; يوسف إدريس يقول: احرقوا.. كتب التراث! | مجلة المجتمع

العنوان يوسف إدريس يقول: احرقوا.. كتب التراث!

الكاتب أحمد محمد عبد الله

تاريخ النشر الثلاثاء 15-يناير-1974

مشاهدات 16

نشر في العدد 183

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 15-يناير-1974

الاتجاهات الحديثة في الفكر العربي المعاصر اتجاهات ملتوية، كثيرًا ما تشط وتبتعد عن مسار الحضارة الإسلامية، بل وتحاول جاهدة هدم كل قديم تنتمي إليه مرتكزات هذه الأمة.. وهذا الأمر جديد على ثقافتنا منذ أن اتصل طلاب العلم العرب بالعالم الغربي.. وحملوا ما حملوا من ثقافات أوروبا وتفاهاتها.. وضلوا الطريق في الاهتداء إلى الصحيح من السقيم، فخلطوا عملًا سيئًا كثيرًا بعمل صالح.. حتى انتهى دور الصالح في طغيان الفاسد.

 ونتيجة لاعتناق كثير من الكتاب لمبادئ أرضية فاسدة، وقيامهم بالدعوة إليها ظهرت هذه المؤثرات واضحة في أعمالهم.. فلا تكاد تقرأ لكاتب منهم حتى تتبين وجهته واتجاهه.

 ولعل المبادئ الشيوعية الماركسية كانت ذات حظ وافر وأسبق إلى أفكار أدبائنا من غيرها، حتى ظهرت طبقة كبيرة منهم، نقلت أفكار الملاحدة إلى الأدب العربي في أية صورة ينسجون على منوالها.. إن كانت قصة أو مسرحية، أو حتى شعرًا، وهذا الأخير حظي بعدد وافر من المتشاعرين.. وما أكثرهم!

 ثم كانت دعوتهم المشهورة إلى نبذ التراث كله وإلقائه في البحر أو إحراقه.. وكانت جلبة كبيرة وصخب شديد، أدى إلى صراع ودفاع وردود، وخفت حدته نوعًا ما وكادت تتلاشى، بعد أن يئس دعاة التقليد الناقل من الغرب.. وبحت أصوات أبواقهم.. ووجدوا أن لا فائدة من جراء ما يصرخون من أجله.. فسكتوا على مضض وإن كانوا يتحينون الفرص بين فترة وأخرى، ليعلنوا أحقادهم من جديد..

 أما المسلك الكتابي في القصة والمسرحية والشعر، فديدنهم ماض فيه.. ونقادهم يمدونهم في الغي مما يحتاجون إليه من ترويج وتمجيد وإبراز.. والشعب المسكين يقرأ الأفكار، فتارة يعض بنان الندم على اختفاء ما يفيد من قراءته، وتارة يضحك ملء شدقيه سخرية وهزؤا.

صرخة من جديد

 ومما يثير الاشمئزاز حقًا، أن يظهر على الناس رجل يفضح معلوماته في مقابلة صحفية.. فالدعوة والتمذهب شيء والحديث شيء آخر.. ولا يملك القارئ الواعي إلا أن يعيد القراءة من جديد، ليتأكد أن قائل الكلام الأول هو منشئ الكلام الأخير.. فطابع التناقض واضح وضوح الشمس.. وافتقاد رابطة الفكر بارزة من خلال الحديث المبعثر.. وضحالة فهم الكاتب للإسلام تبدي سوءة معاملته، وتصمه بالتعالي دون أن يملك نواصي الارتفاع.. إلى جانب الابتكار العظيم الذي يضيفه الكاتب إلى معلومات الناس!!

 وما دعاني إلى هذا الحديث مقابلة أجريت مع الكاتب المصري اليساري «يوسف إدريس» في مجلة البلاغ البيروتية.. ضمنها ما ذكرناه قبل قليل.

 وأقول إنه عندما ينتهي القارئ من قراءة المقابلة.. يجد أنه خرج بشيء اسمه «العبث»، لأن الرجل لا يملك ناصية فكرة صحيحة، ومن هنا تجمع الهذر على لسانه، فأطلق ما شاء له إطلاقه من التهم، ورمى الواقع كله بالجهل.. ليكون هو الوحيد الرجل العالم المغمور!!

تراثنا تخريفات وزخرفات لغوية!

 ومن ضمن الأسئلة الموجهة إليه، سؤال عن دور الكاتب الصحيح.

 وهنا أفرغ الكاتب مجهوده في تعريف المجتمع العربي وجهله.. ثم قفز إلى التراث ليقول فيه: «فالتراث سخيف، وليس فيه شيء للقراءة». وليثبت تفاهة التراث يقول: «أنا قرأت عشرات كتب التراث، ولم ألمح فيها فكرة واحدة، باستثناء بعض الكتاب أمثال الغزالي وابن رشد»، وعلى هذا فهو يقرر ويقول: «يجب أن نحرق كتب التراث، لأنها كلها تخريفات وزخرفات لغوية!»

 هذا هو رأى الكاتب الكبير في التراث.. ولا أدري كيف يسوغ له الحديث بهذه الجرأة المتناهية.. إلا إذا أدركنا أنه يحفظ هذا الكلام عن ظهر قلب، من معلميه وأساتذته الذين سبقوه في هذا المضمار.. فكرر مقولاتهم، وأعاد سبك دعواهم بكلمات هابطة هبوط أخلاق الكاتب نفسه.

 وأضحك من أعماق نفسي.. عندما يقول إنه لمح بعض الأفكار في كتابات الغزالي وابن رشد، على حين لم يجد أي أثر أو أية فكرة في كتب التراث الأخرى.. وجل كتابات الغزالي وابن رشد -كما نعلم- في الفلسفة!!

 ثم نعود إلى آثار يوسف إدريس، لنجد أنها مجهولة ولا حظ لها من الذيوع.. اللهم إلا ما يقوم به أنصار المذهب الماركسي في الكتابة عن أعماله كسبيل للترويج، أو تتعاون السينما معه -مغامرة- لإخراج قصة من قصصه، لاحتياجها إلى الصورة الجنسية الهابطة، والانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه السينما اليوم، ولحاجتها لمثل هذه الكتابات وجدت بغيتها -بعد كد ونصب- في كتابات يوسف إدريس!!

 هذا هو الذي يدعي سخف التراث ويطالب بإحراقه.. وأتساءل كثيًرا حول هذا الحديث.. هل جهل الرجل بالتراث هو الذي حدا به إلى هذه الدعوة، لعدم تمكنه من فهمه فثار عليه؟! أم أن مستلزمات الفكرة الهدامة الملحدة التي يحملها، تملي عليه مثل هذا الهذيان الذي يردده؟!

 لا غبن إذا قلت إن الأمر الثاني في المقدمة.. والأول متوفر فيه دون كلفة.. وأحب أن أقول:

 إن الأبجدية التي يكتب بها هذا الكاتب الدعي.. إن هي إلا جزء من ذلك التراث. فهل يملك الكاتب أن يقدم لهذه الأمة فكرًا بغير هذه اللغة؟! إن اللغة هي أم هذا التراث الذي يطالب الكاتب بإحراقه.. فهل يتخلى -يا ترى- عن الكتابة بهذه اللغة أيضًا؟!!

 ويقول إنه قرأ عشرات كتب التراث ولم يجد فيها أي شيء للقراءة!!

 فعلى فرض أنه صادق في قوله إنه قرأ عشرات كتب التراث، فهو إذن قد أخذ عصارتها ثم أنكر ذلك عندما خط قلمه، واسترسل في غيه، ولذلك قال إنه لم يجد فيها أي شيء للقراءة.. فهل -يا ترى- نجد شيئًا نقرؤه في أعمال الكاتب الكبير عوضًا عن التراث؟!!

 ومن ثم فهو يدعو إلى أن «نبشر بالقيم الجديدة والإنسان الجديد، المتخلص من كل «المثبطات والمهبطات» التي تبقي الإنسان العربي أعرج فكريًا، بينما العالم يتقدم». ويقول بعد ذلك: «ولكننا أمة لها حضارتها وتاريخها، ولكن أكلها العفن وأكلها الإنتاج القبيح!».

 واسمحوا لي أن أقول إنني أتضايق كثيرًا من رجل لا يحسن التثبت في حديثه، وينسى كثيرًا ما يقول.. فهذا الكلام من قبيل الهذر الملول.. وأمامك ما ذكرت، ولك أن تحكم بمطالبته بإحراق التراث، وعودته للحديث عن حضارة هذه الأمة وتاريخها.. ولا أعرف من أين يستمد حضارة هذه الأمة وتاريخها.. ثم يعلن عن حقده المستكن للتراث مرة أخرى في سبه البشع وتطاوله المزري!

 ومعذرة -أخي القارئ- إن لم أتطرق إلى ثنايا حديثه.. فلا أظن أن حصيفًا تمر عليه مثل هذه التفاهات، دون أن يحيط بأبعادها ويستشف معانيها.

 

الثورة الثقافية

 ويسأله المحاور من كيفية إمكان تحقيق قيام ثورة ثقافية.. فيطالب بعقد مؤتمرات ثقافية لمناقشة وضع الإنسان العربي اليوم، وطغيان السلفية والتراث عليه، ولاكتشاف مثل عليا جديدة. فهل نعجب من هذا الحديث في اكتشاف مثل عليا جديدة للإنسان العربي، وتحريره من طغيان السلفية والتراث عليه.. وهو الذي طالب منذ البدء بتحريره من كل «المثبطات والمهبطات»، وطالب بإحراق التراث لخلوه من أي شيء ممكن ونافع؟!

 

الدين الديالكتيكي

 وحول الدين وأثره، سأله محاوره فأجاب: «الدين الإسلامي دین نقاش، دين ديالكتيك، ولكنهم جمدوه: الأتراك والإخوان... إلخ.. حتى أصبحت حياتنا تقرف.. وتقتل!».

 ولم أكن أدري قبل هذا اليوم، شدة تدين الرجل وخوفه على الإسلام وغيرته عليه.. حتى أفصح بهذا المنطق العذب الذي يقطر ثورة وغيرة.. فالإسلام منطلقه وهو دين «ديالكتيك».. لكن واأسفاه.. لقد جمده الأتراك والإخوان، واستغلق على الكاتب فهمه.. فلم يعد بمقدوره أن يستفيد منه بعد أن جمد وانتهى!

 وهو يفهم أن الأتراك والإخوان قد جمدوا الدين الإسلامي، لأن اطلاعه الواسع العميق دله على ذلك، فمن حقه أن يطعن في هذا وذاك.. وهو الرجل الأريب والأديب الذي يعرف دينه حق المعرفة.. ولكن الجهلة لعبوا به فأضاعوه وجمدوه، وحولوا حياة الكاتب المسكين إلى «قرف.. وإلى جحيم قاتل!»، ومرحبًا أيها العلامة ب «إسلامك الديالكتيكي!».

طقوس الاشتراكية

 يقول مجري الحوار: «يوسف إدريس: تربيت تربية اشتراكية «واقعية» فلماذا لا نجد أثرها عميقًا في أدبك؟»، وهنا يرفع الكاتب رأسه ليعلن أنه نشأ في ظل ديكتاتورية الواقعية الاشتراكية، لكن رؤيته السليمة للفن الاشتراكي الثوري، أنقذته من الضياع في متاهاتها!! ويعلن ثورته على الاشتراكية لعدم التزامها فيصرخ قائلًا «ولم تؤذ الاشتراكية إلا حينما تحولت إلى طقوس كالطقوس الدينية! وتحولت مقولات لينين وستالين إلى آيات كأنها منزلة من السماء!».

 وعلى هذا فهو حزين جدًا لتطور الفلسفات الرأسمالية، في حين بقيت -كما يقول- الفلسفة الاشتراكية حيث وضعها ماركس! ويرى أن روسيا بدأت في الآونة الأخيرة، تتبع فلسفة جديدة عما كانت عليه هذه الفلسفة أيام لينين.. ولا أدري ما يعنيه حقيقةً من اتباع روسيا لفلسفة جديدة، إلا إذا كان يقصد تقبيل روسيا الاشتراكية كف أميركا الرأسمالية!! ولك أن تفسر ما تشاء من حديثه، فالرجل يعطيك خلاصة تجاربه، فهو كما ترى ابن روسيا البار، المشارك في ندواتها الثقافية، إلى جانب كتبه الرائجة في روسيا، وازدياد الطبعات والتوزيع، بعد أن رزق بمترجمة روسية، تنقل أعماله وتشهره هناك، في بلد الدم الأحمر المتجمد على الثلج الأبيض!!

 وأراني قد أثقلت عليك -أيها القارئ- وما كان لي أن أحملك هذا المجهود المضني، لولا حرصي على أن أقلب أوراق الأدعياء.. بعد أن كشفوا أنفسهم أمام الناس.. فرأيت أن هذا يعطيني مزيدًا من الحق في أن أعطي توضيحًا لفكرهم.

 

الحرية المطلقة

 وفي سؤال عن مسرحياته واتهامه بالحرية الفوضوية.. أجاب: إنه لا ضرر من الحرية الكاملة إطلاقًا.. وما يعنيه بالحرية المطلقة لا يخفى.. فهو يساري أصيل يفهم حدود دعوته وصنعته فيقول: «أنا أعتبر أن الحد من الحرية تحت أي شعار كان، يحول الإنسان إلى مجرد عبد، ويحذف فيه النوازع اللااستعبادية! ألم يقل عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ لقد كان عمر يقصد بقوله هذه الحرية المطلقة!».

 نعم هكذا يرى المفسر الكبير، والفاهم العميق للتراث الذي يطالب بإعدامه.. ألم يقل إنه لم يجد فيه أي شيء للقراءة.. وإنه سخيف.. فهذا مقدار فهمه للتراث الذي يطالب بإحراقه!

 ولم تفت محاوره هذه اللفتة فوضع بين قوسين «يبدو أن التراث يسعف الدكتور بين الحين والآخر!».

الكاتب نبي العصر!

 ويسأله عن جيل الكتاب الشباب.. وبعد تقدمة من إجابته على السؤال، يقول: «الكاتب الحقيقي هو في رأيي من يأتيه المكتوب كاللعنة، أو كالرسالة التي تفرض نفسها عليه فرضًا. إن الكاتب هو نبي العصر الحديث، وكل الأنبياء كانوا كتابًا».

 هذا الكلام ما الذي يتبادر إلى الذهن منه.. عندما نقرأ أن الكاتب الحقيقي هو من يأتيه المكتوب كاللعنة، ألا ترى أنه أصبح شيطانًا فجاءته اللعنة تسعى! وأية لعنة هذه التي يقصدها؟ وهل سبق له أن تعرض لهذه اللعنة فوصمته فعرف أنها طابعًا يخص الكاتب الحقيقي أو سمة بارزة من سماته؟! إن الكلام لا يحاسب عليه أحد.. وإن الادعاء زهو يجعل قائله في نظره كبيرًا، ويبعد عنه حقارته التي يراها به الناس.. فيظن -جهلًا وحمقًا- أنه مبدع مبتكر لألفاظ لم يستطع غيره الإتيان بها. فهنيئًا للمبدع المخترع عباراته وألفاظه الطيبة!!

 كما يرى أنه نبي.. يقدم للأمة النصح.. أفي كلامي هذا مغالاة؟!.. ألم يقل إن الكاتب هو نبي العصر الحديث.. أليس هو كاتب كما يراه الناس أيضًا؟!.. فإذن النبوة في دمه ما دامت تسري على الكتاب.. مهما كانت النبوة، فهي شيء مشاع كما تعلن الاشتراكية الملحدة في إشاعة كل شيء.. كما يعتقدها الكاتب.. فلا بأس إن كان الاتجاه الذي يذهب إليه الكاتب يحتقر النبوات، فما من ضر عليه، وهو المجدد الخارج على مقولات لينين وستالين التي تجمدت ويأتي بجديد.. فيقبل النبوة في صورة كاتب.. ما دامت مشرفة لحاملها.. ولا يهم أن يكون نبيًا من أي صنف.. فها هي النبوة الحمراء تبرق بين عينيه وتتخايل له.

 ويقول: «وكل الأنبياء كانوا كتابًا»!

 هل نعرض عن هذا الكلام جانبًا، ونسلم بثقافة الرجل الواسعة التي عبر خلالها كل عصور الحضارات والأزمان، حتى أدرك وبكل فهم ووعي ويقين، أن كل الأنبياء كانوا كتابًا.. فهو كاتب يجاري هؤلاء الأنبياء.. وقد تفسر حسبما يشاع من المذاهب الرمزية، أن كل الأنبياء كانوا كتابًا على رأي الكاتب الكبير.. ما دام يؤمن بشيء اسمه «نبوة»، فلا بأس أن يكون قد قصد بذلك ماركس ولينين وستالين وأشياعهم.. فهم أنبياء كتاب.. وهو نبي جديد لأنه كاتب!

 عفوًا قارئي العزيز.. إن كثيرًا من الغثاء هو الذي تحمله الصحف اليوم، والنادر والقليل هو ما يمكن أن يرد إلى حقيقة النقاش الموضوعي والعلمي.. فبريق الأسماء ما عاد يلتفت إليه، بعد ما عرف أنه بريق مزيف مأخوذ من أشعة مضرة.

 وكفى هذا الذي لخصته، وإلا فالغثاء الوارد في المقابلة كثير كثير.. وما يرد في غير هذه أكثر وأكثر!

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

ثقافة: (العدد 814)

نشر في العدد 814

14

الثلاثاء 21-أبريل-1987