العنوان إشارات.. حرروا الظهور من السياط.. أولًا
الكاتب أحد القراء
تاريخ النشر الثلاثاء 27-أبريل-1976
مشاهدات 14
نشر في العدد 297
نشر في الصفحة 25
الثلاثاء 27-أبريل-1976
الأمة التي يرتفع فيها ثمن كل شيء ولا يرخص إلا الدم.. أمة بحاجة إلى تغيير أساسي في مواقفها جميعًا.. ومن عجب أن يرتبط هذا الرفض لأغلى شيء في الحياة بما يسمونه حركة التاريخ التقدمية.. معنى هذا أن التقدم يستلزم حصد الرؤوس وقطع الرقاب وفق الأسلوب الروبسبييري المعروف..
وليس هذا هو المهم، فما أكثر الخونة والرجعيين والواقفين في طريق الشعب المشروع صوب مطامحه وأمانيه.. الذين يستحقون العقاب.. المهم هو من بيده صلاحية تحديد المخلص من الخائن والتقدمي من الرجعي، قبل إنزال المقصلة على الرؤوس.. سيما وأن حركة التاريخ التقدمية هذه توصل إلى مراكز المسؤولية في كثير من الأحيان أصحاب الأذرع القوية لا العقول المفكرة، والانتماءات الحزبية والعصبية الضيقة لا الشعبية أو الجماهيرية الواسعة، ونزعات الطغيان الفردي لا العدل الجماعي الشامل؟ ومن ثم تجيء دوافع حماية النفس وسط تقابل غير عادل بين قلة تملك الحكم والمال والجاه والسلطان وكثرة لا تملك شيئًا.. إلا أنها لسعتها وامتدادها تمثل تحديًا خطيرًا للقلة الحاكمة المبررة بشعارات التحرر والتقدمية.
وبمواجهة هذا التحدي تلجأ هذه القلة إلى الإرهاب.. وليس كسفك الدم واسترخاص الإنسان تنفيذًا لهذا الهدف المريع وتحقيقًا لجشعه الذي يظل يتصاعد ويتصاعد مع الزمن، وبأسلوب طردي، کرد فعل دائم لاتساع نطاق التحدي وازدياد توتره بين الحاكم والمحكوم، وخلال هذا تشهد دائرة القلة الحاكمة نفسها تصدعات وانشقاقات تدفعها إلى تناحر حاسم على السلطة، لا يصل فيه ويضمن الاستمرار والبقاء إلا من يسفك دمًا أكثر.
ومرة أخرى يكون- الشعب- هو الضحية.. ويكون استرخاص الدم واحتقار الإنسان أشبه بالدوامة التي يجوبها الأدهى والأقوى، والتي لا تطحن في أعماقها المنشقين فحسب، بل تمتد وتتسع لكي تلتهم كل من يشك بعدم موالاته للسلطان الجديد.
لكن أخطر ما في هذه الجريمة، التي ألفتها أمتنا خلال عقودها الأخيرة فحولت أكثرياتها الساحقة إلى- نعاج- لا ترفع رأسها إلى فوق، وسمتها بطبائع القطيع.. إن عملية الحصد الجماعي هذه لا تقتصر على أولئك الذين تثبت فعلًا وبالأدلة المادية والبيّنات الملموسة، معارضتهم للنظام ورفضهم القاطع للانتماء إليه أو التعاون معه وهم كثرة ساحقة على أية حال.. إنما تمتد إلى أعماق السرائر وطوايا النيات لكي تحكم، بالظن والتخمين، على مصائر أناس أكثر عددًا، وتسفك- بالتهمة الخاطفة، دماء أفراد وجماعات.
وعندما يرفض الرسول عليه السلام أن يجرى مجزرة جماعية ثأرية شاملة في أعقاب فتح مكة لآلاف الرؤوس التي وقفت في طريق الدعوة طويلًا.. وطاردت أتباعها وآذتهم وشردتهم وقاتلتهم وجمعت عليهم الجموع.. ويسحب إحدى الرايات من القائد الأنصاري الذي أعلن عند مشارف البلد الحرام- اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، ويصدر، بعد قليل، عفوه- العام- في وضع كانت كل المبررات تتيح له أن يسترخص دم الكفار فيه، ويحصد رؤوسهم حصدًا باسم حركة الإسلام التقدمية وحتمية انتصار التوحيد على الوثنية.. عندما فعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ذلك كله، منح تاريخنا وتاريخ البشرية جميعًا- موقفًا- نادرًا إزاء التعامل مع الدم الإنساني واحترامه وحمايته من الترخص والتبذل والاحتقار..
في ظلال قيادة كهذه، وعقيدة سمحة كعقيدة الإسلام.. آثر المسلمون- بما فيهم المكيون الطلقاء- أن ينطلقوا لقتال أعدائهم في الداخل والخارج، مجاهدين فاتحين، مسترخصين دماءهم بإرادتهم واختيارهم الحر العميق.. الأمر الذي جعلهم يتفوقون على حركات الردة الخطيرة ويتحركون لوضع العالم بين أيديهم..
وما أعمق الفرق وأشده بين أمتنا وهي تنتمي لقيادة تعز دم أبنائها وتحميه وتكرمه فيختار هؤلاء أن يسترخصوا دمهم وهم يقاتلون- العدو- لتنفيذ أهدافها وبرامجها، وحماية فكرتها ونشرها في العالم وبين أمتنا نفسها وهي تخضع لقيادة تحتقر دم أبنائها، وتهدره وتضيعه، فلا يكون بمقدور هؤلاء، وقد أترع الخوف خلاياهم وملأ كل مساحات وجودهم، إلا أن يجبنوا أمام العدو ويفروا بين يديه، فعلام يسفكون دماءهم في سبيل قيادة قد تولت هي نفسها كبر هذه المهمة وملأت حياتهم إرهابًا ودماء؟
أن مؤرخًا صليبيًا- اشتراكيًا.. مسمومًا كبندلي جوزي- الأرمني- يرى في موقف الرسول- صلى الله عليه وسلم- ذاك مهادنة لأرستقراطية قريش، ورجعية وتآمرًا على مصالح الجماهير..
ويسأل أحد رؤساء محاكم- الشعب- التي تستخدم كأداة قانونية في الظاهر، لتنفيذ عمليات القتل الجماعية، عن المقياس الحقيقي للثوري المخلص، فيجيبه: بقدر ما يسفك من دماء، وبالسرعة التي يصدر بها أحكام الإعدام.
ونقرأ في معطيات الفكر التقدمي المعاصر عن- العنف الثوري- الذي لا يعدو أن يكون تبريرًا للقتل، وشهادة أيديولوجية لصالح أعداء الإنسان.
ويعلن زعيم تقدمي لأتباعه أنه سيجلس إلى مكتبه للفصل في مصير- الخونة وأن عليهم أن يلاحظوا حركة سبابته.. فإن اتجهت إلى أسفل فمعنى هذا القتل وإن انحرفت يمينًا أو شمالًا فمعناه الإفراج أو الاعتقال..
ويبقى موقف رسولنا، صلى الله عليه وسلم، بعد هذا كله، شرفًا للإنسان وكرامة لوجوده، وانتصارًا لحريته.. وتبقى أمتنا متأرجحة بين قيادة صالحة تعز دمها.. فتخرج إلى المعركة مسترخصة هذا الدم في سبيل أهداف أكبر.. وبين خضوع لقيادات طالحة تحتقر دمها، فتخرج إلى القتال جبانة مذعورة بعد أن أذلت نفوسها مناظر القتل الجماعي، والإرهاب وسفك الدماء..
هذا هو أحد مفاتيح قضيتنا في فلسطين ولن تكون مليون بندقية بقادرة على تحرير شبر واحد من الأرض على أيدي مقاتلين لا تزال آثار السياط مطبوعة على ظهورهم.. ولا تزال دماء إخوتهم وأصحابهم الذين قتلوا في الداخل تشدهم شدًا إلى الهزيمة والفرار.. إنهم غير مستعدين أبدًا.. أن يقاتلوا وجلادوهم في الداخل يقطفون ثمار النصر والهزيمة على السواء..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل