العنوان همم مؤمنة وأخرى خاسرة
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر السبت 20-ديسمبر-2003
مشاهدات 10
نشر في العدد 1581
نشر في الصفحة 47
السبت 20-ديسمبر-2003
أغلى شيء في الدنيا هو الحياة، وأثمن من الحياة، ما تبذل الحياة لأجله، وأعز ما خلق على وجه الأرض، هو ما خلقت الأشياء لأجله وهو الإنسان، وأفضل من الإنسان وأكرم التضحية في سبيل الله لإعزاز دينه، ورفعة كلمته ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111) قال عبادة بن الصامت للمقوقس حاكم مصر إن همتنا في الجهاد في سبيل الله، وابتغاء رضوانه، وليس رغبة في الدنيا ولا الاستزادة منها فرد عليه المقوقس قائلًا: لعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على أعدائكم إلا لحبهم للدنيا ورغبتهم فيها.
وعلى هذا، فهمم الناس في الحياة ثلاث
۱ - همة غايتها المأكل والمشرب، وهذا هو الحيوان والكافر ﴿إ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ (محمد: 12) لا هم لهم إلا البطون التي يبيعون في سبيلها كل مرتخص وغال، لها يصول أحدهم ويجول ويرغي ويزيد ويوالي ويعادي.
2 - همة غايتها الملك والسلطان والمنصب والجاه والرياسة والزعامة، وقد تبيع كل شيء في سبيل الوصول، وتفعل أي شيء لأجل الكرسي، وهي بهذا مشروع فساد وغرور وقهر وبغي ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 34) ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة: 11)
همة عزيزة غايتها رضاء الله وإعلاء كلمته لتكون العليا، ونصرة دينه، ورفعة كتابه، لتكون كلمة الذين كفروا السفلى، وهذه همة منصورة وإن بعدت الشقة وطال الطريق ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40] ومرزوقة وإن كان الرزق في خبايا الأرض أو في عنان السماء. ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: 3) ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (هود: 6)، وسيكون لها الملك
والسلطان العادل ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾
(البقرة: 247)، ستأتيها الدنيا وهي راغمة لأنها في حاجة إليها، وفي شوق إلى صلاحها
وعدلها ورحمتها ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج-41)، لقد جاءت الدنيا راغمة إلى عرب الصحراء وفتحت أمامهم الممالك وسعدت في جوارهم البشرية بعد شقاء دام طويلًا. أرسل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه - قبل معركة القادسية ربعي بن عامر، رسولاً إلى «رستم» قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق وأنواع المفروشات وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة التي يتحلون بها، وكان على رأس رستم تاجه المرصع باللآلئ النادرة، وقد جلس على سرير من ذهب، أما ربعي بن عامر، فقد دخل عليه بثياب خفيفة وترس وفرس قصير، وأقبل وعليه سلاحه، وبيضته على رأسه، فقالوا له ضع سلاحك فقال: إني لم أتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني وإلا رجعت فقال رستم» ائذنوا له، فدخل عليه فقال له رستم ما جاء بكم فأجابه «ربعي»: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام هذه حقائق تروى، وتاريخ يقرأ، ووقائع مسطورة في تاريخ الأمة، لا يرقى إلى درجتها أو يبلغ إلى مستواها إلا من استفاد من عقيدته وإيمانه الذي لا يكل ولا يمل ولا يعرف المستحيل، ولا يحس باليأس أو القنوط أو يضن بالتضحيات والنفس والنفيس، فيا شباب الإيمان ودعاة اليقين. ستعتريكم صعاب وعقبات، وسدود وقيود وإحباطات وتخاذلات ستفجعون في الكثير ممن تعلقون عليهم الآمال، فلا تيأسوا فأنتم أقوى بالإيمان من اليأس، وبالعزيمة الصادقة من القنوط وبالهمة العالية من القعود والنكوص حسبكم أنكم رواد أمة عظيمة وطلائع فتح مبين ونصر عظيم حسبكم أنكم الرجال الذين تسلموا الراية وصدقوا العهد وساروا على هدي المرسلين بقلوبكم السليمة، وإخلاصكم النبيل.
فيا أيها العابدون الله بدفاعكم عن أمتكم وصدكم أعداء الله من اليهود وأشياعهم ومن هاودهم وناصرهم، واستكان لهم، لقد سلكتم طريق الأحرار وتنكبتم طريق العبيد، أيها الخاشعون لله لقد أدركتم عظمة دينكم، وقدسية رسالتكم، فهنيئًا لكم بطمأنينة قلوبكم، واستقامة سيرتكم وصدق رسالتكم، وهنيئًا لكم ثواب المجاهدين وأجر الصادقين. فيا رب أنت تعلم أن هؤلاء لأمتهم نصر ولدعوتك جنود كالملائكة طهرًا وكالصديقين إيمانًا، وكالأسود شجاعة وكالماء عذوبة، وكالشمس ضياء، وكالهواء صفاء، قد جمعتهم يدك على الهدى، ولملمتهم دعوتك على بعد المدى، يحاربون من هم أكثر منهم عددًا، وأقوي سلطانًا، وأعز جندًا وأقوى فتنة، وأعتى سلاحًا، وأشد إغراء.
ولكنهم لا يستكثرون بالعدد، ولا يتقوون بالسلطان، ولا يعتزون بالجند، ولا يعبئون بالفتنة، ولا يتأثرون بالإغراء قوتهم بعبادتك، وعزتهم بجبروتك وسلاحهم من شريعتك، وفتنتهم بجنتك، وغرامهم بثوابك، وهيامهم برضاك هجروا في سبيلك المضاجع، وفارقوا من أجلك الملذات، وتحملوا لمرضاتك العذاب والآلام، وحرموا للجهاد فيك قرب الأهل والولد، ولذيذ العيش، وطيب المقام، فصنهم يا رب من بطش اليهود والظالمين، ونح عنهم خبث المستغلين، ودسائس المفسدين، وقيادة الجبناء والمغرورين والمراوغين، ووسع مداركهم، وسدد خطوهم، وأصب رميهم، واجعلهم عزًا لدينك، وذخرًا لأمتهم، وهناء لشعوبهم، واجعلهم من المنصورين الفائزين، ولا تتخل عنهم، وارحمهم ورحمتك وسعت كل شيء، فهم على العهد محافظون، وعلى الوفاء مقيمون وللجلال خاشعون، وبالعبودية سائرون
وبالهيبة مأخوذون يا فتية الإسلام يكاد والله المتأمل اليوم في أرجاء الأمة أن يرى نور الفجر من وراء الأفق البعيد.
يوشك أن يطلع الإصباح ليخرج الحي من الميت، ويملأ الدنيا ضياء وسنا، فهذه الأمة المجيدة لا ترضى إلا بالصدارة إن شاء الله، وإن ظهرت العقبات، وتوالت النكبات، ولكنه وفي عهد قريب إن شاء الله سيتصل آخر الأمة بأولها، ويلتقي خلف الأمة بسلفها، ويكون
الفتح المبين والنصر العظيم،
فلقد عشنا أعزاء ملء الأرض ما لمست جباهنا تربها إلا مصلينا
لا ينزل النصر إلا فوق رايتنا ولا تمس الظبا إلا نواصينا
فقبلوا أرض حطين فإن بها دم البطولة من أيام حطينا
فيا شباب الأمة كونوا على العهد سائرين، والوعد صادقين والمجد عاملين، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل