; إحياء فقه الدعوة: آفاق الهمم السامية «2» | مجلة المجتمع

العنوان إحياء فقه الدعوة: آفاق الهمم السامية «2»

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الثلاثاء 22-ديسمبر-1987

مشاهدات 18

نشر في العدد 848

نشر في الصفحة 42

الثلاثاء 22-ديسمبر-1987

حكمة الدعاة وعدل القضاة.. معًا

وآداب الشرع من بعد الفطرة والبديهة تضيق عليك، وتحدو بك نحو إتمام بل الأمر صريح أن «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».

ولذلك استثناهم الشافعي أن تسري عليهم بسبب عثرة يعثرونها عقوبة تعزيرية يقدرها القضاة.

«وحكى الماوردي في ذوي الهيئات وجهين:

أحدهما أنهم أصحاب الصغائر، دون الكبائر.

والثاني: أنهم الذين إذا أتوا الذنب ندموا عليه وتابوا منه.

ونص الشافعي على أنهم الذين لا يعرفون بالشر».

وتفسير الشافعي أقرب إلى مقصود الحديث دون شك، وشروط الانضمام إلى صفوف الدعوة، أو شروط قبول إعانة العين، قد تجاوزت مجرد هذا الستر وشهرة الخير إلى حالة من اجتماع طبائع المروءة، ورفعة الهمة، ونيل المقاصد، والإقالة لمثل هؤلاء أولى وأوجب.

أم تريد أن ينجو الأشراف من تعزير القضاة لیكسر نفوسهم تعزيز الدعاة؟

إن الغلظة لم يشر عليك بها الناصحون لمعاملة مثل هؤلاء الذين تدلك فراستك أنهم قد يتوبون من قريب، لكنها الرد المناسب لأنفار يقعون في هاوية الفتنة، فما يزالون في وساوسهم من بعد، حتى يخرجوا إلى «تقبيح المحاسن، وصدع الملتئم، وحل المعقود».

وحتى هؤلاء ليسوا سواء، وعليك أن تنتبه لنفسك، فتعتدل إذا دعتك الحماسة لتطرف في التعامل مع المخالف، ما لم يكن ملحاحًا جريئًا في الهجوم، إذ الاعتدال يوجبه أكثر من نظر فقهي واحد.

فمن ذلك: قاعدة التأول، وهي من القواعد الفقهية الصحيحة التي سدت أبوابًا من الأذى، أن تتأول للمخطئ، وأنه ضحية شبهة غير متعمد، مجتهد غير منحرف، ركبته ساعة لغفلة، غير مبيت للأمر، ولقد اقتتل الصحابة رضي الله عنهم فتأولوا لهم، والقضاة يجتهدون في درء الحدود بالشبهات، واحتاطوا أبعد الاحتياط في تكفير المسلم ما لم يكن قد أتى أمرًا لا يمكن صرفه عن معنى الكفر، وأشياء من هذا الجنس تجعل تأنيك ورفقك ليس بغريب على الحس الفقهي.

ومن ذلك: ترك مجال التوبة لمرتكب الإثم، وفتح باب الأوبة للمخالف، لكنك إن قطعت كل الجسور التي بينك وبينه: ملكه اليأس، أو حكمه الانتصار للنفس، فاترك له معبرًا ما أمكنك.

ومن ذلك: سد الذريعة، فإن النصوص الشرعية التي تندب لبعض الخير يتعطل العمل بها في حالة تولد ضرر عنها، والقرارات التنفيذية في الدعوة الإسلامية العاملة شأنها أهون، في وضوح لا يحتاج إلى جدل وإتيان ببرهان، ولربما أدى الجمود في تطبيقها إلى ضرر لم يكن مقصودًا حين اتخاذها، وعلى الداعية أن ينبه مسؤوليه إلى استثناء الحالات الخاصة، وأن يجذب اللجام، لا يرخيه، إلا تسبق حماسته حماسة قادته.

ومن ذلك: جواز الجمع بين المصلحتين والخيرين، فتقرن بين مصلحة الدعوة في إخراج المخالف عن صفها، حفاظًا لوحدتها، وابتعادًا عن جدل يعوق تسارع انطلاقتها، وبين مصلحة المخالف، في احتمال أوبئة إذا رفقت به وأصغيت لبعض الحق الذي معه، مما أساء التعبير عنه وجنح عن الصواب إذا ابتغى الدلالة عليه.

إننا قد ننسى البديهيات أحيانًا في غمرة التفتيش عما يحل المعضلات، حتى لنكاد نجهل منطق الجمع بين المصالح في زحمة البحث مع الفقهاء عن المخرج عند تعارضها.

في التجارب على مستأنف

فذلك خبر سكينة القلب في الصدر الواسع، وبها يؤذن لداعية الإسلام أن يفهم تجربة سلفه، ليطورها، ويدفعها إلى خلف ينتظر.

فللناس في الماضي بصائر يهتدي            

عليهن غاو، أو يسير رشيد

هكذا هي التجارب، بصائر هادية، تهبك الاتزان إذا أوقعك لغفلة في غواية، وترسم لك الطريق إذا أردت الصعود.

إنها علم أصيل، واضح في إشارته، قوي في برهانه، ولذلك زادك الشاعر فأوصاك أن:

اقرأ التاريخ إذ فيه العبر               

ضاع قوم ليس يدرون الخبر

إنه خير من قبلنا يصوغ خبرنا لمن بعدنا، فيريهم مدى اتعاظنا بالذي يرويه، ومن انقطع سنده وفقد الاتصال تاه وتخبط، بما يهدر من طاقته في محاولات فاشلة طرقت بابها زمرة سابقة فلم يفتح لها، أو بما صرف نظره عن علامات في الطريق هاديات إلى الغاية، نصبها له من اقتحم آنفًا.

ولذلك فإن الوعي يظل ناقصًا ما لم يكن إصغاء من طالبه القصص الرواد، والأصل أن:

كل ما علمك الدهر أعلم                        

فالتجارب علوم الفهم

وذاك أساس تبنى عليه مواعظ فقه الدعوة، ومجرى تنقل بك في أودية الانتفاع، يمنعك أن تتفلت لفلت الضياع، ويدع قضية الإسلام عزيزة بك، إذ أنت في مسالك الانسياب، هادئًا تارة، وتيارًا مجتمع الزخم تارة أخرى.

قم عاند الأصنام واهزر كبرها

وفي هذا ما يعيدك إلى الممارسة الجهادية من بعد سكينة الأخبات وهدوء الحلم، لتنتهي إلى معركة مراغمة لأعداء الله من بعد معركة مراغمة للشيطان بدأت بها السير.

وهي تسمى: عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له.

كما قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: ۱۲۰).

وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (الفتح: ٢٩).

فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال: إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان.. وفي رواية: ترغيمًا للشيطان وسماهما: المرغمتين.

فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه: يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين.

فصاحة الحزم المخبت

لقد أرسله وليد الأعظمي بيتًا فصلًا، يقضي بين تنافس الأخيار، إن:

أجدر الناس بالكرامة: عبد

                             تلفت نفسه، ليسلم دينه

ليس دون التلف، بل هو، بتمامه يوفى، وإن داعية الإسلام ليقرأ في حروف لفظ التلف معنى المراغمة واضحًا، فإن هذا العبد الكريم لم يستعجل حين قذف نفسه في المعركة، ولم يدفعه الشوق إلى الجنة نحو هجمة خاطفة تتفجر فيها دماء الشهادة، بل كايد وغايظ، وترك طريق التعب الطويل يستهلك نفسه ويمتص طاقاته، حتى إذا ذبل ونحل، وكان للمراغمة مستوفيًا: إذن آنذاك لجسده أن يستقبل ذبحة الصدر، إن لم تكن رصاصة الاغتيال إليه أسرع، فيذهب قدوة للأحرار، ومثلًا للنفس، الإنسانية حين تعلو، ويذهب الظالم متخبطًا، ومثلًا للنفس حين تسف وتسقل.

إنها مقدرة دعاة الإسلام على العطاء الدائم، كيف أنها حية أعمالهم وإن سجنوا، وكيف أنها تقود الناس أفكارهم وإن قتلوا، إن لم يكن لهم التمكين.

لا كثرة الأقوال، كلا، ولا نظم القصائد

إنه من الواجب أن تمد يد التغيير الإسلامية لهذه الجاهلية ومن الواجب إنكار منكرها، ومن الواجب الجهاد.

إن الدعوة الإسلامية لا تعادي ولا تكفر سواد المجتمع من المستضعفين الذين غررت بهم أجهزة الإعلام والتربية فألهتهم عن السجود وشجعتهم على إجابة نداء شهواتهم فكانت فيهم جرأة على الخطو وراء حدود الحلال، فإن فطرة هؤلاء سليمة، وأصل إيمانهم باق، ولكنه فرض تؤديه الدعوة حين تنكر على المستكبرين المتمردين على الفطرة، من الذين يحلون ما حرم الله، ويجثمون على صدر الأمة قسرًا وكرها، يقودونها إلى الإباحية، ويظلمون، ويفرطون في مصالح الأمة، وعن القرآن يبعدون.

لم يعرف دعاة الإسلام أنفسهم عطاشى الدماء، ولا قلوبهم فرحة بصدام، إنما الإسراف عند ذوي التسلط، ونحوهم تشير أصابع الاتهام. يمنعون الكلام، ويستأصلون الحرية، وينفردون بالناس: يكشفون عورات نسائهم، ويملئون بالإلحاد أدمغة أبنائهم، ويروجون لآراء العقول والفلسفات، فإذا نصح عاقل: سجنوه، أو اعترض داعية مسلم: أعدموه، كأن الصواب لهم محتكر، أو قد اشترى لهم آباؤهم الرقاب.

إن الحصار يقحم المحصور إقحامًا، وللداعية أعرف بنفسه إذ تحب الإقناع، والحوار، والجدال بالتي هي أحسن، في أناة رفيقة، ما لم يرتكب المتغطرس لجاجة في الغي، ويبالغ في الكبت، إذ حينئذ لا يقوى الكلام على حمل معناه، ويبقى شاخصًا منه مجرد مبناه، وتعود الخطب الرنانة هذرًا، ويكون الحزم طريقًا أوحد.

لما أطال ارتجال القول قلت له:

الحزم يثني خطوب الدهر، لا الخطب

إن ثقل وطأة أحزاب الضلال العلمانية ومجاميع الطغاة على صدر الأمة اليوم لمن أشد الكرب التي أرهقتها عبر تاريخها، ولقد نشأ عند الدعاة فهم لأوصاف المحنة ومسالك الخلاص، وتوطد رأي سديد، إلا أن خطط الأمس لم تستطع أن تعبر رؤية الحق تعبيرًا، ولم ينتصب الحزم للوعي ظهيرًا.

وللإسلام وضوح قديم وإرشاد أصیل أنطق الإمام البنا- رحمه الله- في المؤتمر الخامس، فانبرى يسأل أن:

«ماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويًا في كل شيء؟ شعاره القوة في كل شيء».

وأوضح أن الدعاة «لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا في قوة».

لم يكن ذاك ارتجال خطيب متسرع، ولا تصاعد حماس قائد مندفع، إذ عاد وأعلن ثانية في مذكراته إننا:

نحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعين على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها، حتى ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (سورة الأعراف: 89)

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

إلام ندعو وكيف؟ "2"

نشر في العدد 114

16

الثلاثاء 22-أغسطس-1972

العبد الحر!!

نشر في العدد 107

22

الثلاثاء 04-يوليو-1972

الأبرار الساكتون الهالكون

نشر في العدد 108

16

الثلاثاء 11-يوليو-1972