العنوان يوم في حياة مدينة توزلا الحزينة!
الكاتب أسعد طه
تاريخ النشر الثلاثاء 27-أبريل-1993
مشاهدات 9
نشر في العدد 1047
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 27-أبريل-1993
توزلا «البوسنة والهرسك»- أسعد طه
الرابعة صباحا ركبنا يصل إلى توزلا التي بدأت تتململ في فراشها الخشن استعدادًا ليوم جديد.
بعدها بساعتين كان نزلاء الطابقين الأولين من فندق بريستول يتهيئون لتناول إفطارهم بمساعدة الآخرين، بعد أن أفقدتهم الحرب الملعونة إحدى أطرافهم.
شباب في عمر الزهور أزواج وأبناء وآخرون ما زالوا يتأرجحون بين سن الطفولة والشباب، وغيرهم يتوسطون خانة العجائز جمعتهم كلهم جبهات القتال ضد العدو الذي جاء ليغتصب الأرض والعرض، يحملون بنادقهم ومسدساتهم من طراز مضى عليه الزمن ليواجهوا بها أحدث ما أفرزته مصانع السلاح في صربيا «وروسيا»، وكانت النتيجة الطبيعية هي سقوط العديد منهم بين قتيل وجريح فيما العالم يصر على إصدار قراراته الورقية في مواجهة ترسانة السلاح الصربية.
أمام الفندق أطفال صغار يحيطون بكل زائر وغريب (والغريب هذه الأيام إما صحافي -غربي بالطبع، وإما من جنود القوات الدولية) يسألونه دينارًا يشترون به كسرة خبز وعلامات الفقر لا يمكن رصدها فقط على ظاهرة الأطفال الذين يتسولون، فهي موجودة بالفعل في مناطق عدة في العالم، ألا أنها تمتد لتشمل معالم الحياة في هذه المدينة الحزينة التي يبلغ متوسط دخل الفرد فيها حوالي ماركين في الشهر في ظل نقص شديد في المواد الغذائية لمدينة يسكنها مائة وعشرون ألفًا أضيف إليهم ثمانون ألفًا آخرون من اللاجئين، وتستقبل اليوم عدة آلاف من أهالي سربيرينتسا، ويدور الحديث الآن حول تهجير ثلاثين ألفًا من أهالي شرق البوسنة إليها، واستغل ذلك جنود القوات الدولية المتواجدون في توزلا والمستأمنون وعلى أراضي المسلمين وأعراضهم، فراحوا يعيثون في الأرض فسادًا مستغلين أصحاب النفوس الضعيفة الذين يساعدونهم على الوصول إلى مبتغاهم الحرام.
ويبدو على توزلا للأسف مظاهر ضعف التزامها الديني إلى حد أنها على غير كل المدن البوسنية ظلت حوالي خمس سنوات دون دار للإفتاء أو المشيخة الإسلامية، ويعيد البعض أسباب ذلك إلى تحكم الشيوعيين في مقاليد الأمور في توزلا على مدار السنوات السابقة وحتى الآن، ويفسر ذلك بأن منطقة توزلا هي منطقة صناعية يسكنها العمال الذين كانوا فريسة سهلة للاستغلال.
وفي توزلا تشعر بحق أنك في مدينة تابعة لدولة اسمها البوسنة والهرسك؛ فالوجود الضئيل للكروات ومثيله الصربي لم يؤد إلى وجود خلافات أو صراعات بين الأطراف المختلفة، ولذلك ارتفعت الأعلام البوسنية وحدها فوق المؤسسات والبنايات الحكومية وتداول الناس العملة البوسنية الجديدة وعمل رجال الشرطة على إضفاء المزيد من هيكلية الدولة على المدينة فيما قبع في منتصف المدينة الثكنة العسكرية الخاصة بالقائد العام للمنطقة كلها.
وفي المستشفى الرئيسي للمدينة التي تعرضت من قبل لقصف صربي لجبر مديرها على نقل قسم الأطفال بالذات إلى الدور السفلي والأدوار المخصصة للمخابئ استقبلتنا «نورا» ذات الثلاثة أعوام بابتسامة واهية تلخص عذاب أمة بأكملها.
تمددت نورا على سريرها وقد لفت الأربطة قدمها اليمنى، وحاولنا تجاوز الابتسامة إلى الحديث، فالطفلة فقدت -كما كل رفاقها في نفس الحجرة- والديها في مذبحة «تسيرسكا» لكنها تصر على انتظارهما وتعلن غضبها لتأخرهما في زيارتها، ومع «نورا» كانت نماذج أخرى من الأطفال الجرحى الذين يرقدون بهدوء في أسرتهم على أمل أن يأتي الوالدان الذين اختطفت الحرب الصليبية الجديدة أحدهما أو كليهما.
أسواق المدينة خاوية إلا من البعض الذي راح يبيع ما لديه أملًا في الحصول على مال يمكنه من شراء الأطعمة النادرة الوجود؛ ولذلك بوسعك أن تجد أجهزة كهربائية أو آلات أو معدات أو ملابس أو غيرها من البضائع بأسعار رخيصة للغاية، ويمكن أن ترى «قهر الرجال» في عيون أولئك الذين اضطرتهم الحرب لبيع أثمن ما لديهم لشراء لبس لطفلة أو كسوة لطفلة.
مع غروب الشمس كانت المدينة قد نصبت من نفسها مأتمًا كبيرًا فلقد كانت على موعد مع وصول أول دفعة من اللاعبين القادمين من المدينة المحاصرة سريبرينتسا.
دخلت سيارات وشاحنات الأمم المتحدة المخصصة لنقل البضائع وهي مكتظة عن آخرها بحوالي ألفين وستمائة امرأة وطفل وشيخ. كانت شحنات بشرية قابلة للانفجار. العجوز ذات الثمانين عامًا التي لا تقوى على الحراك، والطفل الذي فقد إلى الأبد عينيه والوليد الذي لا يجد حتى في صدر أمه ما يبقيه على قيد الحياة والمرأة الثكلى أو الأرملة أو التي لا تعلم عن زوجها أو ابنها شيئًا بالمرة أنه على جبهة القتال أو تحت الأرض، هؤلاء الآلاف الذي امتهنهم المجتمع الدولي بعد نقلهم بهذه الطريقة المهينة كانوايتسترون بأسمالهم وكأنهم خارجون من مغارة جبلية عاشوا فيها أعوامًا.
وإذا تذكر المرء أن هؤلاء لم يكونوا فقراء وأنهم أصحاب أموال وعز، وأن من بينهم المثقفين وأصحاب المراكز العلمية وأنه كانت لديهم بيوتهم الخاصة وسياراتهم وأملاكهم، وإذا وعى شعورهم بالخيانة من قبل العالم كله كان لا بد أن يبكي.. ربما لتغسل دموعه ذنوب أمة خذلت أبناءها. ومن الشاحنات أيضًا خرج الجرحى والمقعدون الذين لم يجد بعضهم رباطًا طبيًّا يلفه حول جرحه.
تنتهي مراسم العزاء واستقبال هذه البقايا الآدمية.. يدخل الليل توزلا لتبدأ معاناة جديدة.. فيما نحن نرتشف آخر ما تبقى من كوب الشاي أمام المدفأة والتلفاز، ونهرع قبل أن ننام إلى أطفالنا نتأكد من أن الأغطية تلفهم من كل جانب، فيما في توزلا كما المدن البوسنية سيبقى الأطفال دون غطاء أو حطام.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل