; «أو مخرجيّ هم» | مجلة المجتمع

العنوان «أو مخرجيّ هم»

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 11-مايو-1982

مشاهدات 14

نشر في العدد 570

نشر في الصفحة 42

الثلاثاء 11-مايو-1982

إخراج الدعاة إلى الله من ديارهم سنة من سنن الله في مسيرة الأنبياء والصالحين.

«لم تكن الهجرة، وترك الديار، والخروج من المال، ومفارقة الأهل والولد بالأمر المفاجئ لرسول الله . فمنذ أن خوطب بهذا القرآن، وتنزلت عليه آياته البينات، كان يعلم ثقل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال، ومنذ أن سمع من «ورقة بن نوفل» قوله: «لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي». كان يعلم أن ما جاء به- وهو الذي قضى في قومه أربعين عامًا- مخالف لما ألفوه: ووجدوا آباءهم عليه أن ما جاء به الأنبياء من قبل، وما جاء به محمد صلوات الله عليه هو عملية التغيير التي تستدعي بالمقابل أن يقف في وجهها الكبراء والعظماء الذين ألفوا نمطًا معينًا في العقيدة والسلوك، وليس من السهولة التسليم بغيره.

ما كان رسول الله ﷺ ممن اطلع على قصص الأولين: أو سمع بسيرة المرسلين، وبما لاقوه من أقوامهم ولذا؛ كان سؤاله لورقة: «أو مخرجي هم؟».

وإن نظرة يلقيها رسول الله ﷺ على سيرة حياته في قومه قبل البعثة يرى من خلالها أنه مكرم فيهم، وقد اعترفوا أنه الصادق الأمين الذي يحتكمون إليه في أمر الحجر الأسود، وتودع عنده الأمانات، فكيف إذا ما جاءهم بخبر السماء، وبما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة أكان هذا يليق بقريش، وهم جوار البيت العتيق الذين نشؤوا على الوفاء؟

فتنطلق من فم رسول الله ﷺ معبرة عن دهشة رجل لم يعتد أن يقابل الإحسان إلا بالإحسان..«أو مخرجيّ هم»؟

لا يفوتنا هنا، وقبل أن نمضي مع سيرة المصطفى صلوات الله عليه وحياة أصحابه، أن نقف عند بعض قصص القرآن الكريم وهي تعرض علينا سببًا من أسباب إخراج النبيين من ديارهم منذ أن جاؤوا بأمر ﴿إلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ (الحج: 40).

فالإخراج من الديار يكون سببه عقيدة يرى فيها المجتمع المتخلف تناقضًا مع ما ورثه وألفه، أو يكون سبب الإخراج سلوكًا يلتزم به المؤمن يخالف سلوك الآخرين، وما اعتادوا عليه، واستمرأته نفوسهم، ولو كان هذا السلوك انحيازًا عن الفطرة، وتشويهًا للكرامة الإنسانية.

فالطهارة والارتفاع عن سفاسف الأمور، وتجنب السلوك المشين الذي أقره المجتمع أمر لا تحتمله النفوس الخبيثة التي غرقت في الفاحشة ورتعت فيها، فتأمر بإخراج الذين آمنوا، ومعاقبة الذي يتطهرون، ولا يفوتنا هنا أيضًا أن نشير إلى أن مجرمي هذا الزمن يزعجهم من المؤمنين الذين خالفوهم عقيدة وسلوكًا ما أزعج سابقيهم من المجرمين، فيمضون على نهجهم في إخراج الذين قالوا ربنا الله.

فهل أدرك الذين ساروا في طريق الدعوة إلى الله هذه الحقيقة وحسبوا حسابهم منذ الخطوة الأولى، إن عملية التغيير ليست بالأمر السهل، وإن طغاة زمانهم لن يتركوهم- شأن الطاغين في كل زمان ومكان، أن يصححوا النهج، ويرسوا قواعد الخير، وأن لحظة الإخراج هذه التي استفسر عنها رسول الله ﷺ بقوله: «أو مخرجيً هم» يمكن أن تحين في كل وقت، فكان عليهم أن يستعدوا لها، ويهيئوا أنفسهم لاستقبالها، وأن يكونوا متأهبين للانخلاع عن الأهل والوطن، والمال والولد إذا أدرك المسلم هذه الحقيقة، قبل أن يراها في عالم الواقع وإذا استعد لها قبل نزولها به، لم ير فيها أمرًا مفاجئًا ولا غريبًا.

إن مما يدور في أذهان المجرمين عندما يريدون التخلص من الذين آمنوا «القتل، والسجن والإخراج»

﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال: 30).

هذه الأمور الثلاثة هي سمة مشتركة في تفكير المجرمين الماكرين على مدار الزمان، ولا نتساءل طويلاً: فهل اختار مجرمو هذا العصر غير واحدة من هذه الثلاثة للمكر في الذين آمنوا ليثبتوك، فإيداع المؤمنين في السجون، وتعريضهم للموت البطيء والسريع، أمر يتناقله المسلمون في شتى بقاع المعمورة.

أو يقتلوك: فالاغتيال في الطرقات والمنازل وبين الأهلين لا يزال يسمع به المسلمون يقع على إخوانهم في غير واحدة من بلاد الدنيا أو يخرجوك: فإن تهيأ للمؤمن سبب الهجرة لوحق وأوذي، فللمجرمين قديمًا وحديثًا أسلوب واحد في ملاحقة المؤمنين وتنغيص عيشهم..

رأى رسول الله ﷺ ما ينزل بأصحابه من البلاء فدعاهم للخروج إلى أرض الحبشة، فرارًا بدينهم، وخوفًا من الفتنة فهل كان هذا يرضي المشركين، أم أنهم أرسلوا خلفهم، وكأنهم أحسوا بالخطر الذي يمكن أن يأتيهم ولو كان المؤمنون في أرض بعيدة؟؟

لقد لحقوا بهم إلى أرض الحبشة يغرون بهم، ويفسدون عليهم حياتهم، ويحرضون ملك الحبشة متهمين المؤمنين بمخالفة دينهم ودينه، وتسفيه عقيدتهم، فطلبوا منه تسليمهم لهم ولكن الله ألهم النجاشي غير ما أرادوا فعادوا خائبين.

وكمْ نسمح عن مجرمي هذا الزمن الذين لم يهدأ لهم بال، ولم يقر لهم قرار، وهم يرون المؤمنين في أرض الله الواسعة، فيحرضون عليهم، ويستعدون، ويكيدون لهم، ويغرون بهم، ويلصقون بهم مختلف التهم، وشتى المعايب، والأمثلة من الكثرة والوضوح مما لا يخفى على أي متتبع لما يجري في كثير من بلاد المسلمين وأسلوب المجرمين قديمًا في إخراج المؤمنين وتهجيرهم، وفي الكيد لهم، والتآمر على حياتهم، كما فعلت قريش في أكثر من محاولة لاغتيال ﷺ. يتكرر في هذا الزمن وتتناقل الدنيا عجائب عن خستهم وغدرهم بالمؤمنين، وقتلهم رجالاً ونساءً.

وسنة الله في خلقة ماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، فإن التهجير والإخراج يتكرر في حياة المسلمين ولا سيما الدعاة- فما لم يكن المؤمن قد حسب حسابًا للإخراج من الديار، ولمكر المجرمين وكيدهم، وقد استعد لمثل هذه الظروف، يكون قد غفل عن حقيقة من حقائق الدعوة خلال مسيرة الأنبياء، وخلال سير الدعوة الإسلامية.

فهل كان في الحساب أن «أو مخرجيّ هم » تتكرر في كل زمان ومكان، طالما أن هناك إيمانًا وكفرًا يصطرعان؟؟..

«ي البشيري»

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

دروس من الهجــرة وما سبقها

نشر في العدد 1

769

الثلاثاء 17-مارس-1970

دروس للمهاجرين المعاصرين

نشر في العدد 2100

37

السبت 01-أكتوبر-2016