; ما وراء الكاميرا (٢).. وسط الحصار بين الضغوط والتهديد | مجلة المجتمع

العنوان ما وراء الكاميرا (٢).. وسط الحصار بين الضغوط والتهديد

الكاتب أحمد الزاويتي

تاريخ النشر السبت 31-مايو-2003

مشاهدات 21

نشر في العدد 1553

نشر في الصفحة 34

السبت 31-مايو-2003

مع التضييق المتواصل واجهنا الاعتقال والتجسس على ما نكتب. 

عدم فهم اللغة العربية من قبل بعض القيادات الكردية سبب لنا متاعب جمة

ما أصعب مهنة الصحافة عندما يتعرض الصحفي لضغوط.. بعد عرض لقطات قصف خورمال من قِبَل أمريكا، وقصف مواقع الجماعة الإسلامية التي هي ليست ضمن قائمة أهداف أمريكا المعلنة، حيث إن الجماعة تعمل عملها بشكل رسمي وعلني ولها مشاركة في حكومة الاتحاد الوطني الكردستاني.. وعرض التقرير في نفس اليوم، حدثت في السليمانية ما يشبه ضجة..

خرجنا من الفندق فإذا الأنظار تتجه إلينا، بين معاتب بصراحة، وبين مجامل.. وصعب عليك عندما تكون هدفًا للأنظار! معاتب يقول: دائمًا تضخمون الأشياء.. وآخرون يقولون: لا تعرفون سوى الكذب!.

وكان هناك من يجامل ويقول: «بارك الله فيكم، رفعتم الستار عن جريمة كانت من الممكن أن تمر علينا مرور الكرام».. عندما يصاب الصحفي بشيء من التأثر في الحالتين: سواء في المعاتبة، أو المجاملة، أي أن يتراجع أو يخاف بسبب العتاب أو ما يصل بالعتاب إلى مراتب أخرى أخطر.. أو أن يفرح لمجاملة المجامل.. عندها سيصيب مهنة الصحافة شيء من الخلل في الحالتين..

وهنا يحضرني قول شيخ وأنا في أحد دروسه العلمية: يجب أن نعمل لله دون أن يخوفنا تهديد شخص، أو يعجبنا مدح آخر.. يجب أن نكون في الحالتين على السواء.. لا نتأثر.. وحينها فقط يكون الإخلاص..!! فهل يا ترى سيصمد الصحفي أمام الحالتين..؟ لقد تعرضنا في كردستان إلى انتقادات كثيرة أحيانًا وصلت إلى التهديد، وإلى مجاملات بنفس المستوى.. لذا كانت الأنظار لا تفارقنا..

مشاهد حلبجة تتكرر بأيدٍ جديدة..

دخلنا المركز الصحافي في السليمانية.. المركز مزدحم بالصحفيين وبأناس أكراد مدنيين! ولكن بدا لي أن مهماتهم غير ذلك.. قررت إرسال تقرير بعنوان «مشاهد حلبجة تتكرر بأيد جديدة» من شبكة المركز، لأنقل من خلال التقرير ما شاهدته في خورمال.. دائمًا أنقل تقاريري من خلال الإنترنت إلى مؤسسات إعلامية دون احتياطات الحذر، هذا ما تعودت عليه منذ ثلاث سنوات في أربيل ودهوك، ولكن كان التقرير المشار إليه هو التقرير الأول الذي أرسله من هناك.. من السليمانية.. تأخرت قليلًا لأكمل التقرير، وإذا بكهرباء المركز تنقطع.. فذهب كل ما كتبت! ثم عادت الكهرباء، ألح عليّ زميلي وصاح بالاستعجال فقلت لهم: غادروا أنتم، وأنا سألحق بكم في الفندق بعد أن أكمل التقرير، وكان الليل قد أرخى سدوله، والنهار قد ودع.. فبقيت وحدي.. 

خرجت من قاعة الإنترنت، فإذا بي أرى نفسي محاطًا برجال مدنيين، ومتوترين.. أمسكوا بي.. ذكرني المشهد بمرات عدة قبل أكثر من عقد من الزمان عندما اعتقلت من قبل رجالات أمن العراق..

- من أنت؟

- كيف دخلت هنا؟

- ولماذا؟

جاوبنا.. -

- أنا صحفي..

- مع من؟ 

- صحفي كردي... 

- هنا فقط للأجانب...!

- أنا أيضًا لست من أهل المنطقة، وصحفي لمؤسسات عدة..

- أعطنا الهوية..

شعرت أن هذا الحوار لا موجب له، إلا كوني لست مرغوبًا فيه وإلا لم يكن الأمر داعيًا لكل هذا.. دفعت لهم هوية نقابة صحفيي کردستان الصادرة من أربيل..

- هذه غير معترف بها عندنا!

دفعت لهم البطاقة الخاصة الصادرة في صلاح الدين لتغطية أحداث الشمال.. ولكنها أيضًا كانت غير معترف بها.. ثم أخرجوا من جيبي أوراقي وما معي من هويات.. شعرت أن الأمر لا يتعلق بمن أنا.. بقدر ارتباطه بشيء آخر لم يتضح بعد.. 

- ماذا تقصد بــ «مشاهد حلبجة تتكرر»؟

- أهذا ما يضايقكم؟

إذن الأمر كان تجسسًا على ما كنت أكتب في الإنترنت وما كنت ناويًا إرساله..

الهجوم خير وسيلة للدفاع..

من منطلق هذه القاعدة، خرجت من كومة الرجال المحيطين بي، وتركت عندهم أوراقي وأغراضي، وصعدت إلى غرفة سكرتيرة مجلس الوزراء التي تقوم بترتيب أمور الصحفيين الأجانب، وطلبت منها الاتصال بفريق الجزيرة..

- لماذا؟

- حتى أعلمه بأن هناك تجسسًا على الصحفيين..

- هون عليك.. ماذا تقصد؟

- أقصد بأن هناك تجسسًا على العمل الصحافي في هذا المركز..

- غضبت كثيرًا دخل الرجال، ليفهموها الأمر.

- ماذا تقصد من مشاهد حلبجة؟

- نعم «مشاهد حلبجة تتكرر» وأرسلت قبلها «مشاهد الأنفال تتكرر» وقد نشرت وقد أتحدث عن مشاهد كثيرة أخرى قد تتكرر.. «وكنت أتحدث بغضب»..

- هون عليك.. أهدأ اولًا..

- الأمر لا يحتاج إلى الهدوء..

- إذن ماذا تريد؟

- أريد الاتصال بأحد قيادات الاتحاد لأبلغهم بالأمر..

- لا يحتاج.. سنتفاهم..

- إذن أعيدوا ما أخذتموه مني..

- وماذا أُخذ منك؟

- هويات وأغراض..

طلبتها من الرجال.. فدخلوا متهمين إياي بأنني لست كرديًا، وأعمل لغير صالح القضية الكردية.. ويبدو أنهم لم يكونوا قد اطلعوا على ما كتبت وما نشرت..

- تستطيع الآن الذهاب..

- لا استطيع.. «ضحكت»

- كيف؟

- إذا كنتم تتعاملون معي هكذا هنا وفي هذا المركز، فكيف في الشارع؟

- إذن ستبقى هنا.. 

- لا.. تأخذونني بسياراتكم..

- أنا سأخذك مع سائقي..

في الطريق إلى الفندق.. استمر الحوار حول هذه النقطة.. إلى أن وصلنا..

الشعوب هي الضحية الأولى: في صبيحة يوم 23/2 توجهنا ثانية إلى خورمال لنرى الوضع هناك، ومعرفة أجواء المعارك التي كانت جارية بين «أنصار الإسلام» والاتحاد الوطني الكردستاني»، ومعرفة أجواء القرى والمناطق المحيطة بأهداف القصف الأمريكي، التغيير الذي تغير في مشاهد الطريق عن أمس هو زيادة كثافة هجر المنطقة من قِبَل الأهالي، وزيادة في كثافة القوات المرسلة لتعزيز مواقع الاتحاد الوطني ضد أنصار الإسلام، وفي أول نقطة سيطرة للاتحاد الوطني في الطريق أوقفونا، منعونا من التوجه إلى تلك المناطق بحجة سلامتنا!.

رجعنا..

في الطريق كانت هناك لافتة معلقة مكتوبًا عليها باللغة الإنجليزية: «نرحب بالقوات الأمريكية والبريطانية الحليفة»!، فتوقفنا لتصوير اللافتة.

طبعًا في العراق تعودنا على تعليق اللافتات من قِبَل الجهات الرسمية، الجهات السلطوية ودائمًا كانت مثل هذه اللافتات غير معبرة بالضرورة عن رأي شعب بأكمله، ولكن يصور الأمر على أنه تعبير عما يدور في خلد الشعب، ولهذا دائمًا يجعلون من الشعوب الضحية الأولى! فكم من لافتات رفعت وكانت مجرد لافتات وكم من صيحات علت من فراغ فهل كانت «بالروح بالدم نفديك يا...» المنطلقة من أفواه العراقيين منذ ٢٣ عامًا تعبيرًا حقيقيًا عن مشاعر الشعب العراقي؟! كانت تصور إعلاميًا على أنه كذلك.. فمن كان من كان الضحية غير العراقيين؟!.

دخول طلائع القوات الأمريكية: في ليلة 24/2 وعلى سطح فندق أبو سناء في السليمانية، كنا نسمع أصوات طائرات الهليكوبتر من قريب من السليمانية.. استفسرنا من بعض المواطنين فأبلغونا بأنها طائرات أمريكية تنزل جنودًا..

- أین؟

- في مطار بكرجو..

في صباح يوم 24/3 توجهنا نحو مطار بكرجو، للتأكد من الخبر، منعونا من الدخول، استفسرنا من نقطة السيطرة فلم تجبنا بشيء.. لم تكن هذه القوات قد وصلت للتوجه إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات العراقية بل جاءت للتوجه إلى مناطق المواجهة بين أنصار الإسلام وقوات الاتحاد الوطني الكردستاني لتتقدم مع الأخيرة نحو هذه المناطق.

الاعتقال في جمجمال..

عند توجهنا في صباح 25/3 نحو جمجمال البلدة الواقعة على الحدود بين مناطق السلطات الكردية والحكومة العراقية باتجاه كركوك، لمتابعة القصف الأمريكي لخطوط التماس هناك، قمنا بيث مباشر للوضع على الخط..

استفسرت «الجزيرة» من وضاح خنفر على الهواء حول وجود القوات الأمريكية، ونفى وضاح هذا الوجود الكثيف المزمع والمضخم إعلاميًا، وقال: هناك وجود بدائي في مدينة السليمانية اعتمادًا على تصريحات فؤاد معصوم، ودون أن يفهم المسؤول العسكري للاتحاد الوطني الكردستاني مفهوم العبارات المنقولة على حقيقتها، أرسل لنا مسلحيه لطلبنا والتحقيق معنا، فلم نستجب لدعوته، قال له وضاح: لا تذهب إليه لأننا لا عمل لنا معه، إذا أراد منا شيئًا فليحضر هو! فعاد المسلحون لإبلاغه بالموضوع، فأمر بإحضارنا له بالقوة، فأخذنا إلى هناك معتقلين..

- لماذا تكذبون..

- ومتى كذبنا..؟

- أين القوات الأمريكية في جمجمال؟

- ومن قال إن هناك قوات أمريكية فيها؟ 

- أنتم.

لم يكن قد فهم العربية التي نطق بها وضاح على حقيقتها، بل قد يكون فهم عكسها! تدخل مجلس وزراء حكومة السليمانية، وأفرج عنا بعد أن قال لسكرتيرة مجلس الوزراء.

- سأفرج عنهم، ولا أقبل أي محطة عربية إعلامية تحضر هنا في جمجمال، ولا تتكرموا علينا بإرسال هؤلاء الكذابين..!

أفرج عنا.. اتصلت سكرتيرة مجلس الوزراء بوضاح للحضور عندها، ذهبنا.. فإذا بممثلة عن مدير الأمن العام تنتظرنا هناك وأخذتنا إلى مدير الأمن العام، تكلم بدبلوماسية جيدة، موصلًا إيانا رسالته التي يريد من خلال حوار بينه وبين وضاح، ختمها بوجود خطورة أكيدة على أرواح فريق الجزيرة من قبل الإرهابيين وكان يقصد (أنصار الإسلام) الذين قتلوا صحفيًا أسترالياً قبل يومين من هذا اللقاء بعملية انتحارية! وهم يريدون سلامتنا - حسب قوله - لذا فلابد من مرافقة مسلحين من الأمن لتوفير الحماية للفريق..

مغادرة السليمانية إلى أربيل.

بعدها قرر وضاح ترك مدينة السليمانية التي بدت وكأنها مستاءة من عرض الجزيرة لنتوجه إلى أربيل حيث الأكثر سخونة سياسيًا وعسكريًا لأنها المدينة الأقرب إلى الموصل وكركوك من السليمانية، وكذلك الأقرب إلى دهوك المتاخمة للحدود التركية والتي قد تشهد دخولًا للجيش التركي منها، وخاصة بعد أن انتهت أهمية أنصار الإسلام الصحفية حيث قصفت مواقعهم وغادروها مشتتين، بقيت فقط مسألة مصير الجماعة الإسلامية التي قصفت مواقعها، ولكن قد حل لنا هذا الإشكال أيضًا، باتصال هاتفي من قبل أحد قياديي الجماعة بوضاح لعمل لقاء مع علي بابير أمير الجماعة حيث إنه دخل مدينة السليمانية.

ذهبنا صباحًا إلى مقر الجماعة، فإذا بنا في مؤتمر صحفي، اعترض وضاح قائلًا أنا أريد لقاء خاصًا، ولا أهتم بالمؤتمرات الصحفية، فإذا كان مؤتمرًا فسنغادر نحن؛ فجانا الجواب بأنهم سيرتبون لنا لقاء خاصًا. 

شعرت بأن هذا اللقاء قد يحمل جديدًا. والجديد الذي كان هو إيصال رسالة من قبل أمير الجماعة مفادها أنهم اتفقوا مع الاتحاد الوطني الكردستاني على ترك مواقعهم إلى مواقع أخرى بالتعاون مع سلطات الاتحاد الوطني كي تفتح الأراضي لقوات الاتحاد الوطني والتحالف للتقدم نحو مواقع أنصار الإسلام. وفي المؤتمر رد علي بابير على بعض تصريحات الاتحاد الوطني التي حملت الجماعة مسؤولية ضحاياها في القصف الأمريكي... 

وتبين لنا أثناء الحوار مع بعض أعضاء الجماعة الذين كانوا في المقر قبل اللقاء بعلي بابير( أن هذا القرار كان لابد منه) لأنه قد تغلق كل الطرق بوجه الجماعة، وقد تضطر للتشتت والتبعثر والخروج من المنطقة، وقد لا تستقبلهم إيران المنطقة الوحيدة التي يمكن عن طريقها الخروج، لأنها لم تستقبل جرحاهم وجرحى أنصار الإسلام الذين ماتوا على الحدود - حسب تصريحات أفراد من الجماعة.

الرهان على الغير

مشكلة العمل السياسي، في منطقة الشرق الأوسط هو الرهان على الغير أكثر من الرهان على الذات سواء من قبل الأحزاب أو الجماعات أو حتى الحكومات، ودائما كان هذا الرهان هو الذي يقتل المشروع السياسي لأي قوة بغض النظر عن نوعيتها، لهذا نرى بعض الدول تطفو على السطح بسهولة، وأخرى تهبط وبعض الحكومات تقام وأخرى تزال، ناهيك عن الأحزاب والجماعات التي تتغير بين كل عقد وآخر... 

والمنطقة الكردية باعتبارها تعيش تجربة المنطقة المفتوحة للجميع منذ ١٣ سنة، أصبحت مزيجًا لتداخل كل القوى الإقليمية والدولية ناهيك عن المحلية، وكلها تتداخل بالاعتماد على الرهان على الغير!

فكل جماعة تحمل السلاح لابد لها من مصدر لهذا السلاح، وهناك مصادر عديدة تمول الأحزاب في كردستان بالسلاح، ومن يمول لابد أنه سيأخذ أكثر مما سيعطي والطرف الذي يطلب المعونة سيعطى أكثر مما يأخذ لكونه الطرف الأضعف. 

وإذا كانت القوة المحلية تلتزم بالعهود والمواثيق فإن القوة الإقليمية في غنى عن هذه الالتزامات.. وهذا ما حصل مرات عدة للحركة الكردية، ففي ۱۹۷۵ باعت إيران ( الشاه ) القضية الكردية التي كانت على وشك الوصول لنتائج مثمرة وباعتراف صدام حسين، فكان ما يسمى عندنا باتفاقية الجزائر المشؤومة وتكرر المشهد نفسه عام ۱۹۹۱ عندما باعث أمريكا الانتفاضة العراقية عمومًا، فأطلقت العنان للقوات العراقية بالتحرك فكانت المقابر الجماعية المنتشرة في كل بقاع العراق في الجنوب والهجرة المليونية التي هزت الوجدان الإنساني العالمي في الشمال، ويتكرر المشهد نفسه إلى الآن. 

ما يقال عن الدعم المسلح ينطبق على كل المجالات الأخرى وأولها السياسية، فإذا كان التمويل المسلح من قوى عدة فالمشاريع السياسية التي تحاول أن تشترك في مستقبل المنطقة لا تحصى، من الأمريكان والأوروبيين ومن سوريا وحتى من قوى محلية على حساب قوى محلية أخرى، فباعتماد الرهان على الغير للدعم السياسي دون الذات فإن المستقبل يبقى على شفا جرف قد ينهار في أي لحظة.

الرابط المختصر :