحضاري الإسلامي في العصر الحديث | مجلة المجتمع

العنوان نموذج كويتي للانبعاث الحضاري الإسلامي في العصر الحديث

الكاتب عبدالحميد البعلي

تاريخ النشر السبت 14-مارس-2009

مشاهدات 21

نشر في العدد 1843

نشر في الصفحة 38

السبت 14-مارس-2009

إنجاز اللجنة الاستشارية العليا لتطبيق أحكام الشريعة

يشهد التاريخ المنظور وغير المنظور بأن الزمن في حركة مطردة دائمة ودائبة لا تتوقف، يدل على ذلك تتابع الليل والنهار والشمس والقمر وكل في فلك يسبحون، ولابد في ثنايا هذا التيار المتدفق لحركة الزمن من أن تتواكب حركة الفكر دأبا بجد ولزوم اعتياد من غير فتور، فيكون الفكر دؤوباً للتعامل مع حركة الزمن الدائبة، ومواكبتها فلا تتخلف حركة الفكر عن حركة الزمن وإلا فقد الفكر تفاعله وثمرته.

الإنسان محور الأديان ومستودع الخلافة في الأرض.. حمل أمانة الرسالات دون غيره

حركة الفكر الإنساني يتولاها العلماء بالعلم والفهم والعمل لتحقيق مقصد الشرع

المرسوم الأميري بإنشاء اللجنة الاستشارية لاستكمال أحكام الشريعة تقدير عميق المصلحة الرعية

الاجتهاد ومراعاة الواقع مناط الانبعاث في مرسوم استكمال أحكام الشريعة الإسلامية 

الفصل بين الدين والدولة يفقد السلطة الكثير من وسائل الإصلاح وتحقيق الخير للناس

والفكر في حركته يتولاه ويديره العلماء والفقهاء بعلم وفهم وعمل، فالفهم أخص من العلم، والعمل أخص من الاثنين، وقديما قالوا : لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، فالعمل معيار صلاحية العلم وسلامة الفهم وسداده وتحقيق مصلحة الناس هو مقصد الشرع.

ومقصد الناس من الشرع ولهذا قالوا :

التصرف على الرعية منوط بالمصلحة قاعدة شرعية شهيرة يوجد أصلها في كلام الإمام الشافعي - يرحمه الله - بأن:

«منزلة الوالي والإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم»، ثم اشتهرت عند كثير من الفقهاء باعتبارها قاعدة، والأصل الأصيل لها في كلام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما أنا ومالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف».

هذه القاعدة المهمة ذات علاقة وثيقة بالسياسة الشرعية في أحوال الراعي والرعية، ولها سند من كتاب الله عز وجل ومن السنة النبوية المطهرة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا﴾(النساء)، قال فيها القرطبي: هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع فالأمانات تتضمن الولايات كلها، ووجوب قيامها على العدل ووزن الأمور بالقسطاس المستقيم، وهذا مطلق المصلحة وضرورة تحقيقها كما يفهم من كلام القرافي ومن مدلولات هذه القاعدة وفوائدها توجيهات المشاورة والحكمة، فكلاهما يتضمن رعاية المصالح، والوصول إلى ما هو أصلح وأنفع للرعية، يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ﴾(آل عمران: ١٥٩), ﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ﴾(الشورى:(۳۸).

ومن الأحاديث حديث رسول الله ﷺ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته»...

فالحاكم منوط به أن يحوط الرعية بالنصح، ويحملها على الخير، درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر على الصلاح مع القدرة على الأصلح كما يقول العز بن عبد السلام.

المصالح متجددة: مصلحة الرعية مطلوب تحقيقها، والتصرف بمقتضاها منوط بالحاكم، فله تقديرها مستشيراً مستنيرا بحركة الفكر التي يقودها العلماء الثقات المجتهدون العاملون، ثم العزم فيها. وإذا كانت الحركة الزمانية في هذا العصر والأوان تقتضي بل توجب انبعاثا يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يبدد يصحح ولا يخطئ يبشر ولا ينفر، يهدي ولا يغرر يخاطب في الإنسان الفطرة والعقل، ويستثير في وجدانه الحساب والعقاب باعتبار أن الإنسان محور الأديان، ومستودع الخلافة في الأرض حمله الخالق عز وجل أمانة الرسالات دون سائر المخلوقات، ووضع له منهج العبادات والاستقامة في المعاملات، وعلى ذلك فهو إما شقي وإما سعيد، وله الخيرة في ذلك. فإن أبى فقد أصبح يعيش مشكلة العصيان مما يحتاج معه إلى تجديد البنيان، وإعادة التكريم المفقود باستلهام مفردات الإصلاح وغرس قيم الصلاح فيه بصنوفه المختلفة: الفكري والسلوكي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي، فعطاء الإنسان مرهون بمدى حريته، وإنها لصيحة تولى زمام المبادأة بها انبعاث جاء به المرسوم الأميري بالعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.

إعادة بناء الإنسان قبل فوات الأوان:

يحملها المرسوم الأميري الكريم رقم ١٣٩ لسنة ۱۹۹۱م بإنشاء اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وما يقوم عليه المرسوم من تقدير عميق لمصلحة الرعية وعموم الناس في العالمين على أساس من التهيئة والاستكمال للأولى أي «مصلحة الرعية» وللثانية «أي مصلحة عموم الناس»، بما تعنيه التهيئة من البيان والبلاغ والانبعاث الجديد، دون تصدع أو تعصب أو صراع، ليعتلج مع كل جديد بما يؤسسه لا بما يؤنسه يؤسسه بالحكمة والحسنى بل والتي هي أحسن، والسماحة والعدل والسلام، والحوار الذي هو الأساس والمعيار الأساس لكل اقتناع، والمعيار لكل صلاح، يقول تعالى: ﴿إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾(البقرة).

الاستكمال للتهيئة والتهيئة للانبعاث

ألم يكن من صائب النظر وثاقب الفكر أن يزاوج المرسوم الأميري الكريم بين عمليتي التهيئة والاستكمال ويربط بينهما ارتباط السبب بالمسبب والمعلول بالعلة، وكأنهما وجهان لشيء واحد هو الانبعاث الحضاري لهذه الأمة من وسط الركام متمثلا - هذا الانبعاث - في نموذجها الكويتي المبتغى الذي تكون فيه حركة الفكر حركة دائمة مضبوطة حتى لا تفلت حركة الحياة من سلطان الفقه أو الفكر، فينكشف عنها سلطان الدين ويقف الإنسان حائراً ماذا يأخذ وماذا يدع فعلماء الفكر بصنوفه حماة مرابطون على الثغور الفكرية، كما أن الجنود حماة مرابطون على الثغور الجغرافية، وذلك دون فصل بين الدين والدولة، إذ الفصل بينهما يستتبعه تلقائيا الفصل بين السلطة والشعب المؤمن أو الحكومة والناس فتفقد السلطة الكثير من وسائل الوضوح وتحقيق الخير للناس ومن هنا كانت حركة الفكر مناطها الجهاد بالاجتهاد.

الاجتهاد مناط الانبعاث في مرسوم الاستكمال

فمما لا شك فيه أن الاجتهاد المنوه عنه آنفا أصبح متعينا لنجاح حركة الانبعاث في مرسوم الاستكمال، كما أنه مما لا شك فيه أن جوهر هذا الاجتهاد هو في الخطاب الجماعي والاتجاه الجماعي في التشريع أي عالمية الأمرين معاً: الخطاب والاتجاه، بما يعنيه من:

إثبات الوسطية والخيرية إثبات الوسطية لقوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ﴾(البقرة : ١٤٣). وإثبات الخيرية بالدعوة الخيرة لقوله تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾(آل عمران)، فتستحق بذلك الخيرية المنصوص عليها في قوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾(آل عمران)، يقول تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾(القلم)، ومن ثم تتبوأ مكانة العالمية.

ومراعاة الواقع مناط الاجتهاد والانبعاث معا :

من الكلمات المشرقة والاستشرافية للمستقبل والمستبشرة في هذا الخصوص، ما قاله ابن القيم يرحمه الله : لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع.... وهنا أقول: ألا تستوجب حركة الانبعاث في المرسوم الأميري الكريم علوما جديدة ومعارف أخرى من الفقه الدولي العام، والفقه الاقتصادي والفقه الإعلامي، وفقه المنظمات، وفقه الأولويات، وفقه الأقليات، وفقه النفس الذي أكثر عليه الإمام الجويني . يرحمه الله . واعتبره الدستور؟

وقديما قال الإمام أبو حنيفة: الفقه هو معرفة النفس ما لها وما عليها، وصدق الإمام الجويني - يرحمه الله - فالإنسان من حيث طبيعته النفسية ثنائي التكوين من روح وجسد وثنائي النوازع من خير وشر، وحر الإرادة قادر على أن يختار فيتطهر ويتسامى أو ينحط ويرتكس في رغباته، وثنائي الحياة من الأولى والآخرة، والآخرة ضرورة لزيادة فاعلية الإنسان في الأولى.

الصدود علة الانبعاث والصمود علاجها

إن حركة الانبعاث في المرسوم الأميري بالعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لتؤكد أن الله سبحانه وتعالى سيتم نوره كما وعد، وأنه ليس بيننا وبين ذلك إلا الزمان الذي لابد منه في تنبيه الغافل وتعليم من لا يعلم، وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج وهذه رسالتنا في العالمين علمنا إياها رسولنا الكريم في قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ﴾(آل عمران)، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، والحكمة كل الحكمة في مرسوم الانبعاث للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وصدق الإمام ابن تيمية يرحمه الله: «لا ينفرد الدين عن السلطان أو السلطان عن الدين»..

الرابط المختصر :