; درس في التفسير لسيد قطب: إن من البيان لسحرًا | مجلة المجتمع

العنوان درس في التفسير لسيد قطب: إن من البيان لسحرًا

الكاتب عبدالقدوس أبو صالح

تاريخ النشر الثلاثاء 06-ديسمبر-1988

مشاهدات 29

نشر في العدد 894

نشر في الصفحة 56

الثلاثاء 06-ديسمبر-1988

كان ذلك الدرس منذ زمن قديم ولكنه ما يزال ماثلًا في ذهني وكأني استمعت إليه في الأمس القريب.. وإني لأتذكره الآن بمقدماته التي دفعت إليه وبمحتواه ونتائجه التي نجمت عنه، إذ كان لهذا الدرس الفريد قصة لا تنسى!..

كنا في ذلك الزمن القديم طلابًا في كلية الآداب في دمشق عندما ترامى إلى مسامعنا أن الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- جاء مع وفد مصر إلى حلقة الدراسات الاجتماعية التي نظمتها جامعة الدول العربية وانطلقت مع زميلين من طلاب كلية الآداب لزيارة الداعية الكبير، ولنرجوه باسم الطلاب الإسلاميين أن يلقي محاضرة عن الإسلام على مدرج الجامعة. ولم نكن نعرف سيد قطب، ولم نر له صورة من قبل. ولما طرقنا باب غرفته طالعنا رجل في وجهه سمرة مختلطة بصفرة خفيفة، وقد نسق شعره في جعودة ظاهرة. وذهب بنا الظن إلى أنه ربما كان مرافقًا للأستاذ سيد قطب، فسألناه عنه وإذا به يجيبنا بتواضع شدید: «أنا سید».

ودلفنا إلى الغرفة نعرض رجاءنا على استحياء وتحرج فقد قام في أذهاننا أنه لن يستجيب لنا ونحن نفر من الطلاب لا تشفع لنا عنده معرفة مسبقة ولا توصية لاحقة، والرجل أمامنا شاحب الوجه ساهم النظرات ملازم للفراش من وعكة مفاجئة. ولكن سيد قطب ما إن سمع بما جئنا له حتى نسي مرضه أو تناساه فإذا به يرحب بما نعرض عليه في حماسة مشجعة. ثم يخيرنا في موضوع المحاضرة وفيما يجدر أن يتحدث عنه من جوانب الإسلام، ورجوناه أن يختار الموضوع الذي يراه ملائمًا فقال: ليكن موضوع المحاضرة عن ثورة الإسلام الاجتماعية. وحملنا الموضوع إلى مدير الجامعة، وكانت البلاد تعيش في ظل حكم عسكري عرف فيما بعد بعهد الشيشكلي. ولما سمع مدير الجامعة بعنوان المحاضرة المقترحة طار صوابه من الخوف والهلع، ولكنه أمام إلحاح وفد الطلاب وافق أن يدعى الأستاذ سيد قطب ليلقي درسًا في تفسير القرآن على أحد مدرجات كلية الآداب، وكانت مادة التفسير مقررة على طلاب قسم اللغة العربية فيها. 

وجاء يوم الدرس المنتظر، وامتلأ مدرج الكلية بالطلاب على مختلف نزعاتهم، منهم من تحدوه الرغبة في رؤية الأديب الداعية والاستماع إليه ومنهم من جاء ليثير الاضطراب والشغب في أثناء الدرس.

ووقف سيد قطب على المنبر في هدوء عجيب -وكنا أخبرناه بما عسى أن يكون من شغب المشاغبين– ثم ما لبث أن مد يده إلى جيبه، فأخرج نسخة من القرآن الكريم، ومضى يتلو قوله تعالى في سورة البقرة ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:261) إلى قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة:266).

وأخذ سيد قطب يفسر هذه الآيات ويبين ما فيها من إعجاز القرآن وبلاغته، وكان صوته الهادي الرزين يلقي سكينة على الطلاب، حتى خفتت الأصوات الهامسة، وخيم على الجميع صمت عميق وكأن على رؤوسهم الطير. وكنت مع زميل لي قد اقتسمنا بابي المدرج، ووقف كل واحد منا بين مصراعيه نرقب حركات الطلاب وفي عزم كل منا أن نسكت من تحدثه نفسه بالشغب، ولو اضطررنا إلى إخراجه من المدرج ولكن المحاضر الذي سحر المستمعين جميعًا أغنانا عن مثل ذلك.

كان سيد قطب يغرف من عبر القرآن وينهل من معينه العذب، وينتقل بالطلاب بين ظلال القرآن الوارفة، ويسمو بهم في آفاق إعجازه ومآرب سحره وروعته. وكان يعرض نظريته في «التصوير الفني في القرآن» وهو يفسر هذه الآيات المعدودات، فيحس كل منا، وكأنه لم يسمع بهذه الآيات من قبل!... وكان مما قاله سید قطب: 

«إن القرآن يعرض هنا صورة من صور الحياة النابضة المعطية الواهبة، صورة الزرع.. هبة الأرض أو هبة الله... الزرع الذي يعطي أضعاف مما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره... يعرض هذه الصورة الموجهة مثلًا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله... وعندما يصل التأثر الوجداني غايته بعد استعراض الحياة الفانية مثلًا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله دون أن يتبعوا ما أنفقوا منًّا ولا أذى وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة.. عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى... يرسم لهم مشهدًا عجيبًا، أو مشهدين عجيبين، يتسقان مع المشهد الأول مشهد الزرع والنماء، يصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله، والإنفاق المشوب بالمن والأذى، على طريقة التصوير الفني لآيات القرآن...

وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه وصول الأمر من رضى ورفه ومتعة، وما فيه من نضارة وروح وجمال، ثم بما يعصف به عصفًا من إعصار فيه نار... يقوم هذا المشهد العجيب بالإيماء الشعوري الرغيب، الذي لا يدع مجالًا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار من النار... وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من مبدئها إلى منتهاها... إنها جميعًا تعرض في محيط متجانس، محيط زراعي، حبة انبتت سبع سنابل... صفوان عليه تراب فأصابه وابل.... جنة ربوة فأتت أكلها ضعفين.. جنة من نخيل وأعناب.. حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير. 

وهنا تأتي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير... حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية... حقيقة الأصل الواحد وحقيقة الطبيعة الواحدة وحقيقة الحياة الثابتة في النفس وفي التربة على السواء... وحقيقة الموت الحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء إنه القرآن كلمة الحق الجميلة من لدن حكيم خبير».

وانتهى درس التفسير الذي تلقيناه من سيد قطب فإذا بالطلاب الذين كان الصمت مخيمًا عليهم ينطلقون فجأة في هتاف الاستحسان ويكون في مقدمة الهاتفين أولئك النفر من الطلاب الذين جاءوا ليثيروا الشغب، ولكن درسًا في ظلال القرآن، وساعة مع إعجازه ردهم من المعارضة إلى الإذعان ومن الشغب إلى الاستحسان. 

وعندما رأيت الطلاب يندفعون بحماسة بالغة ليحملوا سيد قطب على الأعناق إلى غرفة عميد الكلية لم أملك أن ترقرقت في عيني الدموع وأن أقول لصاحبي إن من البيان لسحرًا، ويردف صاحبي قائلًا: ولا سيما إذا كان هذا البيان في ظلال القرآن.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 10

86

الثلاثاء 19-مايو-1970

نشر في العدد 53

51

الثلاثاء 30-مارس-1971

نشر في العدد 11

62

الثلاثاء 26-مايو-1970