; هل آن الأوان لنعرف من نحن؟ | مجلة المجتمع

العنوان هل آن الأوان لنعرف من نحن؟

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر السبت 19-مارس-2005

مشاهدات 24

نشر في العدد 1643

نشر في الصفحة 45

السبت 19-مارس-2005

إذا عرفنا من نحن تكون قد خطونا أول خطوة في الطريق السليم، لأنه يستحيل أن تسير الأمة إلى الجد أو السؤدد من غير أن تعرف ذاتها، أو تدري هويتها، فمثلًا لا بد أن يعرف الطفل أباه وأمه، ووطنه وجنسه وطريقه وغايته وتاريخه وثقافته، حتى لا يكون لقيطًا غير شرعي، وهملًا غير مرعي، وحائرًا غير مهدي، ولا يكون لعنة على نفسه ومجتمعه والحياة. هذا في الأطفال، فما بالنا بالأمم والشعوب والجماعات والسلطات والثقافات؟

لقد عاشت الأمة خلال ضلال الطريق ردحًا طويلًا من الزمن، ودخلت مقامات وضياعات عصورًا مديدة، حتى خر عليها سقف المذاهب العفنة التي انتسبت إليها، والثقافات المتقيحة التي اختارتها وتعنونت بها؟ فظهرت عارية وبدت مستخذية لا تجد ما تواري به عورتها أو تستر به سوأتها، سمعنا كثيرًا بعض دولنا تعنونت بالشيوعية، والبعض بالاشتراكية، والبعض بالقومية... إلخ، إلى أن بادت تلك الصراعات وزالت، وولي أهلها واندحروا، وسقط سدنتها وانهدموا، وانكشف السحر والسحرة، وانفض السيرك والسامر، وذهب المولد وخرز المولد، وقعد المهرجون في الساحة الخراب، يحثون على رؤوسهم التراب بعد أن تكسرت الدمى والأصنام التي كانت تتحرك، ويخيل للأغرار - من سحرهم. أنها تسعي -وأمتنا- ولله الحمد، ولا يحمد على مكروه سواه - يبدو أنها لا تمل هذا التيه المتواصل، فمنذ قرن من الزمان ونحن نصارع فقدان الهوية، كلما ذهبت فترة نادت أختها، حتى إذا ادَّاركوا فيها جميعًا وقعت الكارثة، فكانت فترة الاحتلال الفرنسي وغيره التي حاولت أن تصبغ الأمة بلونها، ولكنها بادت وجاءت فترة الإنجليز التي تغيرت فيها المناهج، وتغربت فيها الصفوة المتلونة بالاستعمار، وأنشئت فيها الجامعات التي تحمل لواء التغيير الاستعماري الذي ما زال البعض - إلى الآن - يسميه، بغير حياء – «تنوير»، ويريد بكل وقاحة أن يحتفل بذكراه! 

وللأسف فإن الكثير من السلطات تحمل وزر ذلك مع الضالين، لأنها تطبل له مع المطبلين، وتحاول في أحيان كثيرة قمع المخالفين، ولكن الحقيقة، غلابة وطبيعة الشعوب مائعة من هذا الانسياح الأعمى، هذه حقيقة، وهناك حقيقة كبرى ينبغي أن يلتفت إليها الذين يحاولون الإجابة عن سؤال من نحن؟ وهي أن هناك واقعًا ثابتًا في حياة الأمة، ليس من الحكمة تجاهله، لأن تجاهله اصطدام بطبائع الأشياء، هذا الواقع هو أن لهذه الشعوب المسلمة طابعًا معينًا، وتاريخًا زاخرًا وعقلية وفلسفة وتصورًا للحياة معينًا. فعند الإجابة عن سؤال: من نحن؟ لا يجوز تجاهل هذا كله، كما لا يجوز فرض فلسفة أجنبية على هذه الأمة. لأن مهمة واضع الدستور وسياسة التعليم، والسياسة الاقتصادية، ليست فرض أفكار وفلسفات شخصية أو أجنبية على جموع الشعوب، وإنما تنحصر مهمته في تحقيق شخصية الشعوب الأصيلة وتصورها الخاص للحياة في دستورها وفي سياستها وتربيتها ومشروعها الاقتصادي.

وتجاهل هذه الحقيقة لا ينشئ إلا الشر مهما تكن الاتجاهات التي يراد فرضها طيبة في حد ذاتها، لأن العمل ضد طبيعة الشعوب لا ينتج إلا صدامًا بين هذه القوى وبين الاتجاهات الغربية التي يراد فرضها، ومصادمة الطبائع محطمة للأعماق ومشتتة للعقول والأفهام، كما أنها تنشئ صراعًا لا ينتهي بين الضمير الشعبي وبين القائمين على التوجيه والتنفيذ، وليس في هذا مصلحة لأحد من العالمين أو المحكومين، خاصة أن الأمة قد عاشت تجارب مريرة، فرضت فيها أفكار بالحديد والنار، وصاحبتها دكتاتوريات ظهرت كل فكر حر وطمست كل هوية وشخصية، وصبر الناس على مضض، تحاملوا على الجراح، مكان الحصاد مرًا والتجارب مخيبة للآمال. وبعد كل هذا العناء والصبر الطويل، هل تكون هناك إفاقة وإجابة حقيقية وصحيحة عن هذا السؤال؟

نحن أمة مسلمة لها دينها وعقيدتها وروحها وخلقها ونظامها وسياستها وثقافتها وآدابها وتاريخها ورجالها وعلماؤها ومجدها وعزها ولغتها، كل هذا يقوم عليه نظام جامع في التعليم والتنمية والحقوق، والنظام الاجتماعي والأسري والحياتي، ليس هناك وقت للضياع مرة أخرى، ولا للتيه وتحطيم الطاقات وتبديد الجهود، والانصياع الأعمى لهذا وذاك.

إن ظروف هذه الأمة اليوم شاقة وطاحنة، وفي حاجة إلى رصيد ضخم من القوى لكي تكافح في هذه الظروف وتظهر عليها، وهذه القوى لا توجد إلا في الشعوب ذات الخصائص العالية الأصيلة، فلا تحطموها بل ساعدوها، ولا تخربوا أعماقها بل سددوها، حتى تجد الأمة نفسها وترجع إلى طبيعتها وتلملم شعثها، وتجمع كل عناصر القوة شيئًا فشيئًا، واحجزوا عنها الديدان المتسلقة والهوام المعوقة التي لا تدع شيئًا نظيفًا إلا وتود تلويثه، ولا أمرًا عظيمًا إلا وتريد تحطيمه، وكفاها أنها ديدان تعيش في الدنس والوحل وتمتص الدماء وتعيش التسلق والهوان، وكفاها هذه السنين العجاف التي عاشتها - هذه الديدان وذلك الهوام - في القمة فحطمت فيها كل شيء، وجلبت للأمة كل داهية، وبددت كل ثروة، وطاردت كل مفكر ومبدع، وحمت كل غراب ناعق وكل ملوث فاسق وكل جبان مضيع.

وبعد، إن أمام الأمة معارك شتى لا معركة واحدة، ولن تنتصر فيها إلا إذا انتصرت على ضعفها، وتغلبت على شهواتها ونزواتها، وإلا إذا عرفت أهدافها وعرفت الطريق إلى ذلك، نحن في حاجة ماسة إلى أن نعرف أنفسنا، ولا بد بعد ذلك أن نعيد بناءنا على أساس متين من عقيدتنا وطبيعتنا، لنستطيع أن نخوض التحديات التي تنتظرن، نحن في حاجة إلى قادة يقودوننا بهويتنا وطبيعتنا وتاريخنا، ويذكروننا بمجدنا الصاعد، ولا يطيعون فينا عدونا أو يهلكون فينا نخوتنا. 

يومها سيعرف الجميع من نحن، وستعرف الدنيا من نحن إن شاء الله، ﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾(يوسف: 21).

الرابط المختصر :